لصوص الكتب هل أصبحوا عملة نادرة؟

25-06-2007

لصوص الكتب هل أصبحوا عملة نادرة؟

قصة طريفة لكنها قد تختصر الكثير من جوانب هذا الموضوع.. تخيلوا أنه قد تم القبض في أحد معارض الكتاب الشهيرة، على لصّ وهو متلبس بسرقة عدد من الكتب الثمينة.. وبينما هو في حالة تشبه الانهيار، تداعى القائمون على المعرض إلى اجتماع عاجل قرّروا خلاله القيام بتكريم هذا اللص باعتباره عملة نادرة الآن.. أو نظراً لكونه يعبر عن مرحلة يؤكد الجميع أنها انتهت كظاهرة ثقافية كانت في وقت ما مبررة بالكثير من التفسيرات (الإيديولوجية) وربما (الثورية) أيضاً، خصوصاً في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي.. وهذه الحادثة كانت كافية لسيادة جو من الرضا والاطمئنان في نفوس القائمين على صناعة الكتاب بشكل عام، إذ راحوا يتسابقون إلى تقديم الهدايا النفيسة من أمّات الكتب لذلك اللصّ اللقطة كما يقولون...! 
 هذه القصة المفترضة التي تمنى حدوثها أحد القائمين على صناعة الكتاب، تظهر إلى حد بعيد طبيعة المأزق الذي يعانيه الكتاب المطبوع، في وقت لا يفتأ بعضهم عن تكرار استشرافهم بانتهاء عصر الطباعة وسيادة النشر الالكتروني في المراحل المقبلة، حيث يتوقعون أننا سنفتقد نهائياً ذلك الشكل الهندسي الرائع الذي رافق تطور البشرية منذ أن صنعه الإنسان منقوشاً على ألواح الآجر حتى هذه اللحظة.. فهل أصبح لصوص الكتب عملة نادرة حقاً؟ أم أن السرقة كفعل بشري لا يمكن أن تنقرض أبداً سواء فيما يخص الكتاب، أم فيما يتعلق بجميع الأشياء الأخرى.. ‏

يصرّ أحد لصوص الكتب السابقين، على تسمية سرقة الكتاب بالاختلاس النبيل.. أما أصحاب المكاتب فيؤكدون أنها هاجسهم الدائم الذي يكفي لتحويل كل شخص إلى متهم حتى يثبت العكس.. وفي حين يعتقد البعض أن ظاهرة سرقة الكتب قد خفّت كثيراً الآن، إلا أنها لم تنته أبداً، فهي موجودة في كل زمان ومكان.. رغم أنها لم تعد تشكل ظاهرة ثقافية صارخة ومدعومة بسلسلة من التبريرات الإيديولوجية، كما في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، حيث كانت تبدأ السرقة بكتاب من مكتبة ميسلون مثلا، ولا تنتهي بسرقة (السيشوار) لأحد الزملاء في المدينة الجامعية، أو حتى (استعارة) النقود وبعض الحاجات الأخرى، مادام التحليل الطبقي حينها قادراً على حمل عبء كل تلك الآثام دفعة واحدة..! ‏

يتمنى كثيرون لو يعود الزمن قليلاً إلى الوراء فتعود للكتاب جاذبيته التي لا تقاوم، حيث تكفي هذه الجاذبية في لحظة ما لدفع أحدهم إلى سرقة الكتاب الذي يريد، لا لأجل شيء إنما كي يقرأه فقط ثم يضيفه باعتزاز إلى مكتبته المتواضعة في المنزل.. بل إن أحد أصحاب المكتبات ذهب إلى أبعد من ذلك بكثير، حيث أكد لنا أنه وبسبب تصنيف لصوص المكتبات كفئة من الناس المهددة بالانقراض، فإنه يتمنى لو يتمكن من القبض على أحدهم متلبساً حتى يبادر إلى مكافأته فوراً باعتباره الدليل الأخير على أن الكتاب مازال مغرياً لدرجة السرقة، وأن كل ما يشاع عن عزلة الكتاب وسيادة النشر الالكتروني ليس إلا ضرباً من الخيال لا أكثر.. 
 يؤكد عمر النوري أن ظاهرة سرقة الكتب كانت أكثر وضوحاً وانتشاراً في فترة الثمانينيات، فقد كانت متفشية في ظل انتشار أفكار معينة حينها، وتحديداً بين فئة الطلاب أكثر من سواهم، أما الآن فقد خفت السرقة كثيراً حتى أنهم في مكتبة النوري لم يقبضوا على لصّ منذ عام على أقل تقدير..! ‏

