هاوسر: مواجهة التعصب بالفهم العلمي للأخلاق

14-03-2007

هاوسر: مواجهة التعصب بالفهم العلمي للأخلاق

يبدو عالم الفلسفة الأخلاقية أكثر إثارة بالأحرى مما قد يظن المرء. هنا يظهر رجال ضخام مرميين على سكك دروب قطارات عابرة. هنا تظهر جماعات غبية تمشي في اتجاه أشداق الموت. هنا يظهر أشخاص مضطربة عقولهم بالعدوان ناجحين، وهناك يظهر أشخاص أسوياء مسالمون فاشلين. هنا يظهر الدين والإغواء وأناس قليلو الحظ يتحركون في اتجاه خاطئ في تجاربهم متروكين في الظلام أمام خطر الموت. هنا تبدو مرايا الأعصاب والابتسامات المزيفة: المخادعات، الاعتناق، التقمص العاطفي، والزنا. هنا يبدو التوغد، الهوس، الانتقام، وسفاح القربى، العنف، والحرب والسلطة والفهم الشارد للعدالة وللطغيان. ان النموذج المعمم للأخلاق هو ان (A) إنسان مؤنسن و(B) إنسان ثقافي، سواء تدرجا من جانب إله ما، أو من معطى ثقافي يؤمن أو لا يؤمن بوجود إله ما، وسواء كان هذا النموذج مكونا من شرائع أولية، او من مهربات في ثياب داخلية لسلطة إلهية. و«لكن لا»، يقول مارك هاوس، وهو عالم نفساني تطوري في جامعة هارفارد. فالأخلاق ليست كذلك على الاطلاق. إذ بدلا من ذلك، يؤكد هاوس أننا «كلنا ولدنا حاملين استعدادا طبيعيا أخلاقيا»، وأن الأخلاق «نظام رمزي متوارث وداخلي عقلي وحميم، كوني أصوليا، مع تغيرات محلية متباينة وضئيلة.
- هذه الملاحظة تبدو جذابة حدسيا، ولكنها تتطلب المزيد الأفضل من الخصائص والمميزات. وبخلاف اللغة او الرياضيات، ليست الأخلاق نظاما من الرموز، حيث قلة من البديهيات يمكنها ان تستعمل في متحدات جديدة كليا ـ الأحرف الـ 26 للألفبائية الانكليزية او العمليات الأرثماتيكية الأربع الأساسية ـ فالأخلاق اكثر ما تشبه سلسلة من ردود الأفعال يمكن تصويبها حسب الشروط المحلية المتغيرة. وفي هذا المجال، تدعم مقاربات هاوس هذه النظرة. إنه يمضي وقتا طويلا في كتابه «العقول الأخلاقية» الصادر مؤخرا عن دار «ليتل براون» في (512) صفحة، باحثا في «اختبارات الفكر» التي تخاطب المحاسبة الأخلاقية للأذية: هل نستطيع ان ندفع قطارا بعيدا عن شاحنة قد تقتل خمسة ركاب لنصدم القطار بشاحنة تقتل راكبا واحدا؟ الجواب: نعم! ولكن هل نستطيع ان ندفع رجلا سمينا (او شخصا ثقيل الوزن) أمام قطار من أجل ان نوقف سير القطار على حساب حياة ذلك الرجل السمين؟ ـ كلا! يأتي الجواب! هكذا ينظر هاوس الى هذه «المقولات المشتركة» حيث اللاعب (A) يُعطى كمية من المال ويطلب منه ان يشارك بها اللاعب (B). إذا رفض اللاعب (B) العرض، لا يحصل (A) او (B) على اي شيء.. (الأميركيون الشماليون يميلون الى تقديم أو قبول الـ (10٪) من المال. الافتراض الحدسي هنا ان أي شيء تقدمه او تقبله افضل من لا شيء تحصل عليه). انه طريق طويل من مقارنة المقولات، حيث يتبين لنا ان الحالتين تتقصدان تجنب الأذية: (فدفع الرجل السمين بدلا من السماح للراكب الوحيد ان يموت هو النتاج الفعلي للحفاظ على حياة الركاب الخمسة في المثل الثاني). إن هذا الحساب العقلاني الارثماتيكي هو قانون أخلاقي موروث ومصنوع تلقائيا في عقولنا. (وفي ما يتعلق بمثل المشاركة بالمال نتمنى ان نرى هذه التجربة التشاركية بالمال قائمة في مجتمع الهنود الحمر في مهرجان الشتاء حيث توزع الهدايا. في هذه الحالة يستحيل تطبيق هذا المثل).
