محمود درويش...معركة «الدّيوان الأخير»
الرّيّس يتّهم الياس خوري ويستعدّ لإصدار طبعة جديدة
لا شكّ في أن رحلة البحث عن نصوص غير منشورة تركها صاحبها ومضى، مغامرة مشوّقة... وخصوصاً حين يتعلّق الأمر بشاعر اسمه محمود درويش. قبل رحيله، أسرّ المذكور إلى عدد من الأصدقاء بأنه يملك ديواناً جديداً جاهزاً في غرفة مكتبه في منزل عمان. ما قصّة هذا الديوان؟ ولماذا أثار كلّ هذه الضجة؟ بعد رحيل الشاعر، دخلت مجموعة من الأصدقاء إلى منزله في عمّان: شقيق الشاعر أحمد درويش، المحامي جواد بولص، علي حليلة، مرسيل خليفة وأكرم هنية. هؤلاء كانوا وراء الاهتداء إلى مخطوطات القصائد، وجمعها في كتاب صدر أخيراً عن «دار الريّس» بعنوان «لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي ـــــ الديوان الأخير». القصّة باتت معروفة بعدما رواها الياس خوري. ولعل نصّ الأديب اللبناني والناشط الثقافي والسياسي على جبهات كثيرة، كان الشرارة التي فجّرت ما بات يعرف بالقضيّة! طريقة العثور على القصائد لم تكن مثار جدل، بل كيفيّة التعامل مع تركة شاعر بحجم محمود درويش. لماذا تولّى إلياس خوري وحده جمعها وإعدادها للنشر، بدلاً من اللجوء إلى لجنة من الاختصاصيّين؟ السؤال ازداد إلحاحاً بعدما اكتشف شعراء ونقّاد بعض الأخطاء في الديوان الأخير. وهنا غضب الريّس، وقرر إعلان الحرب (الإعلاميّة، وربما القضائيّة لاحقاً) على إلياس خوري الذي كان أعدّ نفسه لموقع البطولة، فإذا به في قفص الاتهام.
قد تكون «مقدّمة» الديوان التي أصرّ الأخير على كتابتها، أوّل أسباب الخلاف بين الطرفين. رفض رياض الريّس أن يُفتتح الديوان بمقدّمة الياس خوري، لأنّ الشاعر، كما يذكّر ناشره الحصري في بيان أصدره عن الموضوع: «لم يسبق أن قدّم أحد أو أخّر لأيّ من دواوينه... لذا طبعت «الحكاية» في كتيّب منفصل عن الديوان كتسوية بعد موافقة المحامي جواد بولص ومعدّ الكتيّب الياس خوري».
الياس خوري يوضح أنّه مذ أُثيرت كلّ هذه الضجة حول الديوان وهو يفضّل الصمت، لكنه مع ذلك يوضح أنّ ما كتبه لا يعدّ مقدمة: «كتبت نصّاً يخبر حكاية العثور على المجموعة، وتفاصيل العمل عليها، على أن يُنشر في نهاية المجموعة لا كمقدمة لها، انطلاقاً من قناعة اللّجنة التي كلّفتني بإعداد المخطوط للنشر، بأنّ هذه المعلومات حقّ للقارئ. وجرى بعد ذلك الاتفاق على نشره ككرّاس مرفق». ويرى خوري أنّه ليس لديه ما يقدّمه ضدّ الاتهامات التي توجّه إليه، إلا ما كتبه في الكرّاس المرفق للديوان ونُشر أيضاً في «الملحق» الثقافي لجريدة «النهار» وفي مجلة «الكرمل». بالنسبة إلى الناشر، فإنّ إصرار خوري على إلحاق هذه المقدمة بالديوان كان محاولة «للتسلّق على تركة درويش الأدبيّة»: «لا شكّ في أنّ تركة درويش الأدبيّة كبيرة، وأيّ محاولة لربط اسم شخص ما باسم درويش أو أي ديوان له، هو أمر مغرٍ، بما إنّه لطالما كان اسم الشاعر قوياً، إن لم يكن الأقوى، على الساحة الأدبيّة. ما يفتح الأبواب أمام الظنّ المشروع، إن كان هناك من يحاول تسليط الأضواء على نفسه من خلال هذا الديوان الأخير». أما الياس خوري، فيرفض إيلاء أهميّة لهذا الاتهام الموجّه إليه: «حكاية حب الظهور وقاموس الشتائم التي انهالت عليّ، نافلة ولا تستحق جواباً». هل يكفي هذا الترفّع للردّ على تساؤلات القرّاء؟
