معاريف: هكذا اتخذ قرار حرب تموز
كشفت صحيفة «معاريف» الإسرائيلية أمس النقاب عن المداولات العسكرية والسياسية التي دارت خلال الساعات الـ18 الأكثر حساسية وأهمية في بلورة واتخاذ قرار الحرب على لبنان، بين ساعة تنفيذ حزب الله لعملية أسر الجنديين في الثاني عشر من تموز 2006، وبدء تنفيذ العمليات العسكرية. مداولات أظهرت عدم إدراك وزراء الحكومة الإسرائيلية للقرارات التي صادقوا عليها، بعدما جرى استخدامهم «كختم» على قرار حرب أُعد وطبخ مسبقاً، لم يبحث في نقطة الخروج المناسبة منها
بعد دقائق من عرض رئيس الأركان دان حالوتس تقريراً أمام الجنرالات عن قرار الحكومة الذي ينص على مهاجمة الجيش لمنصات الصواريخ داخل قرى جنوب لبنان، أي بعد منتصف ليل 12 تموز 2006، اقترب رئيس شعبة التخطيط اللواء غادي ايزنكوت من رئيس شعبة التخطيط اسحاق هرئيل وهمس في أذنه: يجب ان نوقف كل شيء، إنهم لا يدركون معنى القرار الذي اتخذوه.
لم يكن لدى آيزنكوت أي شك: سيقوم حزب الله بالرد على مهاجمة القرى (في جنوب لبنان) وإطلاق الصواريخ باتجاه العمق الإسرائيلي، وفي أعقابها ستندلع حرب قاسية. اما هرئيل فأجاب: «لقد تأخرنا، ولا يمكننا أن نوقف الطائرات»، مضيفاً إن «كل من اتخذ قرار الهجوم كانت لديه رؤية خاصة به، وأقصى ما يمكن القيام به هو محاولة السيطرة على الوضع، بحيث تكون له نهاية».
عندما خرج الجنرالات من غرفة المداولات، كل الى مكتبه ومن دون شعور بالراحة، كانت قواعد سلاح الجو في ذروة استعداداتها الأخيرة للقيام بتنفيذ خطة «وزن نوعي»، الهادفة الى مهاجمة صواريخ «فجر» البعيدة المدى. الطائرات جُهزت بالصواريخ، وخزانات الوقود مُلئت كاملة، وتراكض التقنيون على المدرجات، فيما عكف الطيارون على دراسة تفاصيل الأهداف.
لم تكن الصورة واضحة وكاملة، فإسرائيل كانت على وشك الخروج الى حرب انطلاقاً من الشعور بالمذلة وبدافع من الانتقام، من دون أي خطة واضحة عن كيفية إنجاز أهداف مبالغ فيها، ومن دون أي جدول زمني.
وبالفعل، كما قال اللواء هرئيل، كل شخص شارك في القرارات في هذا اليوم المصيري، شاهد صورة أخرى لما جرى لاحقاً. الوزراء الذين صادقوا على الهجوم في أعقاب عملية خطف الجنديين صبيحة ذلك اليوم، لم يكونوا حتى على علم بأن الجيش لم يوصِ بتنفيذ خطة «وزن نوعي». لقد جرى استخدامهم ببساطة كختم على قرار مطبوخ جرى عرضه أمامهم. لم يكن بإمكانهم أن يدركوا أنهم قرروا الخروج الى حرب، فهموا أن الجيش سينفذ عملية تستمر بضع ساعات، وعلى الأكثر أياماً.
كانت لدى الجيش خطط معدة مسبقاً لحالة نشوب حرب في لبنان: مهاجمة البنى التحتية لإجبار الحكومة اللبنانية على العمل بشدة ضد حزب الله، اضافة الى عملية برية لإبعاد صواريخ الكاتيوشا عن الحدود. لكن المستوى السياسي أخفى هذه الخطط، ولم يصادق على استهداف البنى التحتية، وكذلك فعل رئيس الأركان الذي استبعد كلياً العملية البرية من دون طرح خطة بديلة. أي لم يعلم أي من جنرالات الجيش ورئيس الأركان ووزير الدفاع ورئيس الحكومة والوزراء، ماهية المرحلة الثانية بعد مهاجمة صواريخ «فجر». لقد تدحرجنا.