- نحن بالفعل مهووسون بالأخلاق حتى لو لم نكن واعين لها بشكل صريح. والرواية، والدراما، والتلفزيون، والأخبار، تعكس كلها وبشكل إلزامي هذا الهوس! هل يجب على (X) ان ينام مع (Y). هل كانت تلك التسونامي نوعا من العقاب؟ هل كان ينبغي على يوضاس الاسخريوطي ان يحاكم؟ هل يجب السماح بالقيام بأبحاث اقتطاع الخلايا الجذعية، وهل يجب السماح بالإجهاض، وبالقتل الرحيم، وبالقمار، وبالتدخين، وبالشراهة في تناول الطعام؟ نحن نمضي الكثير من أوقاتنا الخاصة في نقاش الأخلاق، ربما ليس في مصطلحات هاوس، ولكن وبالتأكيد في أمور العائلة، العمل، السياسة، الاحتفالات، الأصدقاء والصداقات، وحتى في شؤون الرياضة. هنا تجابهنا حسابات هاوسر الأخلاقية المنطقية المعلبة بتحدياتها. إذا كانت أخلاقياتنا مقولات عقلية غرائزية، فإننا لا نحتاج الى ان نبرر إحساسنا بأنه من الأفضل التضحية بفرد واحد من أجل انقاذ الجماعة من الموت، وأنه من الأسوأ القتل المتعمد بدلا من القتل عن طريق الخطأ. وان العلاقات العائلية الحميمة يجب ان لا تتعاطى الجنس. وأن مجتمعا مسالما يحتاج الى نوع من التراتبية. وأنه يجب الحفاظ على العهود. وأن خيانة العهود غير مسموح بها. وهلم جراً.. ومع ذلك ليست الأمور دائما على هذا المنوال. فإحدى قواعد هاوس التي يلاحظها بشكل أصولي هي ان النوايا هي التي تحتسب أكثر من النتائج والتبعات. فأن تقتل عن سابق تصميم وإصرار هو دائما أسوأ من ان تقتل بشكل غير متعمد وغير مقصود. ولكن هذا «القانون الكوني» لا يصمد أمام التراجيديا الأثينية، والذي هو كامن في الأخلاق بكثافة: فقط فكّر في مأساة اوديب مثلا. لم يكن مهما ما كان اوديب ينوي فعله، بل ما فعله على أرض الواقع. وماذا عن الانحراف الأخلاقي؟ وماذا عن الأفراد الذين يعتبرهم مجتمعه غير أخلاقيين؟ كيف نخاطب ذلك؟ هل البرنامج الهاوسري قد انحرف عن الصواب؟ هل سيدخل فيروس ما الى ذلك البرنامج؟ لذا، هل علينا ان نعود الى فكرة «المرض الأخلاقي» التي يتحكم بها العلم هذه المرة لا الدين؟
- مؤكد ان هاوس يقدم «مانيفستو» متكاملا من أجل مزيد من الأبحاث العلمية في الأخلاق. فالأداة الاوتوماتيكية الفاحصة للإفشاءات التي ابتكرها هاوسر تجعل الحدود غير واضحة وضبابية بين تلك الأفعال التي كانت تعتبر في الماضي شرورا شيطانية او منبوذات اخلاقية (أفعال المرضى العقلانيين العدوانية) وتلك الأفعال التي تعتبر فاشلة عقليا (أفعال الاشخاص المسترسلين في التخيل بعيدا عن وعي الواقع الفعلي). ان عقولنا تصنع عوالمنا. والتطور الارتقائي هو الذي صنع عقولنا. والأخلاقية كوظيفة عقلية مثلما يسميها هاوسر تختلف كثيرا عن الأخلاقية المصنوعة بالتوافق مع الله. وقد يعجز هاوسر عن إثبات قضيته، ولكن مقارباته متوافقة مع زمننا ويمكن فحصها. وفي عصر الانبعاث الاصولي، عندما يستطيع قادة العالم ادعاء المصداقية حتى من خلال الايمان الديني (أنا اعرف فقط ما أؤمن به ـ توني بلير) بينما يعلنون في الوقت نفسه قبولهم بالنسبية المعتقدية الحديثة، وعندما حتى الحكم الأخلاقي الخفيف يمكن ان يثير صيحات التعصب الأعمى، فإن فهما علميا لكيفية تصرفاتنا مثلما هي عليه، ومثلما يقدمه هاوسر، يبدو بداية لنوع من الخلاص الإنقاذي.

صفوان حيدر

المصدر: السفير

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...