21-03-2018
مستقبل «الجهاد العالمي» يُرسم في سوريا
لم تخرج «الرايات السود» من المشهد السوري بعد. ورغم أنّ ضعفاً كبيراً اعترى مختلف التنظيمات «الجهاديّة» في خلال العامين الأخيرين، فإنّ هذه التنظيمات لا تزال حاضرةً على غير جبهة، وتحتفظ بحظوظٍ متفاوتة في التأثير في موازين القوى ومسار الصراع. ولا تقتصر خطورة هذا الحضور على تبعاته المحتملة في سوريا، بل تتعدّاه إلى دوره في إعادة تشكيل خريطة «الجهاد العالمي»
كان العام المنصرم من عمر الحرب السوريّة حافلاً بالأحداث «الجهاديّة» المفصليّة، وأبرزها تقويض الحضور العسكري المؤثّر لتنظيم «داعش». وينضم إلى قائمة الأحداث البارزة، خروج الخلاف بين زعيم تنظيم «القاعدة» أيمن الظواهري، وزعيم «جبهة فتح الشام/ النصرة» أبو محمد الجولاني، ووصول الأمر الى حدّ «الطلاق الجهادي» بينهما. وبتأثير ذلك، انضم حدث ثالث إلى التسلسل الزمني «الجهادي» تمثّل في ولادة تنظيم جديد هو «حرّاس الدين» العاكف حاليّاً على جمع «البيعات» وتنظيم الصفوف.
صراع «مشروعين»
شكّل الصراع بين «داعش» و«النصرة» منذ أواخر عام 2013 مقدّمةً لبزوغ نجم زعيم «داعش» أبو بكر البغدادي الذي أعلن نفسه لاحقاً «خليفة للمسلمين». بدا صراع «داعش/ النصرة» أوّل الأمر صراعاً على مكتسبات محليّة تخصّ المشهد السوري، غير أنّ البغدادي لم يلبث أن كشف عن بُعدٍ آخر ذي طبيعة «كونيّة». وعلى وقع الانتصارات الكاسحة التي حقّقها تنظيمه في سوريا والعراق، نقل البغدادي معركته على الزعامة «الجهاديّة» من ساحة مواجهة الجولاني، إلى ساحةٍ أخرى يقارع فيها واحداً من أهم الرّموز «الجهاديّة» وهو أيمن الظواهري.
التوزع الجغرافي للفصائل «الجهادية» في سوريا
في الجوهر، كان الصراع دائراً بين مشروعين «جهاديين» ينفرد البغدادي في التربّع على رأس أحدهما، وهو مشروع «شوكة التمكين – قيام الدولة»، ويترك لجميع الآخرين المشروع الثاني الذي بقي متمسّكاً بأنّ أوان «التمكين» لم يحن بعد، وأن «الجهاد العالمي» لا يزال يُراوح بين مرحلتي «شوكة النكاية والإنهاك» و«إدارة التوحّش». ورغم أن كثيراً من التجارب التي سبقت «داعش» كانت قد أعلنت حكماً «جهاديّاً» في مناطق ودول عدّة (أشهرها إمارة أفغانستان الطالبانيّة)، فإنّ أحداً لم يذهب الى حدّ «خلافة» عالميّة توجب على كل التنظيمات الجهاديّة في العالم تقديم «البيعة»، وتُعلن «حرباً مقدّسة» على كل من يمتنع. تتالت الانتصارات «المعنويّة» لمشروع البغدادي على امتداد عامين، ورأى «الرأي العام الجهادي» هزيمة «النصرة» أمام «داعش» هزيمةً للتنظيم الأم أيضاً، فـ«النصرة» خاضت المواجهة بوصفها «تنظيم القاعدة في بلاد الشام». كان لهذا التفصيل دورٌ أساسي في انخفاض أسهم «القاعدة» في المشهد «الجهادي» العالمي، وأوحت الصورة بأنّ مشروع البغدادي حسم الموقف لمصلحته. لكنّ وهم فائض القوّة الذي حصّله «داعش» إثر إعلان «الخلافة» دفعه إلى اقتراف أخطاء قاتلة، وعلى رأسها التفكير في إمكانية نجاح خططه لـ«غزو العالم». انهمك «داعش» في تنفيذ تلك الخطط، عبر استنفار «ذئابه المنفردة» لشن هجمات متفرّقة شرقاً وغرباً، كما حرص على المسارعة إلى تبنّي أي هجوم ذي صبغة «جهاديّة» يقع في دولة غربيّة، حتى ولو لم يكن مخطّط الهجوم قد وُضع بإشراف أمنيّيه. أفلحت تلك الهجمات في اجتذاب مزيد من «الجهاديين» إلى صفوف التنظيم، كما في تحصيل «بيعات» إضافيّة للبغدادي من جماعات منتشرة في أفريقيا وآسيا، لكنّها أدّت في الوقت نفسه إلى دق طبول الحرب على «داعش» عالميّاً وبشكل جدي. ورغم أن التنظيم كان مؤهّلاً للقيام بأدوار إضافيّة في الحرب السورية، فإنّ المخاطر التي استشعرتها معظم الدول الغربيّة من جرّاء تحوّل «دولة الخلافة» إلى تحدّ خطير لـ«الأمن القومي» في أوروبا وأميركا حسمت الموقف وجعلت من التضحية بالتنظيم ومنافعه السوريّة أمراً لا مناص منه.