***
9:05 – مكتب رئيس الحكومة؛ وحيد في القمة:
خطف إيهود غولدفاسر وألداد ريغيف صبيحة 12 تموز في الساعة 9:05. تسلسل الأحداث، من عملية الخطف حتى الخروج إلى الحرب، يجسد أن إسرائيل تعاني خللاً كبيراً وجذرياً ومتواصلاً، لجهة صناعة القرارات الهامة، والشخصية الأكثر تأثيراً، أي رئيس الحكومة، تلقى نبأ خطف الجنديين خلال لقائه الأول مع والدي جلعاد شاليط، الذي كان قد خُطف في غزة قبل أسبوعين ونصف أسبوع.
لحظة معرفة الخبر، الذي يمكن أن يعني إعلان حرب على إسرائيل، فإن كلّ رئيس حكومة، وليس فقط ايهود اولمرت، بحاجة الى جهاز أركاني مهم، وهو ما افتقر اليه اولمرت. كان عامير بيريتس وزير الدفاع، مع أقدمية شهرين وثمانية أيام في المنصب، ومن دون أي خلفية أمنية سابقة. أما على كرسي رئيس الأركان، فقد جلس دان حالوتس، المكلل بالمجد كطيار عسكري، الذي قاد الجيش خلال تنفيذ عملية فك الارتباط عن قطاع غزة قبل عام من ذلك.
***
9:30 – مكتب وزير الدفاع؛ ماذا تعني «لبنة»؟
الأنباء الأولى عن النار في الشمال وصلت إلى وزارة الدفاع عندما كان مكتب الوزير على وشك إجراء نقاش في شأن الهجوم الذي نفذ في قطاع غزة فجر اليوم نفسه، الهجوم الذي استهدف اغتيال قائدي الذراع العسكرية لـ«حماس»، أحمد غندور ومحمد ضيف. العملية فشلت، والمستهدفان جُرحا فقط.
نحو 15 من كبار ضباط المؤسسة الامنية، بينهم رئيس الأركان ورئيس الشاباك، جلسوا في ذلك الصباح حول الطاولة المستطيلة. وصلت أولى الأنباء عن سقوط قذائف صاروخية في نقاط مختلفة على الحدود. الميل الأولي كان الاعتقاد بأن حزب الله ينفس عن احتقان ناتج من محاولة الاغتيال في غزة. إلا أن الشعور الضمني توقع الأسوأ، وأثار احتمال أن يكون القصف تمويهاً لعملية خطف.
استعلم رئيس شعبة العمليات، آيزنكوت، عبر الهاتف عما يحصل في الشمال، وأعلن الخبر الدراماتيكي: لقد فقدنا الاتصال بـ«اللبنة». وسأل بيريتس: «ماذا تعني «لبنة»؟ . أجاب آيزنكوت مثل أستاذ يجيب تلميذاً «عادة يتعلق الأمر بدبابة أو مؤللة مصفحة».
سأل بيرتس: «هل هذا وقت محتمل لعملية خطف»؟ أجابه العسكر «نعم».
في أعقاب هذا التطور، سارع رئيس الأركان ورئيس شعبة العمليات وقائد سلاح الجو، اللواء إليعيزر شيكدي، إلى خندق قيادة الأركان العامة، تحت الأرض.
***
10:00 – الخندق في وزارة الدفاع؛ «ماذا نفعل إذا؟»
ساد جو من الانقباض في الخندق. أفادت التقارير الواردة من الشمال وجود آليتي «هامر» محروقتين، ومقتل ثلاثة جنود إضافة الى جرح جنديين آخرين. وأفيد أيضاً أن جنديين من جنود الدورية مفقودان. مع مرور الوقت، بدأ يتضح أن الأمر يتعلق بعملية خطف، وأن احتمالات تعقب الخاطفين آخذة في التلاشي.
وصل خبر فظيع: دبابة ميركافا أرسلت إلى داخل الأراضي اللبنانية على محور تقدم يقود إلى قرية عيتا الشعب، كجزء من عملية مطاردة معدومة الأمل للخاطفين، صعدت على عبوة على مسافة 500 متر من الحدود. التقدير الفوري كان أن أعضاء الطاقم الأربعة قد قتلوا، ويصعب الاقتراب منهم بسبب نيران المدفعية التي غطت كل المنطقة.
في هذه اللحظة، عبّر حالوتس عن التصميم والروح القتالية. وسأل: «ماذا نفعل؟». أجابه هرئيل «نهاجم بيروت. فمنذ عام ونحن نقول إننا سنحمل مسؤولية ما يجري على الحدود للحكومة اللبنانية، وقد حان الوقت لتنفيذ ذلك».
