ما هي مصلحة أمريكا في إشعال منطقة القوقاز
الجمل: بدا واضحاً أن السياسة الخارجية الروسية قد أصبحت أمام تحول نوعي – كمي جديد وهو أمر كشفته أحداث جورجيا، والتي على ما يبدو ستشكل نقطة انعطاف جديدة لجهة إعادة ترتيب الاصطفافات في قوام النظام الدولي وذلك بما يؤدي إلى انتقال السياسة الروسية إلى الاضطلاع بدور الموازن للسياسة الخارجية الأمريكية.
* السياسة الخارجية الروسية: منظور نظرية تحليل النظم (System Analysis):
تنصرف السياسة الخارجية إلى التعامل مع الكثير والعديد من القضايا المتداخلة والشديدة التعقيد وقد انعكس ذلك الأمر على تحديد طبيعة السياسة الخارجية ومدى ارتباطها بالسياسة الداخلية وذلك لجهة أن الدول التي تعيش استقلالاً حقيقياً فإن سياستها الخارجية تعمل على تحقيق أهدافها الخارجية بينما الدول التي تعيش في حالة التبعية الحقيقية فإن سياستها الخارجية تعمل على تحقيق أهداف الأطراف الخارجية التي تمارس النفوذ والهيمنة.
* نطاق عمل السياسة الخارجية الروسية:
لتحديد عمل السياسة الخارجية الروسية يمكن التمييز بين مرحلتين:
• مرحلة الاتحاد السوفيتي السابق: كان نطاق عمل السياسة الخارجية السوفيتية بغطي الدائرة الإقليمية والدائرة الدولية، إضافة إلى القضايا النوعية ذات الطابع الكلي والجزئي مثل سباق التسلح وتوازن القوى واتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية وما شابه ذلك.
• مرحلة جمهورية روسيا: برغم إعلان دولة روسيا بعد قيامها رسمياً بأنها تتعهد بالالتزام أمام المجتمع الدولي بتنفيذ جميع الاتفاقيات الدولية والإقليمية السابقة التي وقعها الاتحاد السوفيتي، فقد بدا واضحاً أن السياسة الخارجية الروسية لم تكن قادرة على العمل ضمن الدائرة الإقليمية والدولية على غرار ما كان يحدث خلال فترة الاتحاد السوفيتي، وما حدث بالضبط هو أن روسيا قد أعادت ترتيب أولوياتها بحيث لم تعد تهتم بالسياسة الخارجية كثيراً وانكفأت بدلاً عن ذلك لجهة معالجة قضايا السياسة الداخلية.
وقد أدى هذا الانكفاء إلى نشوء ثلاثة ظواهر في قوام النظام الدولي:
• تراجع النفوذ الروسي.
• نشوء فراغ القوة.
• تقدم الولايات المتحدة الأمريكية لملء الفراغ.
وبالطبع لم تكتف أمريكا بمجرد التقدم لملء الفراغ في المناطق التي تراجع عنها نفوذ السياسة الخارجية الروسية، وإنما حاولت أيضاً استخدام مفهوم الضربة الاستباقية بإسقاطه على مجال السياسة الخارجية وذلك عن طريق السعي الحثيث باتجاه التحول إلى تطويق روسيا وإعاقتها عن التطور والتحول إلى قوة عظمى من جديد، وكان واضحاً أن أمريكا ظلت تحاول ليس تطويق روسيا وحسب، وإنما تقويض استقرارها الداخلي عن طريق:
• حرمانها من الموارد الاقتصادية الخارجية.
• الضغط على دول العالم وعلى وجه الخصوص الدول الأوروبية الغربية باتجاه عدم التعاون مع روسيا.
• استخدام آليات التجارة الخارجية لجهة تصدير التضخم والبطالة إلى الاقتصاد الروسي.
• دعم الاضطرابات الدينية والطائفية والإثنوثقافية في مناطق القوقاز الشمالي كجمهوريات الشيشان وأنفوشيا وداغستان وغيرها.
• بناء التحالفات العسكرية الأمنية مع الدول المحيطة بروسيا وتحديداً:
- دول القوقاز بالتركيز على جورجيا التي تتميز بموقعها الاستراتيجي الملائم لاستهداف روسيا.
- دول آسيا الوسطى بالتركيز على كازخستان التي تتميز بموقعها الاستراتيجي لاستهداف روسيا.
- دول البلطيق وشرق أوروبا السابقة لجهة موقعها الاستراتيجي في استهداف روسيا وعلى وجه الخصوص إدماجها ضمن نطاق مشروع نشر بطاريات الصواريخ الأمريكية.
* التحولات الجديدة المحتملة في السياسة الخارجية الروسية:
التقدم المضطرد في نفوذ السياسة الخارجية الأمريكية لم يكتف بالتدرج في توسيع نطاق الهيمنة الأمريكية وإنما اتخذ خلال فترة إدارة بوش الثانية وتائر أكبر على النحو الذي كان واضحاً في أنه سيؤدي إلى تحفيز رد الفعل الروسي.
كشفت أحداث إقليم التيبت وإقليم سينغيانغ الصينيان والدور الأمريكي في تايوان عن حقيقة النوايا الأمريكية الهادفة إلى تقويض استقرار الصين عن طريق نقل الصراعات إلى داخلها وأدركت القيادة الروسية أن نفس نموذج السيناريو الصيني تقوم الإدارة الأمريكية بتطبيقه في مواجهة روسيا وتحديداً في مناطق شمال القوقاز المضطربة أساساً.
التطورات الجديدة في سعي أمريكا لنشر بطاريات شبكة الدفاع الصاروخي في دول أوروبا الشرقية إضافةً إلى محاولة أمريكا الضغط باتجاه ضم أوكرانيا وجورجيا وغيرها من دول الاتحاد السوفيتي السابق إلى عضوية حلف الناتو عملت مجتمعة كعوامل محفزة لرد الفعل الروسي لجهة ردع النوايا والمخططات الأمريكية.
* الخطوط الحمراء الجديدة في السياسة الخارجية الروسية:
استراتيجية السياسة الخارجية الروسية التي أعلنتها روسيا مؤخراً احتوت على عدد من المؤشرات والثوابت العامة التي يمكن استعراضها على النحو الآتي:
• لم تستطع النازية وغيرها من النجاح في فرض النفوذ على روسيا ولكن الغرب يسعى حالياً بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية إلى تنفيذ مخطط احتواء روسيا.
• تم ضم دول البلطيق الثلاثة لاتفيا وأستونيا وليتوانيا إلى الاتحاد السوفيتي لجهة حمايتها من الإبادة النازية خلال الحرب العالمية الثانية ولكن بعد انهيار الاتحاد عادت هذه الدول إلى الاهتمام ببناء الروابط مع دول غرب أوروبا ويتوجب معالجة هذا الأمر عن طريق توجيه المزيد من اهتمام موسكو لهذه الدول.
• اعتبار الحيز الجيوسياسي الذي توجد ضمنه دول اتحاد الكومونويلث الروسي الخط الأحمر للأمن الحيوي الروسي.
• يتوجب إدراك أن دول وجمهوريات الاتحاد السوفيتي سواء المستقلة أو الموجودة ضمن الاتحاد الروسي بمثابة البوابة التي تأتي منها مصادر الخطر التي تهدد الأمن الروسي.
• يتوجب بناء الشراكة في مجال السياسة الخارجية مع دول وجمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق على النحو الذي يمكن أن يؤدي إلى توجيه سياسة الخارجية والأمن والدفاع في المنطقة تماماً على غرار نموذج سياسة الأمن والدفاع الموحدة الأوروبية الموحدة.
• يتوجب الانتباه والتحسب لجهة الإملاءات الخارجية التي تحاول أمريكا وبلدان الاتحاد الأوروبي فرضها على روسيا باعتبارها توجهات تعكس في جانبها المعلن بعض المبررات والذرائع الشكلية ولكن جانبها غير المعلن يتضمن استهدافاً واضحاً لأمن روسيا السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعسكري والأمني.
* الردع الروس ي في مواجهة خطر الاحتواء الأمريكي:
تقول بعض التسريبات الواردة من واشنطن بأن جماعة المحافظين الجدد وإسرائيل هم من أوعز للرئيس الجورجي ساخاشفيلي بتنفيذ مخطط العملية العسكرية ضد أوسيتيا الجنوبية والهدف الحقيقي وراء ذلك هو:
• إشاعة أجواء الحرب في أوساط الرأي العام الأمريكي على النحو الذي يفسح المجال لتقدم وصعود شعبية الحزب الجمهوري الأمريكي.
• الدفع باتجاه حرب باردة أكثر سخونة تؤدي إلى سباق تسلح جديد في المناطق المحيطة بروسيا.
• استخدام فزاعة الخطر الروسي القادم على غرار نموذج فزاعة الخطر الشيوعي خلال فترة الحرب الباردة وذلك على النحو الذي يؤدي إلى:
- إقناع الاتحاد الأوروبي بضم دول وجمهوريات الاتحاد السوفيتي السابقة.
- إقناع حلف الناتو بضم جورجيا وأوكرانيا.
- إخافة دول شرق أوروبا السابقة من احتمالات عودة نفوذ موسكو، وذلك على النحو الذي يدفع هذه الدول إلى القبول الفوري بمشروع نشر شبكة الدفاع الصاروخي الأمريكي على أراضيها.
- إقناع دول الاتحاد الأوروبي بعدم التعاون مع روسيا بما يؤدي إلى صرف النظر عن تنفيذ مشروع تمديد أنابيب النفط الروسي إلى غرب أوروبا وتحديداً ألمانيا وفرنسا وإيطاليا.
• بناء حملة الذرائع لجهة تبرير فرض العقوبات الأمريكية ضد روسيا وفي هذا الصدد تقول التسريبات الأمريكية الأخيرة بأن عناصر جماعة المحافظين الجدد وصقور الجمهوريين منهمكون حالياً في دفع الإدارة الأمريكية باتجاه محاولة إقصاء واستبعاد روسيا من عضوية مجموعة الثمانية.
بالمقابل، فقد أعلن الرئيس الروسي تحذيراً واضحاً لجمهورية بولندا من مغبة القيام بتوقيع اتفاقية نشر بطاريات الصواريخ على أرضها وتحدث مسؤول عسكري روسي رفيع المستوى قائلاً بأن نشر شبكة الدفاع الصاروخي في بولندا يعطي روسيا الحق في القيام بعمل عسكري ضدها.
تتشدد الإدارة الأمريكية في المضي قدماً باتجاه معاقبة روسيا من جراء عمليتها العسكرية ضد جورجيا وتواجه واشنطن في الوقت الحالي مشكلة الخلافات في تفاهمات عبر الأطلنطي مع حلفائها الأوروبيين وعلى وجه الخصوص ألمانيا وفرنسا وتجدر الإشارة إلى أن الدبلوماسية الوقائية التي قام بها الرئيس الفرنسي ساركوزي لم تنجح وحسب في نقل الصراع العسكري الروسي – الجورجي إلى مرحلة التهدئة وإنما نجحت في قطع الطريق على واشنطن التي كانت ترغب في أن يتصاعد الصراع إلى مرحلة الحرب الكبرى بين روسيا وجيرانها بما يفسح المجال أمام واشنطن للقيام بدور أكبر في تنفيذ مخطط احتواء روسيا.
حالياً بدت دول الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو أكثر رفضاً لمشروع توسيع الاتحاد الأوروبي وحلف الناتو شرقاً بحيث يضم أوكرانيا وجورجيا كما تريد واشنطن، ويقول الأوروبيون بأن تنفيذ هذا المشروع سيدخل القارة الأوروبية بأكملها هذه المرة في سباقات التسلح وأتون الحرب الباردة وهو أمر سيضر بالمصالح الأوروبية الغربية في روسيا وشرق أوروبا.
إن نجاح السياسة الخارجية الروسية الجديدة في ردع النفوذ الأمريكي هو نجاح سيؤدي من جهة إلى زيادة الخلافات الأمريكية – الأوروبية وتراجع النفوذ الأمريكي عن أوروبا من جهة ومن الجهة الأخرى إلى ظهور شراكة استراتيجية روسية – غربية سيترتب عليها بلا شك إعادة تشكيل النظام الدولي والإقليمي على النحو الذي يمكن أن ينتهي إلى عزلة أمريكا.
الجمل: قسم الدراسات والترجمة
إضافة تعليق جديد