«القاعدة» وحسابات الغد
كان من شأن التهاوي المتتالي لـ«داعش» أن يمنح «القاعدة» فرصةً للعودة إلى الواجهة «الجهاديّة» في سوريا، لكنّ الخلاف الكبير بينه وبين «النصرة» أدى إلى تكريس «شق الصّف». لم يكن انحسار النفوذ الجغرافي داخل سوريا سوى «خسارة جانبيّة» في موازين «القاعدة». ومنذ نشأته حتى اليوم، لم تحظَ الجغرافيا بأولوية في المشروع «القاعدي» المتمسّك بأنّ «الجهاد العالمي لم يدخل مرحلة التمكين».
كان من شأن التهاوي المتتالي لـ«داعش» أن يمنح «القاعدة» فرصةً للعودة إلى الواجهة
ولا تزال تجربة المؤسس أسامة بن لادن في التخلي عن المكوث في أفغانستان، والانتقال منها إلى السودان، ثم العودة مجدّداً إلى أفغانستان شاهداً على أولويات التنظيم ونموذجاً يحرص على احتذائه. وإذا كان زعيم «النصرة» قد انجرف نحو وهم «التمكين والإمارة» بعد تعافي جماعته من تبِعات احترابها مع «داعش»، فإن الأمر مختلف في موازين الظواهري. ولا شكّ في أنّ انهيار مشروع «داعش» عزّز من تمسّك «القاعدة» بمشروعه الذي يمكن عدّه أنه خرج منتصراً من صراع المشروعين. لكنّ استمرار مشروع «القاعدة» ومشروعيّته يفرضان على زعيمه عدم إهمال الساحة «الشاميّة» بوصفها خزّاناً «جهاديّاً» بشريّاً شديد الأهميّة في معارك المستقبل، وهي بطبيعة الحال معارك غير مؤطّرة في حدود جغرافيا بعينها. من هنا، نبعت أهميّة تشكيل «حرّاس الدين» ليكون ذراعاً «قاعديّةً» جديدةً، يلمّ شمل المجموعات «المبايعة» التي انشقت عن «النصرة» ويستقطب أكبر قدر ممكنٍ من «الجهاديين».
الجولاني و«المهمة المستحيلة»
لا يزال زعيم «النصرة» أبو محمد الجولاني متمسكاً بآماله في إعادة إحياء مشروع «إمارة الشام» التي كان قبل عامين قاب قوسين من إعلانها. لكنّ المشهد اليوم يبدو مختلفاً بشكل جذري، في ظل تجّذر العداء بينه وبين معظم المجموعات المسلّحة، بما فيها «الجهاديّة». ورغم أن الصفقة التي عقدها الجولاني مع تركيّا العام الماضي منحته فرصة تجنّب استعداء أنقرة (ومن خلفها قطر)، فإنّ الصفقة ذاتها جاءت بمثابة مسمار مفصلي في نعش «النصرة». لم يكن تكرار سيناريو «داعش» مع «النصرة» بحاجة إلى أكثر من ضوء أخضر تركي يُعطى لبقية المجموعات المسلحة، مع توفير الدعم اللوجستي اللازم، لكنّ أنقرة اكتفت (حتى الآن) بإضعاف «النصرة» ولم تمنع «الحزب الإسلامي التركستاني» من مد خشبة الخلاص التي أعادت شيئاً من التوازن للجولاني في إدلب وحلب.