أجاب حالوتس: «حسناً، فهمت»، وحدد الساعة 14:00 موعداً لمداولات عن إمكانات الرد المتاحة أمام الجيش. ثم صعد إلى مكتبه وأجرى بعض الاتصالات الهاتفية، من بينها ما كُشف عنه في «معاريف» عن بيعه للأسهم في البورصة.
من جهته، قام بيرتس بمهاتفة رئيس الحكومة وقال له إنه من المهم عدم القيام بأي شيء من دون تنسيق، فالوضع يجب أن يكون تحت السيطرة المطلقة. واقترح بيرتس، استناداً إلى ما أمكنه التقاطه من ضباط الجيش: «يجب تحميل الحكومة اللبنانية المسؤولية».
أولمرت، من جهته، وقف أمام الكاميرات في باحة مكتب رئاسة الحكومة وحمّل الحكومة اللبنانية وسوريا المسؤولية، خلافاً للنهج الذي اتبعه لاحقاً. أما (وزيرة الخارجية تسيبي) ليفني فأجرت مشاورات أولية مع المسؤولين في الوزارة، لكن عملية صناعة القرارات كانت بالفعل قد وضعت على سكة واحدة، هي السكة الأمنية. تقرر أن تعقد الحكومة جلسة عند الثامنة مساء، وأن تجري قبلها سلسلة مشاورات أمنية.
***
12:45 – وزارة الدفاع في تل أبيب؛ «لا لتجنيد أي فرد»
في المشاورات المقلصة، التي شارك فيها المساعدون الشخصيون لكل من بيريتس وحالوتس، كان واضحاً لدى الجميع أن الجيش ليس أمام نسخة مكررة لمهاجمة أهداف موضعية في جنوب لبنان، كما حصل في جولتين سابقتين مع حزب الله: الأولى، محاولة الخطف في الغجر في تشرين ثاني 2005، والثانية في 28 أيار 2006 بعد قصف وحدة الرقابة الجوية في ميرون.
أسهم في ذلك حقيقة أن المهانة في لبنان جاءت بعد تدهور مستمر في غزة: تأليف حكومة حماس، ووابل من القسام على النقب الغربي، وأخيراً اختطاف شاليط. في أعقاب الحدث الجديد في الشمال، كان الشعور أن الردع الإسرائيلي قد تحطم إزاء الجيران، وتحول إلى غبار.
قال حالوتس لبيرتس: «نعلم حتى الآن بسقوط سبعة قتلى. منذ خروجنا من لبنان حتى الآن لم يحصل شيء كهذا. هناك تراكمات لشهرين أو ثلاثة أشهر. نحن في نقطة معاكسة، علينا أن نعمل». وكان حالوتس متحمساً لإلحاق ضرر اقتصادي كبير بلبنان، وأضاف: «أوصي بأن نضع الحكومة اللبنانية على المهداف واستهدافها. يجب ضربهم بأقصى قوة، ويمكننا ان نتسبب لهم بأضرار بالمليارات، وأن نقطع الكهرباء عنهم ليبقوا عاماً في الظلام». ولكي يوضح ما يعنيه أضاف حالوتس: «يمكن أيضاً أن نستهدف مطار بيروت أو قصر الرئاسة في بعبدا، وهكذا تفهم الحكومة اللبنانية أن هناك ثمناً لعدم مكافحتها حزب الله». لكنه أوضح «أن هناك ثمناً، لأن الرد سيكون كاتيوشا وصواريخ فجر».
سأل بيرتس «ما هي قدراتنا على شل صواريخ حزب الله باتجاه الخضيرة وحيفا؟». أجابه حالوتس بأن هناك قدرة على ذلك، وتحدث عن خطتين معدتين لدى الجيش لتدمير المنصات الصاروخية متوسطة المدى، 45 إلى 70 كيلومتراً، الموجودة بحوزة حزب الله. «وزن نوعي»، هي خطة لتدمير المنصات الثابتة المتموضعة داخل البيوت في القرى، وخطة أخرى لمهاجمة المنصات المتحركة من خلال اصطيادها على الشاحنات خلال تنقلها. وقال حالوتس «في هذه المرحلة، لا أقترح مهاجمة صواريخ الفجر».
