نور الدين فارح وكتبه التي جلبت له الجوائز والمتاعب والمنفى

29-04-2006

نور الدين فارح وكتبه التي جلبت له الجوائز والمتاعب والمنفى

منذ مدة والأدب الأفريقي يطرح نفسه في قلب سجالات العالم الثقافي، وما حصول الكاتب النيجيري وول سوينكا على جائزة نوبل للآداب، وفي ما بعد نادين غورديمير، على الجائزة ذاتها، إلا اعتراف بأهمية هذا الأدب. هذا بالطبع إذا لم نعدد مئات الكتاب الأفارقة الذين يتركون بصماتهم الواضحة على خارطة الأدب الحديث. الكاتب الصومالي نور الدين فارح، هو واحد من أولئك الذين يفرضون أنفسهم حالياً، من أبرز كتّاب العالم. مؤخرا صدرت له ترجمة عربية لروايته <خرائط> عن منشورات <الجمل> في كولونيا (نقلها إلى العربية سهيل نجم). حول سيرته وأدبه، هذه المقاربة.
في حوار أجرته معه صحيفة <ليبراسيون> الفرنسية عدد 17 تشرين الثاني العام 1994 قال نور الدين فارح إنه <لولا الصدف، لكنت كاتباً عربيا>. ويمضي معرفا بقصته هذه على الشكل التالي: <كنت اكتشفت، في هذه اللغة العربية، لمّا كنت مراهقاً، أعمال فكتور هوغو ودوستويفسكي. وبهذه اللغة، أيضاً، كتبت نصوصي الأولى، التي كانت نصوصاً تستقي مادتها من السيرة الذاتية البحتة. لكني أمتلك حساً عملياً. ففي اليوم الذي قررت فيه أن أصبح روائياً أردت أن أشتري آلة كاتبة. في تلك الحقبة، أي في الستينيات، لم يكن من الممكن أو كان من المستحيل إيجاد آلة كاتبة ذات حروف عربية في مقديشو، أو حتى باللغة <الأمارية، لغة سيدنا الكولونيالي>. فاللغة الصومالية لم تثبت في شكلها الكتابي إلاّ في السبعينيات>.
إزاء ذلك كله، أصبح نور الدين فارح كاتباً باللغة الإنكليزية، متبنياً بذلك لغة مهنة والده الذي كان يعمل مترجماً بالقرب من الإدارة البريطانية في الصومال. اعتبره سلمان رشدي <أحد أهم روائيي أفريقيا>، كما حيته دوريس ليسينغ ونادين غورديمير. وهو من دون شك، أحد أكثر الكتّاب فرادة، نظرا إلى التأثيرات المتنوعة التي تعرض لها خلال طفولته في الصومال، في هذا القرن الأفريقي الواقع بين أثيوبيا وخليج عدن.
نور الدين فارح، أول كاتب صومالي، بكل ما للكلمة من معنى، إذ إنه أول من قطع مع التقليد الشفهي، والثقافة الشفوية، اللذين كانا يسيطران على الحياة في بلاده. ترجمت كتبه إلى أكثر من 14 لغة. وقد جلبت له كتبه العديد من الجوائز الأدبية الدولية، لكنها جلبت له أيضاً العديد من المتاعب مع السلطات السياسية في الصومال. إذ أرغمه الرئيس سياد بري على مغادرة البلاد واختيار المنفى.
أساطير
ولد في شهر تشرين الثاني من العام 1945 في (بيضا)، وهي قرية صغيرة في جنوب الصومال. عندما فقد الإيطاليون مستعمراتهم بعد الحرب العالمية الثانية، رُحِّل والده بصفته عاملاً في الإدارة البريطانية. فنشأ في مقاطعة الأوغارين. حين بلغ الرابعة من عمره، أرسل إلى المدرسة القرآنية، ومن ثم، في ما بعد، إلى المدرسة الإنكليزية. في الفترة الصباحية كان يدرس التوراة باللغة الإنكليزية، وبعد الظهر، القرآن باللغة العربية. من هذه الدراسة خلص إلى القول <ثمة أساطير كثيرة مشتركة بين الكتابين>.