كثير من الأدباء فضّلوا الوقوف على الحياد في هذا الخلاف، لكن بعضهم كالشاعرين شوقي بزيع ومحمد علي شمس الدين أشارا إلى وجود أخطاء عروضيّة كثيرة، وأخرى مطبعيّة في الديوان، الأمر الذي لا يليق باسم الشاعر محمود درويش. وطالب بزيع وسواه بأن تُصحّح هذه الأخطاء وتُعاد طباعة الديوان. لا يُنكر الريّس وجود الأخطاء، لكنّه يلقي باللائمة والمسؤوليّة على الياس خوري الذي أنيط به إعداد الديوان الأخير وتحريره وتبويبه. فقد رفض، حسب الريّس، تزويد الدار بالنسخة الأصلية المكتوبة بخطّ الشاعر، كما جرت العادة مع الشاعر في كل ما تم نشره من أعمال سابقة. يشير الريّس في بيانه، الذي لم تنشره الصحافة اللبنانيّة حتى تاريخ كتابة هذه السطور، إلى أنّه ألحّ على خوري طالباً تسلّم المخطوط على مدى خمسة أشهر. ويواصل: «اتصلنا بـ«لجنة الأصدقاء» التي كلّفت الياس خوري بهذه المهمة، ولكن لا حياة لمن تنادي». لذلك اعتمدت الدار في نشر الديوان، كما يقول الريّس، على النسخة الإلكترونية التي زوّده بها المحامي جواد بولص ـــــ بصفته القانونية وكيلاً عن ورثة الشاعر ـــــ بعدما سلّم الريّس نسخة مطبوعة عند توقيع العقد.
ويؤكّد الريّس أنّه سيعيد إصدار ديوان محمود درويش الأخير في طبعة جديدة، احتراماً لذكرى الشاعر وللحفاظ على اسمه، بعد إعادة النظر في النصوص بناءً على مقارنتها بكتابات الشاعر، والأخذ بملاحظات الشعراء والنقاد، وذلك «من دون الكتيّب الذي أعدّه الياس خوري، والذي سقط حكماً بسبب هذه الأخطاء، ولم يعد له مبرر أصلاً».
من جهته، يفضّل خوري عدم التعليق على موضوع تسليم أو عدم تسليم النسخة الأصلية لدار النشر. وهو كان قد كتب في «مقدّمته» أنّه والمحامي بولص حرصا على إعداد نسختين عن الأوراق الأصليّة، واحدة لكلّ منهما، ثم أعادا الأوراق الأصليّة إلى مكانها في درج درويش. ويضيف خوري: «على كلّ، أنا لست المرجع الصالح للحديث عن تفاصيل الاتفاق مع «دار الريّس». هناك مرجع واحد هو المحامي الأستاذ جواد بولص الذي وقّع العقد باسم عائلة درويش مع الناشر، وأعطاه نصّ المجموعة، علماً بأنني لست طرفاً في ذلك».
ويرفض خوري، من جهته، رفضاً قاطعاً أن يكون هناك أي خطأ في القصائد، ويعلّق قائلاً: «لم أسمح لنفسي بالتدخّل (في النص) إلا حين وضع الشاعر الراحل إشارات واضحة، وهي حالات نادرة. كذلك فإنّه لا وجود لأي خطأ عروضي في المجموعة، على الإطلاق. ومع احترامي للجميع واقتناعي بأن بعض الملاحظات كُتب بنيّات حسنة، وأشارت إلى بعض الأخطاء المطبعيّة، فإنني لا أعتقد أن محمود درويش في حاجة إلى تلقّي دروس في العروض من أحد».
زينب مرعي
لندعه يرقد بسلام!