برغم التصميم، لم يتناغم بيرتس مع حالوتس. وقال له إن «معالجة صواريخ الفجر، التي يمكن أن تتسبب بأضرار لنا، أكثر منطقية من استهداف المطار». حدس بيرتس كان سليماً، وأثار موضوعاً حرجاً آخر «ما الهدف الذي نحدده للعملية، هل هو استعادة الجنديين؟ هذا الهدف يمكن أن يورطنا بشكل كبير. لا يتوقع أحد أن يؤدي الضغط فقط إلى استعادتهما». وأجابه حالوتس «بالتأكيد، لدينا تجربة سيئة مع رون أراد».
في المشاورات الأولى، أثيرت مسألة تجنيد الاحتياط. وقال المستشار العسكري لبيرتس، العميد إيتان دانغوت، إن تجنيد الاحتياط ضروري في ضوء احتمال توسع المواجهة. لكن حالوتس أوحى بلغة الجسد أنه لا يحبذ تدخل دانغوت وقال مقاطعاً «لقد أعطيت الأوامر بعدم تجنيد أحد».
بعد الظهر، احتفل الأمين العام لحزب الله بالخطف عبر مؤتمر صحافي في بيروت. قال إن الجنديين موجودان في مكان آمن، وإن الطريق الوحيد لاستعادتهما هي المفاوضات. وخاطب الإسرائيليين مباشرة رافعا إصبعه محذراً: «إذا هاجمتم فستندمون، سنرد بقوة ضد أي محاولة إسرائيلية للدخول إلى لبنان». بدا نصر الله شامخاً وقال ساخراً إن أولمرت مبتدئ وكذلك وزير الدفاع، كما أن رئيس الأركان حديث العهد.
***
الظهيرة- قيادة المنطقة الشمالية؛ غارقون في الخطط
خطط مواجهة حالة اشتعال مع حزب الله كانت معروفة جيداً في الجيش. فقد عملوا عليها لسنين. حدَّثوا، غيروا، واءموا وفقاً لدروس من المناورات وأحداث مختلفة. قبل الخطف بشهر فقط، أجريت مناورة «دمج الأذرع»، التي بدأت، بتنبؤ مثير للقشعريرة، بسيناريو خطف جنود في غزة يتواصل مع خطف إضافي في الشمال أدى إلى حرب مع لبنان.
خلال المناورة نُفذت خطة «مياه الأعالي»، التي وفقاً لها يقصف الجيش بالمدفعية والطائرات أهدافاً في لبنان لأيام، ثم ينتقل إلى عملية برية مؤلفة من 3 فرق. وكانت خطة «مياه الأعالي» في مراحل البلورة النهائية. إضافة إلى هذه الخطة، كانت هناك خطة نافذة سبقتها وهي شبيهة بها، هي خطة «درع البلاد».
في كل الأحوال، حتى ساعات الظهيرة لم تُدرس أي خطة. وأجرى قائد المنطقة الشمالية، أودي آدم، تقديراً للوضع في مقر القيادة في صفد، وأمر بتعزيز موقع «أسترا» في جبل حرمون، خشية أن ينفذ السوريون عملية خاطفة ويحتلونه. كما أمر وحدات المنطقة بأن تكون جاهزة بعد يومين لتنفيذ خطة «مياه الأعالي» أو خطة «المجرفة المناسبة» التي يقوم الجيش بمقتضاها بدفع حزب الله تدريجياً عن الحدود باتجاه الشمال، أو على الأقل خطة «الجلسات الصائبة» التي تشمل تسوية خط الحدود عن طريق تدمير مواقع حزب الله القائمة عليه.
***
14:00 – مكتب رئيس الأركان؛ يد حالوتس العليا
قيادة الجيش اجتمعت في غرفة الاجتماعات داخل مكتب رئيس الأركان. وواصل حالوتس عكس الثقة بالنفس. قال إن المدى الزمني القريب سيسمح لإسرائيل بالعمل في لبنان من دون قيود جوهرية. وقدر، من دون أن يوضح إلى ماذا يستند، أن «نافذة الوقت للرد التي سيمنحها العالم للجيش لن تطول أكثر من أسبوع».