من هذا العلم المزدوج، تأتي إحدى ميزات أدب نور الدين فارح وخاصياته: التسامح والإرادة المنهجية في معالجة كل سؤال، من مختلف وجهات النظر. فهو، أي الكاتب، كان قد تغذى بشكل كامل من التخيلات المتضادة، وقد احتفظ من طفولته بهذا الحس التعاقبي. يقول، في حديثه مع الصحيفة الفرنسية: <عندما كنت في الثانية عشرة، وعندما كنت أتعب من التقاليد الشفهية الصومالية، كنت أقرأ <البؤساء> أو <الجريمة والعقاب> باللغة العربية. وما كان يدهشني أكثر من غيره، وصف الثلوج. وبما أني لم أكن قد شاهدت الثلج قبلاً، فإن ذلك كان يعطيني الإحساس بالفقر. لذلك فإن رغبتي في الكتابة، جاءت من الرغبة في إعادة اختراع عالم، يستطيع فيه أي طفل صومالي أن يتعرف إلى ذاته...>.
في نص له بعنوان <طفولة انفصام شخصيتي> وهو نص سيرة ذاتية، قصير، نشر في مجلة <الآداب العالمية> ( Les Lettres internationales، العدد 28 ربيع العام 1991) يتذكر نور الدين فارح سنواته الأولى في مدينة <كالافو> الصغيرة، كذلك يروي دهشته وانبهاره بالأنهار، خصوصاً نهر <شبل> الذي كان عليه أن يجتازه كي يذهب إلى المدرسة، وهو <نهر تغزوه التماسيح> (الحقيقية بالطبع) كما يتحدث عن الأنهار التي تخيلها عبر قراءاته: <كنا نكتشف متعة بلا حدود، ونحن نسبح في الأنهار التاريخية، في البحور والمحيطات القديمة، تارة في الفرات وطوراً في البحر الأحمر، اللذين كنا نجتازهما برفقة موسى، إذ إن سلته التي من <السوخر>، كانت معروفة لدينا من خلال المراجع القرآنية، وأحياناً كنا نسبح في نهر الغانج، في المياه المقدسة التي كنا نغطس فيها كي نطهّر أرواحنا، وأحياناً أخرى في نهر التاميز أو في النيل. فجأة، كنا نعبر على ضفة النهر الأخرى، وكم كانت تحزننا فكرة أن آباءنا لم يكونوا هنا، كما لم تكن أسماء أنهارهم الخاصة موجودة، ولا أسماء ضيعنا ومدننا، وهي أمكنة بلا معان تاريخية، لم تكن تستحق إشارة في الآداب الدنيوية أو المقدسة التي كنا محظوظين أو تعيسين في لقائها...>.
لم تكن القطيعة مع التقليد الشفهي، مع ذلك، قطيعة جذرية بهذا الشكل الذي يتحدث عنه نور الدين فارح. فالنبرة المميزة، الموجودة في رواياته، ما زالت تحتفظ بأثر ذلك. <إن نظرته تغطس إلى أعمق الأعماق، تحت سطح الأحداث>، هذا ما كتبته عنه نادين غورديمير (في مقالة لها نشرته في مجلة <النيو يوركر> عدد 25 31 تموز العام 1995 وأضافت فيه: <انه يستكشف أفراح حياتنا وأحزانها، فشلها ونجاحاتها. إن نثره يدع الشعر الذي يخفيه بالظهور...>. فنور الدين فارح ولد لعائلة من الشعراء. كان جده شاعراً، وأمه أيضاً. يقول: <إن تجربتي الأولى في التأليف، جاءتني حين كنت أشاهد والدتي. في تلك اللحظات بالذات، كانت تنزوي، وإن كانت تسامح حضوري. كنت أراها مشغولة. كانت تذرع الغرفة ذهاباً وإياباً، بالطول والعرض. فجأة، يلتمع نظرها. كانت تبدو سعيدة، وتبدأ بالغناء. من ثم كانت تتلو قصيدتها أمام شخص أو اثنين. هذا هو كل ما في الأمر، لم تكن تكتبها أبدا>.
وإذا كان تأثير والدته أمراً واضحاً، فإن ذلك لم يدفع الكاتب إلى إكمال التقاليد بأن يصبح شاعراً. كانت اللغة المكتوبة تدهشه جداً. يقول: <في كتاب <ألف ليلة وليلة>، هناك شخص يدعى نور الدين، كنت أعشق هذا الكتاب، لكن ما كان يروق لي زيادة، ذلك الشخص الذي كان يحمل اسمي، في كل مرة كنت ألتقيه فيها، كنت أقطع الصفحة الموجود الاسم فيها كي ألصقها على دفتري المدرسي وكي أستطيع أن أقول لرفاقي في المدرسة: أنظروا، إن اسمي مطبوع. كم من مرة عوقبت لأنني مزقت الكتب!>.