في هذا الإطار يسرد أصحاب المكتبات الكثير من النوادر الطريفة حول الأساليب والابتكارات التي يتبعها السارقون لإخفاء غنائمهم، ابتداءً من (الجرابات) حيث يلف الكتاب حول ساق السارق كي يأخذ شكلها ويختفي تماماً تحت البنطلون، فالزبون السارق هنا يمكن أن يخفي الكتاب في أي مكان خصوصاً تحت الثياب السميكة عندما يكون الفصل شتاء، أو في الحقائب النسائية أو سواها من الأدوات التي غالباً ما يحملها صاحبها بهدف إخفاء الكتب.. لذلك فإن صاحب المكتبة يتوقع كل شيء مهما بدا غريباً ومستبعداً، إذ إن اللصوص دأبوا دائماً على تطوير أساليبهم بغية التمويه أكثر كحمل عدد من الكتب قبل التوجه إلى المكاتب من أجل التضليل، أو وضع الكتاب المستهدف تحت القميص من جهة الظهر لكي لا يظهر أثناء الجلوس والحركة.. 
 في مكتبة ميسلون، وهي المكان الأكثر إغراءً لسرقة الكتب، كما يقول السارقون أنفسهم، يستطيع المتابع أن يعثر على الكثير من التفاصيل المدهشة على هذا الصعيد، كاستخدام الأطفال من قبل ذويهم في تهريب الكتب وإخفائها عن عيون المراقبين هناك.. تقول السيدة دلال رجب باشا إن إحدى السيدات دخلت إلى المكتبة ومعها ابنتها الصغيرة حيث قامت بسرقة كتاب ثم وضعته في الحقيبة، وعندما واجهناها بهذا الأمر، ألقت اللوم على ابنتها واتهمتها بأنها هي من أخذ الكتاب ووضعه داخل الحقيبة لكن الطفلة رفضت هذا الاتهام بشدة وبدأت تصرخ في وجه أمها.. تضيف السيدة دلال: إن السارق لا يتوانى عن فعل أي شيء في سبيل الحصول على ما يريد حتى ولو كان بهذا الشكل المسيء تربوياً للأطفال..! ‏

ربما من أغرب الأساليب أن يختبىء أحد السارقين في مكتبة ميسلون، حيث يتم اغلاق المكتبة عليه ويقضي طيلة الليل ينتقي بالكتب حتى صباح اليوم الثاني ثم يخرج بعد أن يشتد الزحام في المكتبة ويكثر عدد الزبائن فيها..! ‏

‏ في الماضي، وتحديدا في الثمانينيات، أخذت سرقة الكتب شكل الظاهرة الثقافية بامتياز حيث تسلحت بالعديد من التبريرات الايديولوجية كما أسلفنا، وكان من الطبيعي أن تعثر بين السارقين على مختلف السويات الاجتماعية والثقافية ابتداءً من أساتذة الجامعات إلى المحامين والطلبة والناس العاديين.. حتى أصحاب دور النشر عندما يزورون بعضهم يمكن أن يفعلوها بكل بساطة مادامت كل التسويغات جاهزة سلفاً لتقديمه كمهتم بالثقافة ومسكون بحب الاطلاع لكن الحاجة المادية هي التي تجبره على ذلك كما يقول..! 
 لن يبدو الأمر غريباً، أن يدخل أحد الشعراء إلى مكتبة ميسلون، وهو يحمل عددا من الصحف تحت ذراعه، فيسأل عن ديوانه الشعري الجديد إن كان موجوداً أم لا، ثم يتجول بين الكتب متفقداً الرفوف الكثيرة من الكتب العالمية في النقد والشعر والفنون، ليخرج بعدها وقد أخفى كتاباً بين الصحف التي كان يحملها، وعندما يواجهه العاملون في المكتبة بالأمر، يجيب بأنه يريد الكتاب ولايملك نقوداً كي يشتريه.. ثم ينظر باتجاه أحد الزبائن الموجودين في المكتبة ويطلب منه القيام بدفع المبلغ نيابة عنه، وبالفعل يقوم الزبون المجهول بدفع المبلغ ومن ثم يخرج الشاعر وهو يحمل كنزه الثمين..! ‏

تذكر السيدة رجب أن محامياً طلب من المكتبة أن تقوم بتقسيط بعض الكتب التي يحتاجها، وعندما رفضت هددها بسرقة تلك الكتب تباعاً ودون أي مقابل.. وحول ذلك يؤكد أصحاب المكتبات استحالة تطبيق مبدأي الاعارة والتقسيط نظرا للاشكاليات الكثيرة في هذين الخيارين مثل عدم الالتزام بالدفع وبالتالي أخذ الكتاب دون مقابل، أو استعارة الكتاب وعدم ترجيعه على الاطلاق.. في كل الأحوال، تؤكد السيدة رجب، أن لصوص الثمانينيات كانوا أكثر ضميراً من لصوص اليوم، خصوصاً من جهة حب القراءة والاهتمام بالثقافة بشكل عام، أما اليوم فالسرقة تتم بهدف التجارة والربح وذلك عن طريق بيع الكتاب المسروق إلى إحدى المكتبات أو الشخصيات التي يهمها اقتناؤه..! ‏

جميل نذر مدير مكتبة نوبل شبه سرقة الكتاب بسرقة رغيف الخبز، ولم يستغرب أن يأتي يوم نترجى فيه الناس أن يأخذوا الكتب مجاناً ولا يفعلوا.. فالكتاب يعاني في هذا العصر من عدة أزمات أهمها ثورة الاتصالات وأساليب النشر الالكتروني.. ورغم كل التساهل والتفهم الذي يبديه أصحاب المكتبات تجاه السارقين كإهدائهم الكتب في بعض الأحيان، إلا أن الأمر لا يعدو كونه سرقة في جميع الحالات..! ‏

ربما من غرائب هذه القصص أن يقوم أحد السارقين السابقين، وهو إعلامي في إحدى الصحف، بالاعتراف في زاوية كتبها بأن معظم الكتب التي يملكها هي من الغنائم التي كسبها من مكتبة النوري، ومن ثم يشرح كيف تم إلقاء القبض عليه في إحدى المرات متلبساً، ولم يتم إنهاء المشكلة إلا بعد العديد من التدخلات والوساطات.! ‏

المشكلة بالنسبة لأصحاب المكتبات أنهم يعانون نوعاً من الاحراج تجاه الزبائن، فإذا طلبوا منهم ترك حقائبهم على الباب، تضايق الزبون وأبدى تذمره حيال التشكيك فيه سلفاً.. أما المشكلة الكبرى فتكون في فصل الشتاء حيث المعاطف الفضفاضة الكبيرة التي يمكن أن تحمل فيها كل شيء، لكن لن يمكنك مواجهة أحد بشكوكك إلا إذا كنت متأكداً تماماً مما تقول..! ‏

أحد السارقين أخذ من مكتبة النوري خمسة كتب وخرج، وعندما لحقه صاحب المكتبة إلى الشارع، طلع عليه بالعالي وقال له أنا لم أسرق شيئاً.. لقد استعرتهم فقط..! ‏

أحد الشاهدين على فترة الثمانينيات تلك، يروي حادثة طريفة على أيام (العز) تلك، فبينما هو جالس في المقهى البرازيلي في فندق الشام مع الشاعر العراقي مظفر النواب، دخل أحد الشعراء وهو يلبس «مانطو» شتوياً كبيراً واتجه نحوهم مباشرة ثم قام بفتح ذراعيه وهو يقول (هاك مظفر) مشيراً إلى عدة كتب ظهرت تحت معطفه وهي حصيلة سرقة موفقة من مكتبة ميسلون، حيث طلب من مظفر أن يقوم بشراء الكتب كي يكمل مع صديقه الشاعر أيضاً، السهرة العامرة التي بدأها الاثنان ذلك المساء، فما كان من الشاعر مظفر النواب إلا أن انصاع للأمر وقام بشراء الكتب..! ‏

أحد المستمتعين بخاصية قنص الكتاب في تلك المرحلة أكد أنه لم يوفر أية مكتبة على الاطلاق، وغالباً ما كان ينتقي الكتب مرتفعة الثمن ليس لأنها ذات أهمية كما يقول، ولكن كي يثبت لنفسه أن السرقة النبيلة يجب أن تكون مجدية.. فهو لم يسرق أي شيء كما اتفق مثلا، بل كان لا يقبل إلا الكتب الثقيلة من عيار النقد الفني لوليم كليك.. أو النزعات المادية لحسين مروة..! ‏

في مطعم (الريس) ان يلتقي الجميع آخر النهار كي يفردوا على طاولاتهم حصيلة النهار من الكتب التي اختلسوها من مكتبة ميسلون تحديداً، باعتبارها المكتبة الأكثر جذباً وإغراءً لهم لاعتبارات أن الزمن الثقافي الرائج في ذلك الوقت هو زمن فكر تقدمي موجود بكثرة في تلك المكتبة..! ‏

جميع السارقين السابقين كانوا يبدون سخطهم الشديد حيال مكتبة النوري التي كان من الصعب جداً اقتناص أي كتاب منها تبعاً لاجراءات المراقبة فيها..! ‏

يتحسّر شباب الثمانينيات على فتوتهم ومهاراتهم في تلك المرحلة، ويعتقدون أن الزمن الذي مضى لا يمكن أن يتكرر أبداً، فالكتاب كان متوفراً وكذلك القارىء النهم المشغول دائماً بهاجس الثقافة والفنون.. الذي لم يكن متوفراً فقط هو ثمن الكتاب وتلك مسألة كان بالامكان تجاوزها أو التغلب عليها عن طريق (الاستعارة) على أقل تقدير.. لكن الآن، يبدو أن الأزمة امتدت لتشمل الكتاب والقارىء وثمن الكتاب على حد سواء.. وربما الأسوأ من ذلك كله هو غياب الحافز عند شباب اليوم حيث لا يمتلكون أي دافع صغير حتى ولو كان (لاستعارة) ‏

زيد قطريب

المصدر: تشرين

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...