لم يدر حالوتس نقاشا فعلياً، بل حدد وجهة الجيش، وقال: "نحن ذاهبون إلى حرب نارية إلى أن يتقرر أمرا آخر" من دون أن يبقي ثغرة لنقاش حقيقي. و«حرب نارية» هو مصطلح معروف في الجيش يعنى قصف ناري عن بعد، وبشكل أساسي من خلال سلاح الجو وسلاح المدفعية. واضاف حالوتس موضحاً أن تجاوز خط الحدود، حتى على المستوى التكتيكي، يتطلب دراسة. معلناً، على ما يبدو تحت تأثير كارثة الدبابة التي تفجرت خلال إجراء «هنيبعل»، أنه لا ينوي المصادقة على دخول الأراضي اللبنانية.
وتابع حالوتس: «لا أصادق في المرحلة الحالية على أي شيء، وعندما نصل إلى نهاية الإجراء الذي أريد أن نقوم به، سنُسوّي الخط الحدودي. وهذا لا يتطلب أكثر من جرافة دي 9».
لم يعقب أي من الجنرالات، الذين شاركوا في النقاش، على اقوال قائدهم، حتى أولئك الذين ترعرعوا في سلاح البر ويعلمون أن تدمير المواقع الأمامية لحزب الله هو عملية معقدة جداً.
***
15:00 ـــ مكتب وزير الدفاع: بيرتس يغير الاتجاه
لو كانت وزارة الخارجية في الصورة، لربما كان أثير التقدير أنه في هذه المرحلة لن يسمح العالم أن نستهدف البنى التحتية في لبنان بشكل قاس. لكن رئيس الأركان، مصحوباً بتصور عملية جوية تصعق لبنان، قاد الجيش إلى نقاش برئاسة وزير الدفاع، تمت فيه بلورة التوصية الرسمية للمؤسسة الأمنية للرد على عملية الخطف.
قال حالوتس «أقترح أن نضرب لبنان في خاصرته الرخوة، أي في الاقتصاد»، وأضاف بلهجة عدائية «إذا أدى ذلك إلى هجوم صاروخي (من قبل حزب الله)، فأقترح أن ندفع اللبنانيين للعمل على تحميل حكومتهم المسؤولية». وأوصت خطته المفصّلة باستهداف 20 إلى 50 في المئة من البنى التحتية للكهرباء في لبنان. أما التوصيات الأخرى، فكانت مهاجمة هدف واحد داخل الضاحية، وهو مطار بيروت، وكذلك التعرض بشكل قاس للبنى التحتية المتعلقة بالمواصلات والنفط.
إضافة إلى حالوتس، شارك في النقاش رئيس شعبة الاستخبارات، عاموس يدلين، وقائد سلاح البحرية، الجنرال دودو بن بعشات، ورئيس شعبة العمليات، آيزنكوت، وقائد الجبهة الداخلية، الجنرال إسحاق غرشون. كما حضر رئيس الشاباك، يوفال ديسكين، ورئيس الموساد، مائير دغان، ومسؤولون كبار في المؤسسة الأمنية. قال يدلين، في بداية النقاش، «إننا في حدث إقليمي، ولم يضع أي طرف بعد أوراقه. ورقتهم القوية هي صواريخ فجر 3 وفجر 5 الموجودة في حالة جهوزية. كما إن بحوزتهم صواريخ أبعد مدى من ذلك».
طرح آيزنكوت الهدف الاستراتيجي للعملية، الذي أُخذ من خطة «درع البلاد» رغم أن الجيش لم ينو التوصية بالخطة كاملة. قال «نحن نريد صياغة قواعد جديدة، وخلق معادلة ردع جديدة». وأضاف «الفكرة هي هجوم مشترك ضد حزب الله وضد البنى التحتية اللبنانية من أجل دفع السلطات إلى تحمل المسؤولية. لقد أعطينا أوامر بمهاجمة البنى التحتية الكهربائية في لبنان هذه الليلة». لكن حالوتس سارع إلى التصويب «لم يكن ذلك أمراً، وإنما توصية منا للمستوى السياسي».
وخلال النقاش كرر آيزنكوت موقفه بأن الجيش لا يوصي بمهاجمة منظومة الفجر وفقاً لخطة «وزن نوعي»، كما كان حالوتس قد أشار خلال مشاوراته المقلصة مع بيرتس قبل ذلك. وعلل آيزنكوت ذلك بأن القدرة على تدمير هذه المنظومة جزئية، ولذلك إذا حصل هجوم على القرى، فإن ذلك سيؤدي إلى تعرض العمق الإسرائيلي للصواريخ.