اعتراف محرم
إن الرغبة في الكتابة عند فارح تأتي أيضا من الإحساس بأنه كان أيضاً شاهداً مميزاً على تاريخ الصومال المتأجج: <كان والدي تاجراً لبعض الوقت. كنت أذهب في أغلب الأحيان إلى متجره حيث كنت أهتم بمراقبة الزبائن. كانوا من الرُحّل. كنت أطلب منهم أن يقصوا لي القصص، كنت أسألهم من أين يجيئون، لماذا ثيابهم مغبرّة.. إلخ. وكان لعمل والدي كمترجم بالقرب من الإدارة البريطانية ما يسمح له بمشاهدة جميع الأحداث القاطعة في تاريخ بلدنا. كنت أعرف جيدا حاكم <الأوغادين> البريطاني. كان والدي يصطحبني، أغلب الأحيان، إلى منزله. وكان يقدم لي الحلوى. أخجل من قول ذلك، ولكنني كنت آخذ جميع ما كان يقدمه لي. وفي ما بعد فكرت في أنني لو اضطلعت بمسؤولية ما، فإنها سوف تكون كتابة تاريخ بلدي، لكن ليس أبداً من وجهة نظر البريطانيين وإنما من وجهة نظر الصوماليين>.
ومع ذلك، فقد تطلب الأمر مواربة ما، من خلال أحد هذه العوالم المتناوبة. التي يتسلى فارح في اكتشافها، كي يكتب روايته الأولى. ففي فترة نهاية دراسته تقريباً، تلقى عرضاً بمنحتين دراسيتين: واحدة كي يذهب إلى الهند لدراسة الفلسفة، والثانية لمتابعة دروس ومحاضرات الأدب الأميركي في إحدى جامعات <ويسكونسين>: <كنت قد قرأت كتاب سومرست مومر <على حد الشفرة> وكنت قد وقعت بغرام فكرة ما عن الشرق. رفضت الولايات المتحدة، لأنه سبق لي أن رأيت في مقديشو بعض الصوماليين الذين عادوا من أوروبا أو أميركا. كانوا مهووسين بشكل خاص بالنظافة، حتى إنهم كانوا يغسلون أيديهم حتى قبل ملامسة ذويهم. كنت فخوراً جداً بأهلي...>.
بعد 4 سنوات في الهند حيث كتب <مولودة من ضلع آدم>، عاد نور الدين فارح إلى الصومال وتصادفت عودته مع وصول سياد بري إلى سدة السلطة. درّس في الجامعة. وهو يعترف اليوم بأنه كان يقاسم الحماسة الثورية للنظام الجديد، لدرجة أنه كتب بعض المدائح المفرطة. يصف تلك المرحلة بالقول: <في العام ,1970 أقيم أول مهرجان للشبيبة على النمط السوفياتي. كان هناك ما يقارب خمسة آلاف شاب وقد اجتمعوا وهم يهزون الأعلام. كان الجميع متحمسين، وكنت بدوري كذلك>. لكنه لم يتأخر في التخفيف من غلوائه، فقد مُنعت إحدى مسرحياته من العرض بحجة أنه يضع على المسرح شخصية سكير.
أول مشاريعه الروائية كان مجموعة من أربعة كتب حول الدكتاتورية. الجزء الأول منه بعنوان <إبرة المسلول>، وقد بعث بها إلى الناشر اللندني <هاينمان> العام ,1972 لكن هذا الأخير فضّل الانتظار كي يغادر الكاتب الصومال، قبل نشر الكتاب. في العام ,1974 وصل فارح إلى لندن كي يتابع دروسه المسرحية، فصدر الكتاب في تموز .1976 <كنت يومها قد انتهيت من الكتابة الأولى لرواية <حليب ولبن>، وكنت أستعد للعودة إلى الصومال حيث كنت أنوي إعادة العمل فيها. لكن صدور الرواية (إبرة المسلول) أثار الكثير من المقالات في الصحف، حيث إن بعضها تحدث عن سخريتي وفظاظتي تجاه سياد بري. فبعثت السفارة الصومالية في لندن بتقرير إلى مقديشو. كنت أجهل ذلك كله. وفي طريق عودتي، مررت بإيطاليا، فاتصلت هاتفياً بأخي كي يصطحبني من المطار. فنصحني بالانتظار ثمانية أيام. فتحول منفى الأيام الثمانية إلى عشرين سنة. كتبي ممنوعة في الصومال، حتى إنه ممنوع لفظ اسمي>.