«داعش» وخطر العودة
المفارقة الأبرز في «رحلة هبوط داعش» تجلّت في حرص كل الأطراف التي حاربته على استعجال إعلان خروجه من المشهد، رغم معرفة تلك الأطراف أنّ التنظيم لا يزال حاضراً في جيوبٍ متناثرة، القاسم المشترك بينها أنّ كلّاً منها يحظى بفرصٍ ليكون منطلقاً نحو مغامرات «جهاديّة» جديدة. ويمتدّ الجيب الأكبر على مساحة تقارب نصف الحدود السوريّة العراقيّة في ريف دير الزور الشرقي (من قرية أم الذبيان شمالاً حتى سبخة الملّاح جنوباً)، من دون أن يحدث فارقاً كونُ المنطقة منطقة نفوذ أميركيّ في الدرجة الأولى. وتبرز أهميّة هذا الجيب في مقابلته جيباً آخر داخل الأراضي العراقيّة، فيما تفصلُ بين الجيبين مساحةٌ شريطيّة تحت سيطرة الدولة العراقيّة. وثمّة أهميّة إضافيّة لـ«جيب دير الزور» تتجلّى في قربه من جيب صغير في الريف الجنوبي الشرقي لدير الزور يمتد من هجين إلى الشعفة، وصولاً إلى محيط معبر القائم (بمحاذاة البوكمال التي يسيطر عليها الجيش السوري وحلفاؤه). ومن شأن أي اختراق ينجح التنظيم المتطرف في إحداثه عبر مناطق سيطرة «قوات سوريا الديموقراطيّة» أن يسمح بوصل الجيبين، وتهديد سيطرة الجيش على معبر البوكمال الحدودي. وغير بعيدٍ عن «جيب هجين»، ثمة جيب ثالث في البادية السورية، بدءاً بسبخة «فيضة الجب» في الريف الجنوبي الغربي لدير الزور، امتداداً إلى جنوب شرق مدينة السخنة (ريف حمص الشرقي). وتفصل بين الجيبين مناطق خاضعة لسيطرة الجيش السوري وحلفائه. وتكمن أهميّة «جيب البادية» في قربه من مدينة السخنة الاستراتيجيّة. وبعيداً عن الشرق، يحتفظ «داعش» بحضوره في محيط العاصمة السوريّة وتحديداً في مخيم اليرموك، مع ما يعنيه ذلك من فرصٍ في تهديد العاصمة. أما في الجنوب، فيحضر «داعش» عبر تنظيم «مبايع» له هو «جيش خالد بن الوليد» الذي يحتفظ بسيطرة مؤثّرة في منطقة حوض اليرموك (ريف درعا الغربي). ورغم أنّ معطيات العام الثامن تشير الى انخفاض فرص قلب الموازين أمام التنظيم المتطرّف، فإنّ استمرار الجبهات معه في حالة «ستاتيكو» يبدو أمراً مستبعداً، ولا سيّما في ظل المعلومات المتوافرة عن استعداد التنظيم لـ«الكرّ من جديد» بعدما التقط شيئاً من أنفاسه وأعاد ترتيب صفوفه. ولا يبدو مستبعداً انخراط أحد اللاعبين الدوليين أو الإقليميين في لعبة جديدة تتيح لـ«داعش» خلط الأوراق من جديد، ولا سيّما أنّ التنظيم المتطرف شكّل «حسان طروادة» ملائماً لتكريس مناطق نفوذ واحتلال أجنبيّة داخل البلاد، سواء في رحلة صعوده أو في رحلة هبوطه.
الجولاني و«المهمة المستحيلة»
لا يزال زعيم «النصرة» أبو محمد الجولاني متمسكاً بآماله في إعادة إحياء مشروع «إمارة الشام» التي كان قبل عامين قاب قوسين من إعلانها. لكنّ المشهد اليوم يبدو مختلفاً بشكل جذري، في ظل تجّذر العداء بينه وبين معظم المجموعات المسلّحة، بما فيها «الجهاديّة». ورغم أن الصفقة التي عقدها الجولاني مع تركيّا العام الماضي منحته فرصة تجنّب استعداء أنقرة (ومن خلفها قطر)، فإنّ الصفقة ذاتها جاءت بمثابة مسمار مفصلي في نعش «النصرة». لم يكن تكرار سيناريو «داعش» مع «النصرة» بحاجة إلى أكثر من ضوء أخضر تركي يُعطى لبقية المجموعات المسلحة، مع توفير الدعم اللوجستي اللازم، لكنّ أنقرة اكتفت (حتى الآن) بإضعاف «النصرة» ولم تمنع «الحزب الإسلامي التركستاني» من مد خشبة الخلاص التي أعادت شيئاً من التوازن للجولاني في إدلب وحلب.
صهيب عنجريني - الأخبار
إضافة تعليق جديد