بيريتس تعجب قائلاً «وإذا هاجمنا المطار، ألن يكون هناك رد؟».
أجاب آيزنكوت «أعتقد أنه سيكون أقل».
أصر بيرتس «لماذا لا يرد حزب الله بكل الوسائل التي يمتلكها عندما نهاجم المطار، وهو الذي يريد أن يظهر نفسه على أنه حامي لبنان؟»، مضيفا أنه «من ناحيتي، أهم شيء هو أن ننجح في منع، ولو جزئياً، إطلاق الصواريخ على إسرائيل، لأننا إذا هاجمنا المطار وتعرضنا للقصف في العمق، فسنكون في وضع دوني».
أوضح حالوتس أن مهاجمة صواريخ «فجر» ستقترن بإصابة مدنيين، وأن ذلك أمر مشروع بالنسبة لإسرائيل إذا أطلقوا النار علينا أولاً «فهذه المشروعية أمر مهم، لأن خطأ مثل (مجزرة) قانا سيوقف تدحرج العملية». وشرح حالوتس تقديرات سلاح الجو التي تشير إلى أن عدد المدنيين الذين سيقتلون في تدمير صواريخ «فجر» قد يصل إلى 500، رغم أن التقديرات الواقعية تحدثت عن 200 إلى 300. وأضاف «هناك توجه يقول بهجوم استباقي ضد «فجر»، وهناك توجّه آخر يقول إن علينا أن نهاجم أهداف بنى تحتية، وفقط إذا أطلقوا الصواريخ نقوم بمهاجمتهم».
في أعقاب المواقف المختلفة التي سمعها، أجمل بيرتس بأن توصية المؤسسة الأمنية، ستكون بمهاجمة صواريخ «الفجر» من البداية وفي الليلة نفسها، وهذا خلاف للموقف الأصلي للجيش، الذي سار قادته واقتنعوا بضرورة تنفيذ توازن نسبي. وقال بيرتس إن «الصواريخ البعيدة المدى هي موضوع استراتيجي، وإذا أطلقوها علينا فحينها نقوم بالرد مرة أخرى، وهكذا نظهر بمظهر من يردّ». أما في سلّم الأولويات بين ضرب البنى التحتية وبين ضرب الصواريخ، فكانت الأفضلية لضرب الصواريخ لأنها هي الأساس، رغم كل الصعوبات الكامنة في المس بالأبرياء، لكن يجب تجاوز هذه المرحلة.
بخصوص احتمال استهداف البنية التحتية اللبنانية، قال بيرتس إن المؤسسة الأمنية لن تتبنى موقف رئيس الأركان الذي يقول بوجوب الضرب بقسوة لمحطات الكهرباء وللاقتصاد اللبناني، بل توصية الحكومة بالاكتفاء بضرب البنى التحتية بشكل رمزي. وأضاف «تعالوا نترك موضوع محطات الكهرباء الى الغد».
الوحيد الذي ذكر في هذه الجلسة احتمال تنفيذ عملية برية في جنوب لبنان وفقاً لخطة الجيش الإسرائيلي هو رئيس القسم الأمني السياسي في وزارة الدفاع اللواء احتياط عاموس جلعاد، الذي قال بوجوب «الاستعداد لحرب طويلة، فالناس ستهجر من بيوتها في الشمال، وأقترح أن نبحث كل شيء من جديد»، مضيفاً إنه «يجب أن نكون مستعدين لتنفيذ عملية برية رغم أنها عملية غير شعبية». لكنه تجرأ على طرح هذا الاقتراح بحذر. غير أنه في أجواء استبعاد العملية البرية وبشكل كلي، مرت أقواله فوق رؤوس المشاركين في الجلسة، ولم تحظ بالاهتمام والتعليق.
حذر بيرتس من أن الاكتفاء بعملية جوية من شأنه عدم خلق ردع أمام العرب عموماً وحزب الله خصوصاً. وقال «رأينا في غزة أنه عندما تكون الضربات الموجهة لحماس قاسية، كانت تخلق شعوراً بأن الإسرائيليين غير قادمين، وهم لا يقاتلون العدو وجهاً لوجه لأنهم يخافون، وبالتالي فإن عملية الدمج بين ما يحدث على الأرض وبين هجمات من الجو يمكن أن تخلق ردعاً». صدّق إن بيرتس هو من قال ذلك.
وزير الدفاع، الذي تنقصه التجربة، لم تكن لديه الصلاحية الطبيعية لأن يقود خطاً مغايراً كلياً للخط الذي كان يدفع إليه الجيش، حتى لو فكر بفعل ذلك. هو بالفعل دفع باتجاه مهاجمة صواريخ «الفجر»، لكنه لم يوص بضرب أهداف البنى التحتية كما كان يريد الجيش، لكن الرؤية المتعلقة بإمكان الصدمة الجوية لم يكن باستطاعته تغييرها من الأساس. وهكذا، خلافاً للأقوال التي قالها، قرر أن يوصي الحكومة بعملية جوية فقط.
قال بيرتس «أريد أن أجعل حزب الله يندم على ما فعله وألا يقوم بتكراره ثانية، الهدف أن يكون حزب الله مضروباً وملاحقاً وليس تعليم دروس لسوريا أو للبنان». وأضاف «أنا لا أفهم كيف أنه حتى الآن لم ينجحوا في الوصول الى الدبابة المستهدفة (في عيتا الشعب)، فإذا كنا نفكر بعمليات بعيدة المدى لاحقاً ونحن حالياً ما زلنا نقف على مسافة 500 متر من الحدود طوال ست ساعات ولا نستطيع الوصول الى الدبابة. من غير الواضح كيف سننفذ كل ما نخططه. السؤال بقي من دون إجابة. وبعد وقت قصير من هذه الأقوال جاء المستشار العسكري لبيرتس بالخبر القاسي الذي يتحدث عن مقتل الجندي نمرود كوهين وهو الجندي الثامن في اليوم نفسه. لكن هذه المرة قتل في إطار المحاولات للاقتراب من الدبابة المصابة، والتي تمت تحت أمطار من القذائف ونيران الأسلحة الرشاشة.
***
بعد الظهر ـــ تحييد أميركي لحكومة السنيورة
في نشرات الأخبار الأميركية، جرى بث تصريحات أولمرت التي توجه إصبع الاتهام الى الحكومة اللبنانية، مع تهديد غير مبطّن لسوريا. رئيس الولايات المتحدة جورج بوش ووزيرة الخارجية كوندوليزا رايس سارعا للوقوف الى جانب إسرائيل بشكل علني، لكن في الخفاء أوضحت رايس لأولمرت أن المس برئيس الحكومة اللبنانية فؤاد السنيورة غير وارد في الحسبان. السنيورة يعتبر عزيز الغرب، رغم ضعفه السياسي في الداخل. كان الغرض من دعمه هو أن يقف قبالة المحور الآخر في لبنان، المقرب من سوريا وإيران. أما أولمرت فقد أسرع الى التعهد بألا تمس إسرائيل مطلقاً بالبنى التحتية.
وهكذا، ومن دون تفكير زائد، بل من دون تفكير أصلاً، نشأت وصفة مضمونة للفشل الإسرائيلي. المؤسسة الأمنية تحركت نحو الأمام من ساعات الصباح، بنيّة الوصول الى إنجازات بعيدة المدى، فقط من خلال استخدام سلاح الجو، والمستندة على فرضية أن المس الشديد بالبنى التحتية سيجبر الحكومة اللبنانية على العمل ضد حزب الله. لكن بعدما تبين أيضاً أن الضغط المباشر على حكومة لبنان لن ينفذ بسبب الاعتبارات السياسية، بقيت فكرة الضربة الجوية قائمة كما هي.
***
19:00 مكتب أولمرت : عملية وزن نوعي
النقاش الذي اتخذت فيه إسرائيل القرار بالرد على خطف الجنديين وعلى مقتل ثمانية جنود آخرين على يد حزب الله، جرى في مكتب رئيس الحكومة، ووصل إلى المشاورات كل من وزير الدفاع ورئيس الأركان وكبار ضباط الجيش، وكذلك مسؤولي الموساد والشاباك. أما وزيرة الخارجية ليفني فلم تدع.
خلال النقاش، كررت الجهات الأمنية المختلفة المواقف التي ذكرتها بالمشاورات الأمنية السابقة. لكن وزير الدفاع لم يكن من بين المتحدثين. فقد نقل توصيات المؤسسة الأمنية الرسمية، ورئيس الحكومة زاد من خطورة نظرية بيرتس، الذي أيد ضرباً محدوداً لرموز الحكومة اللبنانية، مثل الإغارة بالقرب من قصر الرئاسة في بعبدا. وكما تعهد لرايس، قرر أولمرت أنه لن يهاجم أهدافاً لها علاقة بالسلطة اللبنانية.
بخصوص ضرب أهداف بنى تحتية، صادق أولمرت على ضرب أهداف يمكن التوضيح من خلالها للعالم بأنها تستهدف مباشرة حزب الله. فعلى سبيل المثال، ضرب المرافئ الثلاثة في أنحاء لبنان، بما في ذلك المطار الدولي في بيروت، يتم عرضه بأنه وسيلة لمنع إخراج الجنود المخطوفين من لبنان وإحباط محاولة تدفق الأسلحة إلى المخربين. الهجوم على مطار بيروت، كما تقرر، يجري بشكل يمكن إصلاحه بسرعة. وكذلك تقرر مهاجمة جسور في أنحاء لبنان من أجل وضع صعوبات على حركة قوات حزب الله، لكن عدم تخريب الطريق البحري اللبناني، كي يستطيع سكان جنوب لبنان الفرار شمالاً. كما تمت المصادقة على مهاجمة خزانات الوقود جنوب بيروت والقيام بحصار بحري وجوي كامل على لبنان. صادق أولمرت على مهاجمة أهداف لحزب الله في جميع أنحاء لبنان، بما في ذلك شمال البقاع اللبناني، في بعلبك، وقبل كل شيء شن هجوم على صواريخ «الفجر».
***
20:00 جلسة الحكومة
التوقيع على العملية
بخلاف ما يعتقده الكثيرون، ليست الحكومة مؤسسة مقررة، لأن ما يقال فيها يجري تسريبه الى وسائل الإعلام، بل ان القرارات المهمة تتخذ من قبل رئيس الحكومة ومساعديه، وتعرض على الحكومة، إذا ما عرضت، وهي ناضجة. حتى المجلس الوزاري المصغر، المشكل من الوزراء الكبار، يعتبر مجرد تجمع أهم بكثير من الحكومة بكامل أعضائها. وخلال جلستها مساء الثاني عشر من شهر تموز، قامت الحكومة بغرضها التقليدي، كموقِّع على القرارات.
***
23:00 المجموعة السباعية
عرضت خطة «وزن نوعي» والأهداف الإضافية للهجوم بشكل منفرد داخل مجموعة خاصة أعطيت صلاحية من قبل الحكومة للمصادقة على الهجوم. كان هناك سبعة في هذا التجمع، أولمرت وستة وزراء كبار، عامير بيرتس، شاؤول موفاز، شمعون بيريز، وآفي ديختر، وإيلي يشاي. أما الوزراء الآخرون فذهبوا في سبيلهم، وناقشت «السباعية» الأهداف التي عرضت على خريطة نشرت على طاولة.
آيزنكوت كان من القلة من بين ضباط الأركان العامة الذين شاركوا في جلسات الوزراء، وسجل انطباعاً بأنهم لم يفهموا حقيقةً مغزى القرارات التي اتخذوها، لكنه وقّع في الليلة الواقعة بين 12 و13 تموز في الساعة الثالثة فجراً على أمر تنفيذ عملية «جزاء مناسب» رقم واحد، التي هدفت الى تعميق الردع ووقف الإرهاب من لبنان ودفع الحكومة اللبنانية والمنظومة الدولية الى تحمل مسؤوليتها والسيطرة الأمنية على جنوب لبنان.
رغم أن رئيس الحكومة حدد أنه لن يمارس ضغطاً مباشراً على حكومة لبنان، وأن الهجمات ستتركز فقط على أهداف لحزب الله، إلا أن الهدف الثاني للعملية كان «ممارسة ضغط على حزب الله لإرجاع المخطوفين»، علما بأنه في الجلسات وعلى مدى ساعات اليوم الكاملة، قال وزير الدفاع، ورئيس الأركان أيضاً، إنه ممنوع بأي حال من الأحوال تحديد إرجاع المخطوفين كهدف.
الهدف الإضافي تمثل في «توجيه ضربات قاسية لحزب الله مع إبقاء سوريا خارج المعركة»، والهدف الآخر هو عدم الوصول إلى تنفيذ خطة «مياه الأعالي»، أي تجنب عملية برية على الأراضي اللبنانية. يعني أن جيش الدفاع وضع لنفسه هدف عدم تنفيذ خطة وضعها هو وأعدّها لظروف وجد نفسه فيها في اليوم المصيري في 12 تموز.
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد