محكمة منتهية الصلاحية!
إنها محكمة «من أصحاب السوابق». المحكمة الدولية الخاصة بجريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري تحمل سجّلاً عدلياً غير نظيف. هي المرة الاولى في تاريخ العالم الغربي التي تُصدر فيها محكمة دولية حكما غيابياً، بإدانة شخص، من دون أي دليل: لا تسجيل فيديو، لا تسجيل صوتياً، لا تسجيل مكالمة، لا شاهد يقول رأيت، ولا شاهد يقول سمعت. لا تحويل مالي. هي محكمة التجهيل: دافع الجريمة مجهول. المخطط مجهول (المحكمة قالت إنها لم تقتنع بأنه الشهيد مصطفى بدرالدين). اشترى أداة الجريمة (الشاحنة) مجهولان، فخّخها مجهولون في مكان مجهول، واتوا بالمتفجرات من مكان مجهول. سجّل مجهولون شريط احمد أبو عدس لتلفيق تبنّي العملية، في مكان مجهول. وأبو عدس مجهول المصير. من وضعوا شريط أبو عدس فوق شجرة قرب مبنى الاسكوا في وسط بيروت مجهولون. ومن راقبوا الشجرة مجهولون. ومن اتصل بقناة الجزيرة ووكالة رويترز لتبني العملية مجهول أيضاً. الانتحاري الذي فجّر نفسه في موكب الحريري مجهول. والأفراد الثمانية الذين نفذوا الجريمة يوم 14 شباط 2005، لا يزالون مجهولين.
كمية الجهل كبيرة جداً. تتضاعف إذا ما قيست بالمدة التي أهدِرت للتحقيق، وبالموارد المالية التي أنفِقت. يمكن تقدير أن لبنان انفق نحو مليار دولار على التحقيق الدولي في 15 عاماً، من دون ان تنشر محكمة تقول إنها تعمل وفق أعلى المعايير الدولية، جردة حساب دقيقة تكشف كيفية إنفاقها للاموال التي تتلقّى نحو نصفها من دافعي الضرائب في لبنان. وبما ان المبلغ بالعملة الاجنبية، يمكن أن يُضاف جرم جديد إلى سجل المحكمة، وهو أن الدولة اللبنانية تسرق لحسابها دولارات المودعين. مليار دولار فيما قصور العدل اللبنانية «تنشّ» سقوفها وتميد الأرض من تحتها، وملفاتها في خزائن من غبار.
رغم ذلك، لم تجد المحكمة الدولية دليلاً لإدانة المتهم سليم عياش، سوى دليل الاتصالات. وهذا «الدليل»، لا يتضمّن تسجيلات المكالمات، ولا مضمون رسائل نصية، بل تحليل لحركة هواتف خلوية، جغرافياً، يسمح ببناء نظرية تحقيقية للظن، لا للحكم. فبناء على التحركات الجغرافية، يمكن الاستنتاج، لا الجزم، بأن شخصاً ما كان يحمل هاتفين معاً، في وقت واحد.
لكن لا دليل يسمح بإثبات ذلك. هي نظرية تحقيقية لم تؤيَّد بأي دليل حسّي. وعندما عارضها دليل آخر، قررت المحكمة اسقاط الدليل الثابت، والاستناد إلى النظرية غير المؤكدة لإدانة عياش. سجلات الامن العام في مطار بيروت عام 2005 تُثبت انه كان في السعودية في كانون الثاني من ذلك العام، لأداء مناسك الحج. وسجّلات الامن السعودي تثبت ذلك أيضاً، كما استخدام بطاقته المصرفية في مكة والمدينة والمنورة أيضاً. وفيما هو في السعودية، كانت الهواتف المنسوبة إليه تستمر بالعمل في لبنان كالمعتاد. هذه الوقائع تكفي لتنهار نظرية الادعاء العام. لكن المحكمة أسقطت هذه الوقائع، مستغلة ثغرة في سجلات الامن السعودي، وهي عدم وجود سجل دخول وخروج إلى أرض الحجاز لابنة عياش التي رافقته وزوجته إلى الحج. ببساطة، قررت المحكمة نسف دليل واقعي، لحساب نظرية تحقيقية حبلى بالشك، والبناء عليها لإدانته.
هذه النظرية لم تكن الوحيدة السائدة بين عامي 2005 و2011، تاريخ صدور القرار الاتهامي في الجريمة. لكن المحققين قرروا إهمال كل ما عداها. ومما اهملوه، على سبيل المثال لا الحصر، ان مجموعة من «تنظيم القاعدة في بلاد الشام»، اعترفت في الايام الأخيرة من عام 2005 والايام الاولى من 2006، بارتكاب الجريمة، امام محققي فرع المعلومات. الموقوف السعودي فيصل اكبر سرد وقائع عن الجريمة لم يكن المحققون الدوليون قد توصلوا إليها بعد.
مثلاً، ذكر الموقوف أن مجموعته اشترت من الشمال اللبناني الشاحنة التي استُخدِمَت في التفجير. وعندما قال ذلك، كان المحققون اللبنانيون والدوليون لا يزالون منشغلين برواية احد شهود الزور عن تهريب الشاحنة من سوريا إلى لبنان، ولم يتوصلوا إلى واقعة شراء الشاحنة من البداوي إلا بعد أربعة أشهر من اعتراف الموقوف فيصل أكبر.
أهمِل ما سبق، وغيره الكثير، لصالح الرواية الرسمية الجديدة لفريق الاتهام السياسي. ما ذكره رئيس المحكمة عند إعلانه الحكم امس، عن الاجواء السياسية السابقة للاغتيال، يبدو مقتبساً من البيانات الأسبوعية للامانة العامة المندثرة لقوى 14 آذار. أصدرت المحكمة حكماً بإدانة عياش، وبرأت ثلاثة متهمين آخرين (أسد صبرا وحسين عنيسي وحسن مرعي)، كما برأت المتهم السابق الشهيد مصطفى بدرالدين، رغم أن أصول العمل القضائي الدولي تمنع أي إدانة او تبرئة لمتهين احتفظوا بقرينة البراءة بالوفاة. وهنا، لا بد من الإشارة إلى ان المحكمة اقتنعت بمزاعم الادعاء العام القائلة إن بدر الدين كان يستخدم اسم سامي عيسى في حياته غير الحزبية، متجاهلة أنه كان يتابع دراسته الجامعية في الجامعة اللبنانية الأميركية (LAU)، ونال منها شهادة بكالوريوس في العلوم السياسية، يوم 28 شباط 2005. وكان أساتذته وزملاؤه يعرفونه باسمه الحقيقي: مصطفى أمين بدر الدين.
التوجه السياسي بلغ ذروته في التبرئة كما في الإدانة. أسقطت المحكمة التهم عن متهمين لا وجود لأي دليل ضدهم، ولو على شكل شبهة. كل إفادات الشهود المتعلقة بهم أسقِطَت بالضربة القاضية. إدانتهم كانت فضيحة الفضائح، فاستعاضت المحكمة عنها ببراءة تدفع بها عن نفسها تهمة التسييس. بات في مقدور فريق الاتهام السياسي القول إن التبرئة دليل على ان المحكمة غير مسيسة. فيما الواقع ان إدانة عياش، بليّ عنق الحقيقة، معطوفة على تبرئة الثلاثة الآخرين، هي التسييس المحض. إثبات عدم التسييس كان في رفض ادلة منقوصة يرقى إليها كل شك معقول، وفي عدم قبول تضييع ملايين ساعات العمل لمئات المحققين والمستشارين، بلا أي نتيجة.
المحكمة لن تقف عند الحد الذي وصلت إليه امس. المحامي الذي عيّنته ليدافع عن مصالح عياش، إميل عون، سيطلب استئناف حكم الإدانة. والادعاء العام يدرس الحكم ليرى إمكان نقضه. وإذا وافقت المحكمة على الاستئناف، فستعاد المحاكمة التي ستدوم لسنوات جديدة. فضلاً عن نية الادعاء العام تقديم قرارات اتهامية جديدة، بحق متهمين جدد، في الجريمة نفسها، إضافة إلى وجود 3 جرائم متلازمة (اغتيال القيادي الشيوعي الشهيد جورج حاوي، ومحاولة اغتيال مروان حماده، ومحاولة اغتيال الياس المر). ستدوم المحكمة. سياسياً، سيسعى فريق الادعاء السياسي إلى جني الأرباح من عملها.
صرف المحققون والقضاة والمستشارون والمحامون 15 سنة ونحو مليار دولار، ليبنوا حكمهم على دليل ظرفي كان محققو مخابرات الجيش اللبناني، ولاحقا محققو فرع المعلومات، قد اعدوه كما قرأه علينا امس قضاة المحكمة... من دون اي اضافة!
اذا كان لبنان قد قبِل بهذه المسرحية، فهذا يعني ان القضاة والمحققين والمحامين سيسعون الى تقديم عروض جديدة لأطول فترة ممكنة، لإدامة فرص عملهم ورواتبهم، في واحدة من المؤسسات الدولية المنتهية الصلاحية.
حسن عليق - الأخبار
إضافة تعليق جديد