لماذا يشكّل مستخدمو اليد اليسرى أقليّة؟
ما الذي يحدد ما إذا كان شخصٌ ما سيصبح أعسرَ أم لا؟ إذا نظرنا إلى الأمر من زاوية نظرية التطور، فسنجد أنه من الملائم أكثر أن يركز المرء على استخدام يدٍ واحدة أكثر من الأخرى. تشكل أسنان الإنسان البدائي، أو ما يُعرف بـ «إنسان نياندرتال»، مؤشراً مهماً في هذا الصدد. فقد تبين أن هذا الإنسان البدائي كان ذكياً وأخرق في الوقت نفسه. فأسلافنا هؤلاء استخدموا أسنانهم لتثبيت شرائح من اللحم حتى يتسنى لهم تقطيعها بسكينٍ يحملونها في اليد التي ينزعون لاستخدامها أكثر من اليد الأخرى.
وكان ذلك يُحدِثُ آثاراً في أسنانٍ تُعرف باسم «القواطع الأمامية»، وتسنى للعلماء عبر فحص هذه الآثار تحديدُ أي اليدين كانت تحمل السكين وأيهما كانت تمسك باللحم. ومن المذهل أن هذا الفحص كشف عن أن نسبة «العُسران» إلى من يستخدمون اليد اليمنى بين المنتمين لهذا النوع البدائي من البشر، كان مماثلاً لنسبته السائدة بيننا حاليا؛ أي واحد إلى عشرة.
التأثير على الدماغ
على أي حال، من المعروف أن ثمة أصلاً جينياً لمسألة تفضيل استخدام يدٍ على الأخرى. ولكن العلماء في هذا المضمار لا يزالون يحاولون تحديد الأجزاء المسؤولة عن ذلك بالتحديد في الحمض النووي، في ظل اعتقادٍ بأن عدد الجينات التي تلعب دوراً في هذا الصدد قد يصل إلى 40 جيناً مختلفاً.
وفي ظل المعطيات الحالية، ليس بوسعنا التعرف على السبب المحدد لنزوع البعض لاستخدام يدٍ بشكل أكبر من الأخرى، وما من تفسيرٍ لدينا لكون «العُسران» هم الأقلية، ولذا تبقى الإجابة عن أي سؤال في هذا الصدد «ليس لدينا علم بذلك». ولكن هل كون المرء أعسر اليد يخلّف أي تأثيرٍ على حياته، بخلاف معاناته ـ ولو قليلاً ـ في العثور على مقصٍ مُعد إعدادا ملائما لاستخدامه بيده اليسرى، أو سحاب سروال لا يضنيه إغلاقه، أو قلم حبر مريح بالنسبة له؟
لطالما دار جدال حول ما إذا كان نزوع المرء لاستخدام اليد اليسرى يؤثر بأي شكل على دماغه أم لا. فالجانب الأيمن من الدماغ يتحكم في اليد اليسرى والعكس بالعكس. ولذا فقد يؤدي كون المرء أعسر اليد إلى ترك آثارٍ غير مباشرة ـ ولكن لا مفر منها ـ على الشاكلة التي يُنسق بها عمل الدماغ.
وفي هذا السياق، يقول عالم النفس كريس ماكمانس من كلية لندن الجامعية، وهو مؤلف كتاب «يد يمنى.. يد يسرى»: «إن الطريقة التي ينتظم بها دماغ الشخص الأعسر تتسم بتغير وتنوع كبيرين». ويضيف ماكمانس قائلاً: «حدسي الشخصي يفيد بأن الأعسر ينعم بموهبة أكبر، ويعاني من أوجه قصور أكثر أيضًا. فإذا ما كنت كذلك، فقد تجد نفسك إزاء طريقة مختلفة قليلاً في ما يتعلق بالشكل الذي يُنظم دماغك على أساسه، وهو ما قد يهبك مهاراتٍ لا ينعم بها أشخاص آخرون».
أقاويل غير مقنعة
لكن هناك من لا يتفقون مع هذا الرأي. من بينهم، دوروثي بيشوب، أستاذة علم النفس العصبي التطوّري في «جامعة أكسفورد». ولدى هذه السيدة اهتمامٌ شخصيٌ بالأمر، فهي عسراء أيضاً، وهو ما جعلها تتساءل دائماً ـ كما تقول ـ عن السبب الذي جعلها مختلفة عن سواها. «على مدار سنوات، ثارت ضروبٌ شتى من المزاعم التي تربط كون المرء أعسر اليد بالمعاناة من حالات عجزٍ مثل عسر القراءة، أو التوحد. في المقابل، كان هناك ربطٌ (لهذا الأمر) بسمات إيجابية، إذ يُقال إن المهندسين المعماريين والموسيقيين غالباً ما يكونون من العُسران». لكن أقاويل من هذا القبيل بدت غير مقنعة لبيشوب، وذلك بعدما اطّلعت على البيانات والإحصائيات ذات الصلة بذلك. وتقول في هذا الصدد إن الكثير من تلك الافتراضات نتجت مما سمته بـ «تحيزٍ في تسجيل بيانات بعينها دون سواها». وتضرب هنا مثلاً بالقول: إذا كان باحثٌ يجري دراسة ما عن الاتصاف بروح ابتكارية، مثلاً، وأورد فيها سؤالاً عن العلاقة بين متغيري «الإعسار»، والابتكار؛ فسيشعر بالحماسة إذا ما وجد حالةً تثبت وجود مثل هذه العلاقة، دون أن يتطرق لذكر الحالات الأخرى التي لم تثبت أي صلة بين هذين المتغيرين. وتشير إلى أن النزوع لاستخدام اليد اليسرى «لا يؤثر على الإطلاق على التطور المعرفي الفكري بالنسبة لغالبية الناس».
حتى الأجنّة
يتمثل جانبٌ من هذه المشكلة في أن علماء الأعصاب، الذين يبحثون جوانب متنوعة من السلوك البشري، لا يجرون الدراسات التي يستخدمون فيها تقنية تصوير الدماغ باستخدام الرنين المغناطيسي، إلا على من ينزعون لاستخدام اليد اليمنى استخداما أكبر، وذلك في مسعى منهم لتقليص الفوارق بقدر الإمكان بين الخاضعين للدراسة. وهكذا لا يُفسح المجال أمام الشخص الأعسر لكي يكون خاضعاً لدراسة علمية ما، إلا إذا كانت هذه الدراسة تتناول الإعسار من الأصل.
من جهة أخرى، توصلت دراسات للباحث في جامعة «كوينز» في بلفاستر بيتر هَبَر لكشف الإعسار لدى الأجنة. وأظهرت هذه الدراسات أن تسعة من كل عشرة أجنة، يفضلون مص إبهام اليد اليمنى، وهو ما يماثل نسبة من ينزعون لاستخدام ذات اليد بين السكان عموماً. وعندما تابع الباحث حالة هؤلاء الأجنة بعد سنوات عديدة من ولادتهم، وجد أن من كانوا منهم يمصون إبهام يُمناهم بداخل الرحم أصبحوا يفضلون استخدام اليد نفسها خلال حياتهم خارجه، أما من آثروا مص إبهام يُسراهم فقد باتوا عُسراناً.
(بي بي سي)
إضافة تعليق جديد