لم تكن المماطلات الحذرة هي من قاد نور الدين فارح إلى رفض الكتاب الرواية التي رسمت بداية متاعبه السياسية وإنما الاعتبارات الأدبية، من يقف خلف ذلك. فالكاتب اليوم، لا يرغب في إعادة طباعتها مجدداً. <إن البطل هو شاب مثقف وقح يمضي وقته في التبجح، إنه شاب تهكمي وعدو للمرأة. ولا أرغب في أن يرتبط اسمي باسمه>. إن الارتباك يكمن في أن فارح هو نقيض الشخصية التي يتحدث عنها في روايته الأولى <مولودة من ضلع آدم>. إذ بالإمكان اعتبارها تسبق وتتقدم الأفكار النسوية الأوروبية، إذ تحتوي على موضوعات كان من المحرم الاعتراف بوجودها.
بهذا المعنى يبدو فارح واحدا من أهمّ روائيي إفريقيا، وأحد أكثر ممثلي الرواية الحديثة، رهافة. ثمة عدد من الكتّاب قبله، ابتعدوا عن مفهوم المركز الأوروبي للتقدم الاجتماعي، إلا انه أكثرهم اكتمالا. فمفهومه محافظ ومتشائم بشكل عميق، بالمعنى الذي يعتبر فيه أن كل تطور اجتماعي يفكك مجتمعا تقليديا وعضويا، يشكل فقدانا وتدميرا. ربما كان فقدانا يستحق عذاب الاضطلاع به كي يمر إلى شيء آخر: الحق في الدخول إلى نمط حياة أكثر تفتحا وتسامحا، أو نحو الوجود المتوحد، الأعظم، لمثقف مديني. مهما يكن من أمر، فإن التحديث (سبب تحولات الكائن هذا)، يجلب دائما العذاب وعدم الفهم بين الأجيال، كما الكراهية والنفور. الدموع التي تسكب بسبب هذا الألم، تغرق أعمال تولستوي، موزيل، بلزاك، هنري جيمس، جورج اليوت. كذلك نجده يذرف قليلا من الدموع، لكن، لا على قساوة التغيير.
في الصومال، حيث كبر، كان التطور سريعا وأكثر بلية من ذلك التطور الذي شهد عليه كتاب أوروبا في القرن العشرين. بيد أن هذا التحول الذي قاد الصوماليين إلى أن يصبحوا في بعض عشرات السنين، في حالة البداوة الرعوية في القرن الإفريقي إلى الاندماج في الاقتصاد العالمي، وفي أن يصبحوا بؤرة أزمة دولية يبدو تحولا منعشا. إذ أن العادات القديمة، لم تختف، بل أعيد إنتاجها، لتبقى صالحة، ولتغذي المتخيل في هذه الحياة الجديدة. الآباء والأبناء، الأمهات والبنات، لا يفقدون بعضهم بعضا. كما في روايته <أسرار>. يعطينا نماذج لأولئك الذين يقضون حياتهم في مانهاتن، ليخصصوا المال من أجل الكوكايين ولشراء سلاح الميليشيا في الوطن. انهم يتذوقون مشاجراتهم البركانية، ويبقون على اتصال.
تعوم رواية فارح هذه، في الحبكات العائلية والسحر والجنس واستفهامات رجل يبحث عن حقيقة أصوله الخبيئة، اسمه كالامان. لكن روايته هذه، هي أكثر من رواية عن البحث الوجودي. إننا في مقديشو العام ,1991 في الأيام والساعات التي تسبق اللحظة التي ينفجر فيها العنف بين العصابات وزعماء الحرب التي تغلف الصومال. كأننا نسترجع ذكرى مدينة بومبيي (الايطالية). إنها آخر أيام مقديشو، حتى وإن كان فرح ينجح، بحرفة، ترك السياسة إلى المستوى الثاني، ويقطع مع السرد قبل أن يغرق حمام الدم حيوات أشخاصه. يجتاز كالامان العاصمة بسيارته، بينما يتجمع المسلمون على مفترق الطرقات ليضعوا الحواجز التي تقطع الطريق أمام السيارات. الأسئلة حول الأصول (مثلما يطرحها كالامان) تعود فجأة لترتدي سمة مستعجلة وحسية، كل واحد يطلع بجذوره وقبيلته، فخلف الطبول، ثمة عصابات تتحرك وهي تغني أناشيد الكراهية.
شخصيات الرواية، تقترب من <الهولوكست>، تلك الحرفة المتبادلة بين الجدود، وتلقي ضوءا رمزيا على أفعالها. وكالامان الذي يحاول معرفة والده، يتبع رحلة شعبه، لكن بخلاف ما يجري في الصومال، يكتشف انه يستطيع ان لا يكون مضطرا الى قتل أبناء بلده. لقد أمضى فارح أكثر من عشرين سنة، من حياته، بالمنفى. لذلك خياله غني ومتفرد، إذ ثمة أسرار في روايته القوية، لا يرغب في كشفها لنا.
خرائط
تبدأ رواية <خرائط>، الصادرة في ترجمتها العربية، مع المشاعر والأحاسيس الأولى التي تعتري هذا المولود الجديد. من هنا تتبع الرواية <سيرة> هذا الشاب المدعو عسكر، من خلال مراحل ثلاث: سنواته الأولى في <الأوغادين> وهي مرحلة <التلقيح> الحسي والعاطفي الذي يعرفها مع الخادمة <مصرا> والدته بالتبني. من ثم مرحلة الختان واكتشاف الكتابة والحرب على الحدود ما بين أثيوبيا والصومال. وأخيرا مراهقته عند زوجين مدينيين في مقاديشو وهي المرحلة التي يبقى فيها مترددا باتخاذ قراراته: هل عليه الانخراط في جبهة التحرير أي في هذه الأزمة الطويلة الدامية؟ يشير لنا عنوان <خرائط> إلى هذه البداهة التي تشير إلى الأزمة التي تعيشها الصومال في تحديد وترسيم حدودها. بيد أن الأسئلة التي يطرحها الكاتب تتخطى ومن بعيد كل ذلك الجدل السياسي المتعلق بوضوح الحدود وما ينتج عنه من نزعة قومية وطنية.
مرة أخرى يبني فارح روايته هذه حول لغز بوليسي أو حتى سياسي، إذ تسبر الرواية أغوار هذه العلاقة، غير المتيقنة، ما بين عسكر وحماسته القوية بقوميته ووطنيته الصاعدة حديثا كما علاقته مع مصرا، المولودة أورومو (شعب الأوغادين، الصومالي اللغة) التي ربما كانت قد خانت المحاربين في جبهة التحرير. من هنا يلجأ الكاتب إلى تفحص كل أشكال الهوية: الهوية الاجتماعية مثلما تم التعارف عليها ضمن الحدود الجغرافية، علاقة الدم، اللغة، وما ينتج عن ذلك من أسئلة تطرحها حين تقف على تضاد مع معنى الأنا الحميمي، المعنى الأكثر فردانية.
رواية خرائط، رواية طموحة جداً وهي ذات تركيبة زمنية منتقاة بشدة، وذات شبكات شديدة التعقيد عبر استعاراتها التي تربط الدماء بالجرح والأرض لدرجة أن هذا الطفل يكتشفها على جسده كما على الخارطة <أرض الألم>.
من هنا نجد أحد الأبعاد المجازية والمتمثلة في جسد مصرا المشوه، عند نهاية الكتاب، والذي يرمز إلى الصومال <المفتتة> عند حدودها، والمتمزقة من الداخل عبر حروبها الأهلية. ومع ذلك لا يتخلى الكاتب عن تلك الاستدعاءات الحسية التي تذكره بالمكان الأول أي بهذه العلاقة الأولى بين طفل وأمه. من هنا تبدو الكتابة هنا وكأنها تحاول أن تبني سيرة هوية ما لكنها في الوقت عينه تحاول أن تنفيها.
كتابة نور الدين فارح كتابة غنية تعيد العمل على اكتناه معنى الاستعارات لذلك نجدنا أمام أمر يتطلب منا الانتباه كي نعرف كيف نسير <في خرائط هاويات الروح> مثلما يقول سلمان رشدي عن فارح.

اسكندر حبش
المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...