نظرية جديدة في علم الاقتصاد تتوصل إليها مديرية الآثار
الجمل ـ عماد حاج علي: انتشرت مؤخراً في سورية ظاهرة تشديد الحكومة على وزاراتها ومؤسساتها الرسمية لصرف الميزانيات المخصصة لها خلال العام، ورافق هذا التشديد وعيد بمحاسبة المؤسسات التي لا تصرف ميزانياتها، وتهديدها بتخفيض ميزانيات السنوات القادمة. وذلك كجزء من عدم قناعة الحكومة بالكلام المعسول والإعلامي لمدراء تلك المؤسسات عن نجاحهم العظيم في عملهم، ومطالبتهم بالتحول إلى لغة الأرقام التي تعطي دائماً النسب الحقيقية للنجاح.
وأمام هذه الحالة سارعت كثير من مؤسسات الدولة للتركيز على مشاريعها، ومتابعتها خطوة خطوة، وإيلائها الأهمية الأولى ضمن برامجها الخاصة، لأن عدم صرف الأموال المخصصة لتلك المشاريع سيعرض المدير العام للمؤسسة للمساءلة أمام وزارته، وأمام مجلس الشعب، ورئاسة مجلس الوزراء، وقد تكون نتيجة عدم صرف الميزانية هي ببساطة صرف المدير أي إعفائه من عمله، رغم أننا لم نسمع خلال العامين الماضيين بخبر إعفاء أي مدير عام من منصبه بسبب عدم صرفه لميزانية مؤسسته، لكن هذا السيف يبقى مسلطاً فوق رؤوس المدراء، فتكثر تعاميمهم إلى مرؤوسيهم، وخاصة أولئك العاملين في إدارة المشاريع والعقود، تطالبهم بمتابعة المشاريع وصرف الكشوف وتسهيل العمل.. تحت طائلة المساءلة. وفي نهاية العام، يعود جزء من تلك الميزانية إلى خزينة الدولة دون أن يصرف، والأسباب الموجبة دائماً جاهزة، ومعروفة، وتستمر عجلة الحياة بصدئها المعروف الذي أبطأ التطور والنمو.
بعض الإدارات لم ترض إلا أن تكون في الصدارة من حيث صرف الميزانية، فآلت على نفسها أن تصرف ميزانيتها مهما كانت الأسباب، ومهما كانت الطرق المتبعة، قانونية أو غير قانونية، منطقية أو غير منطقية، المهم أن تصرف الميزانية ولا يعود أي قرش إلى خزينة الدولة في نهاية العام.
أهم الطرق التي تتبعها بعض الإدارات، هي تنفيذ الأعمال بطريقة سريعة ودون مراقبة، مما يعطي في النهاية مشاريع منفذة في وقتها، لكنها بنوعية سيئة. وطريقة أخرى هي تحويل بنود الموازنة من المشاريع الصعبة التي تحتاج لجهود حقيقية لصرف ميزانيتها إلى مشاريع سهلة وسريعة تصرف كثيراً من الأموال وبزمن قصير.. وقد تحول تلك الأموال إلى بنود لشراء معدات وتجهيزات قد تكون الإدارة ليست بحاجة حقيقية لها. ومن الطرق غير القانونية صرف كشوف مالية لبعض المشاريع لأعمال لم تنفذ بعد، على أمل تنفيذها لاحقاً خلال الوقت الضائع بين نهاية العام وبداية العام الجديد..
تجاوزت مديرية الآثار في عام 2006 كل تلك الطرق التقليدية لصرف ميزانيتها الاستثمارية، وكانت النتيجة في نهاية العام أن نسبة التنفيذ حوالي 99%، لكن كيف حدث ذلك.. لا أحد يدري، على الأقل قبل كتابة هذه السطور..
لم تستنفر مديرية الآثار لتنفيذ مشاريعها الاستثمارية، ولم تتعب نفسها بالبحث عن حلول جدية لتسريع وتيرة العمل، ولم تضطر لإجراء مناقلات بين بنود الميزانية لشراء معدات أو أجهزة أو شراء أراض لبناء متاحف أو غيرها، أو لتنفيذ مشاريع سهلة.. بل لجأت لطريقة أسهل بكثير، وأبسط بكثير، طريقة سحرية، أقل ما يمكن القول عنها أنها طريقة (التنابل) أو (قليلي المروة).. لكن تلك الطريقة، رغم بساطتها، وسذاجتها، تحمل بين طياتها مهارة إدارية لا يستهان بها، وتستحق أن تأخذ عليها براءة اختراع يجب تعميمه على كافة مؤسسات الدولة لتستفيد منه في الأعوام القادمة لتصبح كافة تلك المؤسسات ناجحة، وبالتالي يصبح هذا الوطن معافى.
قبل الحديث عن تلك الطريقة السحرية، يشار إلى أن ميزانية مديرية الآثار كانت في العام الماضي حوالي 500 مليون ليرة، أقل من نصفها خصص للميزانية الجارية، وهي لصرف رواتب العاملين والمحروقات والتعويضات وغيرها مما لا يمكن التلاعب بها، وهي ميزانية بالطبع قليلة جداً، وبالكاد تكفي، وتصرف بشكل روتيني دون أي عناء.
وأكثر من نصف الميزانية خصص للميزانية الاستثمارية التي ستصرف على تنفيذ المشاريع المتنوعة كأعمال التنقيب والترميم وبناء المتاحف وصيانتها.. وهي الميزانية التي تطالب الحكومة بصرفها، لأنها المؤشر الحقيقي على عمل أي مؤسسة، والمؤشر الحقيقي على نسبة النمو والتطور في أعمال أي مؤسسة..
بلغت الميزانية الاستثمارية لمديرية الآثار في عام 2006 مبلغ 357 مليون ليرة سورية، وقد قسمت تلك الميزانية كما يلي:
ـ لأعمال التنقيب التي تقوم بها كافة بعثات التنقيب الوطنية (مبلغ حوالي 20 مليون ليرة).
ـ لشراء المعدات والتجهيزات وغيرها (مبلغ حوالي 20 مليون ليرة).
ـ للتعويض عن استملاك الأراضي (مبلغ 45 مليون ليرة).
ـ لمشاريع الترميم والبناء والصيانة وغيرها (حوالي 270 مليون ليرة).
لا بد من التذكير بأن أعمال التنقيب، بسبب قلة عدد البعثات الوطنية العاملة في القطر، وكثرة تنفيذ أعمال التنقيب الطارئة، تستهلك كل عام معظم المبلغ المرصود لها بشكل طبيعي، وبالتالي لا مجال للحديث هنا عن تميز في مديرية التنقيب بسبب صرفها للميزانية المخصصة لها، ونجد هنا من المفيد المقارنة بين مجمل المبلغ المخصص لكافة بعثات التنقيب في سورية وعددها يتجاوز العشرين، وبين ميزانية بعثة تنقيب أجنبية واحدة تعمل في القطر، قد تكون ميزانيتها مساوية لذلك المبلغ بأكمله.
كما أنه لا بد من التذكير بأن صرف المبلغ المخصص للاستملاك، مهما كان كبيراً، لا يعطي أي مؤشر على نشاط المؤسسة، لأن أي مؤسسة حكومية قادرة على صرف مليارات الليرات على استملاك أراض قد لا تكون بحاجة فعلية لاستملاكها، أو على الأقل لا تكون بحاجة ماسة لها ضمن الأولويات ويمكن تأجيلها. ونفس الكلام يقال عن المبالغ المخصصة لشراء المعدات والتجهيزات.
لذلك، يبقى المبلغ المخصص لتنفيذ المشاريع، وهو الرقم الذي يشير إلى نشاط المؤسسة، ومدى متابعتها لتنفيذ مشاريعها الاستثمارية، والذي يجب أن يعطي صورة حقيقية عن نسبة تنفيذ تلك المؤسسة لأعمالها وصرف الميزانية المخصصة لها. خاصة أن أهم عمل في مديرية الآثار هو المحافظة على المواقع الأثرية من خلال تنفيذ تلك المشاريع فيها.
ما حدث في مديرية الآثار، أن نسبة تنفيذ المشاريع بقيت منخفضة جداً حتى الشهر الأخير في العام (لم تتجاوز 30%)، وفي الشهر الأخير من العام، بدأت تأتي الكشوف المالية بوتيرة سريعة تعكس الانتهاء المفاجىء لتنفيذ تلك المشاريع.. وهنا لا بد من التساؤل عن مدى دقة تنفيذ تلك المشاريع، أم أنها كما يقال (سلقت سلقاً) لصرف الميزانيات المخصصة لها.
ومع ذلك، بقيت مشاريع هامة جداً لم تنفذ، قد يكون أهمها مشروع الحماية الأمنية لبعض المتاحف وصلت قيمته الافتراضية لحوالي أربعين مليون ليرة.
إضافة لذلك، مشاريع كثيرة لم تصل نسبة تنفيذها لأكثر من 70%..
كان على إدارة الآثار أن تلجأ لحل سحري، فماذا فعلت.
قامت المديرية بتنفيذ مناقلة بين بنود الميزانية، لن نتحدث عنها بالعموميات، بل بالأرقام التي بين أيدينا، إذ تم تخفيض موازنات مجموعة من المشاريع كما يلي:
ـ من بند تأهيل المتاحف (البند 344)، تم تخفيض مبلغ 17 مليون من أصل 32 مليون.
ـ من بند مشروع الحماية الأمنية (البند 333)، تم تخفيض مبلغ 41 مليون من أصل 41 مليون.
ـ من بند الترميم العام (البند 311)، تخفيض 7.7 مليون من أصل 113 مليون.
ـ من بند مشروع متحف الحسكة (البند رقم 334)، تخفيض 7 مليون من أصل 35 مليون.
ـ من بند مشروع متحف اللاذقية (البند 338)، تخفيض 2.1 مليون من أصل 2.5 مليون.
ـ من بند مشروع متحف الرقة (البند 342)، تخفيض 2 مليون من أصل 2 مليون.
كما تم تخفيض ثمانية بنود أخرى بأرقام مختلفة لا داعي لذكرها، إذ تم ذكر الأرقام الكبيرة فقط، ولكن بلغ المجموع العام لتخفيض تلك البنود 81 مليون ليرة (المناقلة بالقرار 900/و.ل تاريخ 5/12/2006).
من الناحية القانونية، يجوز تخفيض موازنة بعض المشاريع التي تعاني من مصاعب أو عراقيل أو حالات طارئة أو غير ذلك مما يبطىء حالة العمل، وذلك لدعم مشاريع أخرى اقتضت الضرورة صرف مبالغ أكبر عليها أو لتنفيذ مشاريع جديدة أو طارئة أو غيرها. وبحيث يبقى المبلغ العام للميزانية كما هو.
السؤال الآن، إلى أين نقلت مديرية الآثار مبلغ 81 مليون من الميزانية الاستثمارية..
بكل بساطة، وبكل أريحية، تم نقل ذلك المبلغ إلى بند الاستملاك ليصبح 126 مليون بعد أن كان 45 مليون، ولتصرف تلك الأموال كثمن للأراضي المستملكة، علماً أن القانون سمح بخمس سنوات كمهلة للإدارة لتعويض ثمن الاستملاك، إذا لم تتوفر الميزانية الكافية لدى المؤسسة لدفع القيمة في نفس العام. وهكذا بدلاً من أن تتم مناقلة من بند الاستملاك لدعم تنفيذ المشاريع الاستثمارية، حدث العكس.
قد يقول قائل، المهم أن الأموال صرفت بشكل صحيح، وستدفع قيم الاستملاك عاجلاً أم آجلاً هذا العام أو في المستقبل.
هذا صحيح، ونحن لا نشكك بهذه الحقيقة، لكن من المنطقي تسمية الأشياء بمسمياتها، ومن غير المعقول أن تكون نسبة تقصير المديرية بتنفيذ مشاريعها الاستثمارية (81 من 270) أي نسبة التنفيذ الحقيقية 70%، بينما تكون نسبة تنفيذ المديرية لأعمال الاستملاك (126 من 45) أي نسبة التنفيذ 280%، وفي هذه الحالة يمكننا تسمية المديرية باسم المديرية العامة لاستملاك الأراضي، بدلاً من تسميتها باسمها الحقيقي المديرية العامة للآثار والمتاحف وهو الاسم الذي يشير إلى أن الهدف الرئيسي لوجود المديرية هو ترميم المباني الأثرية والحفاظ عليها وتطويرها، وبناء المتاحف وصيانتها وحمايتها أمنياً، وليس استملاك الأراضي وحسب. علماً أن كامل المبلغ المخصص للترميم والبناء والصيانة (270 مليون) إذا ما قورن بالمتطلبات الحقيقية التي تحتاجها فعلياً مديرية الآثار، هو مبلغ قليل جداً، وللمقارنة، فقد بلغت ميزانية المشروع الإيطالي المخصص لدعم قطاعات صغيرة في تأهيل بعض المتاحف السورية 3 مليون يورو (حوالي 200 مليون ليرة) أي أكثر من كل الميزانية التي صرفت العام الماضي في مديرية الآثار على ترميم العشرات من مواقعها. هذا مع الأخذ بعين الاعتبار أن معظم مؤسسات الدولة تشكو من قلة الميزانيات المخصصة لها، إلا مديرية الآثار يبدو أنها ليست بحاجة لذلك المبلغ الصغير المخصص لها، فمواقعها الأثرية في كل محافظات القطر بحالة جيدة، وصيانتها كاملة، ولا تعاني من أي مشاكل.. والمشكلة الوحيدة التي بقيت أمام مديرية الآثار هي فقط استملاك أراض جديدة.
الجمل
إضافة تعليق جديد