إذا جاز الحديث عن أخطاء تشوب قصائد محمود درويش الصادرة بعد موته، فربّما كانت تلك الأخطاء مسؤوليّة مشتركة يتقاسمها كلّ الذين كانوا، من قريب أو بعيد، وراء إصدار «الديوان الأخير»... القصّة التي رواها إلياس خوري مانحاً ضمير المتكلّم دور البطولة، هل تكفي لإدانته منفرداً على مبادرة وافق عليها الآخرون، وتبنّوها منذ اللحظات الأولى وحتى صدور المجموعة عن «دار الريّس»؟ ترى ماذا سيكون ردّ فعل الشاعر لو أنه يراقب هذه الخناقة من غيمته البعيدة؟ كل ذلك حدث في غيابه. حتى إن عنوان القصيدة التي أعطت اسمها للكتاب ـــــ «لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي» ـــــ ليس هو من وضعه. هناك شيء فظيع في الموت، موت الشاعر تحديداً، إذ إن أوراقه لا تعود ملكه. هل طلب محمود، على فراش المستشفى في تكساس، أن تنشر قصائده الأخيرة؟ هل نحترم حقّه الغيابي... أم حق القرّاء في التواصل مع آخر نصوصه؟ مسألة يصعب حسمها، علماً بأن تاريخ الأدب حافل بالأمثلة المعبّرة: لو احترم ماكس برود وصيّة صديقه كافكا، وأحرق مخطوطاته كما طلب هذا الأخير، لحرمت البشريّة من تلك الأعمال الاستثنائيّة.
محمود اجتمع أصدقاؤه (وأخوه) وقرّروا نشر القصائد كما هي. هل كان سيعهد إلى هؤلاء، كلّهم ودون سواهم، بالمهمّة لو سئل رأيه؟ لم تعد تنفع الأسئلة. قد تكون المشكلة في هالة الشاعر التي يتسابق الجميع على امتلاك جزء منها. قد تكون المشكلة هي التعجّل في النشر، علماً بأن الريّس وافق عليه وكان وراءه. الأكيد أن الضجّة التي أثيرت لها علاقة بنجوميّة الشاعر ووقع اسمه وشعره على «الجماهير»... هو الذي كان سريّاً، وحميمياً، ومنطوياً. حتى صائدو الأخطاء، مهما صفت نيّاتهم، وأصابت ملاحظاتهم، من يؤكّد أنّهم لا يطلبون لأنفسهم ـــــ بصورة لاواعية ـــــ شيئاً من ألق الشاعر وأمجاده؟
تلك الضجّة حول «الديوان الأخير» تشبه نزاع الورثة. ولعلّها لا تخدم الشاعر، ولا شعره، ولا قرّاءه ومحبّيه. إذ ليس لنا، في النهاية، إلا الامحاء التام، بصمت ونكران للذات، «في حضرة الغياب». لو كان بوسع محمود درويش الآن أن يستردّ موته منّا، لما تأخّر لحظة واحدة!
بيار أبي صعب
شهادة من عمّان تُغيّر مجرى النقاش: «قصائد أخيرة» قررنا نشرها بلا تعديل
في تشرين الثاني (نوفمبر) 2008، عُقد الاجتماع التأسيسي لـ«مؤسسة محمود درويش» بدعوة من ياسر عبد ربه لتهتمّ بإرث درويش المادي والمعنوي. لكن بعد تعذّر اجتماع أعضاء المؤسسة، أخذت «مجموعة مصغرة» من أهل درويش وأصدقائه على عاتقها هذه المسؤولية مرحلياً. وتألّفت من: أحمد درويش، مرسيل خليفة، غانم زريقات، إلياس خوري، علي حليلة والمحامي جواد بولص.
كان أمام المجموعة مهمة محددة: البحث عن الديوان الأخير لمحمود. فتح الياس وجواد درج المكتب ووجدا بعض الأوراق المكتوبة بخط اليد. في الليل، اجتمعنا في منزل علي لقراءتها بحضور وزيرة الثقافة الفلسطينية تهاني أبو دقة وأحمد عبد الرحمن. معظم القصائد لم تكن مكتملة، فيها خربشات وشطب. وبعد قراءتها، أصرّ غانم على أنّنا لم نجد الديوان بعد. ذهب مع أحمد في صباح اليوم التالي ليبحثوا عن الأوراق بهدوء، فوجدوا القصيدة الطويلة التي اتفق على تسميتها: «لا أريد لهذي القصيدة أن تنتهي». وحين قرأناها، أحسسنا بأنّها القصيدة التي كان ينوي درويش وضعها في ديوانه الأخير. تم تصوير نسخ من القصائد: النسخة الأصلية بقيت في بيت محمود، نسخة مع علي حليلة، نسخة مع جواد بولص ونسخة مع إلياس خوري.
هكذا، اجتمعت المجموعة المصغّرة في بيت علي حليلة في 8 كانون الثاني/ يناير 2009، وحضرنا اللقاء أنا ورائد عصفور بدعوة من علي. بدا غانم بدايةً غير مرتاح. وبعدما قرأتُ المسوّدة، فهمت عدم ارتياحه. هناك إشكالية واضحة: بعض القصائد غير مكتملة، وبعضها لا تصلح للنشر، مع أنّ درويش كاتبها. وكلّ مَن يعرف محمود، يُدرك كم يقضي من الوقت في التحرير والكتابة وإعادة الكتابة، وقد يرمي أحياناً قصيدة بأكملها. كان رأي غانم، ووافقناه علي وأنا، أنّ الديوان يجب أن يشتمل على قصائد مختارة بمستوى دواوين درويش السابقة. غامرت وعبّرت عن هذا الرأي أمام المجموعة. إلا أنّ إلياس كان له رأيٌ مخالف يحمل الشرعية نفسها، واتفق معه في ذلك جواد بولص: مَن، سوى درويش نفسه، يحق له أن يقرر أنّ هذه القصيدة مكتملة أم لا؟ أو إذا كانت للنشر أم لا؟ لهذا، ارتأى إلياس أن تنشر القصائد، مكتملةً أو لا. تبنّى الجميع ذلك من منطلق أنّ لجمهور الشاعر الحق في الاطلاع على كلّ ما كتب. وهنا، اقترحت أن تُسمّى المجموعة «القصائد الأخيرة» لأنّها لا تمثّل ديواناً. فالديوان له أصول ويصدر بقرار من الشاعر. هكذا، اتُّفق على أن تصدر المجموعة بعنوان «القصائد الأخيرة» لا «الديوان الأخير»، مع توضيح حيثيات نشر المجموعة في مقدمة يضعها إلياس.
لم يكن رياض الريّس جزءاً من هذه العملية، لكنّه هو الناشر. وحين حمل إليه إلياس خوري النص وقرار النشر، لم يخفِ امتعاضه. لكنّه وقّع العقد لطباعة الكتاب بناءً على قرار المجموعة، ثم أتبع ذلك بسلسلة قرارات مناقضة لقرارات المجموعة، بلغت حدّ إعلانه إعادة طباعة الكتاب بسبب ما سمّاه «الأخطاء الفادحة الواردة فيه».
القرار الأول الذي اتّخذه كان تأجيل إصدار الكتاب إلى ما بعد تاريخ عيد ميلاد درويش، فيما اتفقت المجموعة على تاريخ 13/3. ثم أصدره بعنوان «الديوان الأخير»، وبهذا أعطى انطباعاً بأنّه مثل الدواوين الأخرى التي قدمها له درويش شخصيّاً. وهذا خطأ له تبعات كبيرة مثل تلك التي قرأناها على لسان شوقي بزيع. مقال بزيع يغفل حقيقةً أساسية، ربما أراد الريّس إخفاءها، وهي أنّ الكتاب عبارة عن مجموع القصائد التي وجدناها في منزل درويش، من دون تعديل، سوى تلك التي ذكرها إلياس في ما كان «مقدمة الكتاب»، وأصبح بقرار من الريّس «كتاباً منفصلاً».
يحدونا الأمل، وهنا يضمّ صوته إليّ رائد عصفور وغانم زريقات وعلي حليلة، بأن يعاد إصدار «القصائد الأخيرة» لمحمود بالشكل الذي قدّمه إلياس خوري للناشر، لأنّ القصائد نشرت فقط لتكون شاهداً على آخر عمل للشاعر من دون تعديل جوهري. هذا ما قام به خوري وشرحه في المقدمة، وللأمانة الأدبية هذا ما يجب أن يكون.
سيرين حليلة
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد