هل تصبح الهند قوة عظمى؟
الجمل: استدعاء التاريخ الحضاري الهندي القديم الوافر الثراء، يؤكد بأن دولة الهند الحالية ليست مجرد قطعة ضخمة من الأرض، بل هي حيّز جيو-سياسي يتفاعل ضمنه أكثر من مليار شخص، على نحو يتضمن الكثير من المفارقات اللافتة للنظر، فبرغم أن الهند بلد هندوسي من حيث الصفة الدينية، لأن حوالي 800 مليون من سكانها يعتنقون الديانة الهندوسية، فهي تمثل أكبر بلد إسلامي في العالم.. وذلك لأن عدد مسلمي الهند يبلغ 250 مليون شخص، وهو عدد لا يوجد مثله في أي مكان آخر في العالم!! كذلك برغم أن الهند تأتي ضمن قائمة البلدان الأكثر فقراً في العالم، على أساس اعتبار انخفاض معدلات دخل الفرد، وعدد الفقراء، وانتشار الأوبئة والأمراض والمجاعات والأمية.. إلا أن الاقتصاد الهندي يأتي ضمن قائمة أقوى عشر اقتصادات في العالم، وهي مفارقة أخرى أيضاً..
• الهند: متطلبات القوى العظمى:
لكي يصبح بلد ما –أي بلد- في العالم قوة عظمى، فإنه يتوجب على هذا البلد أن يتطور وينمو بما يتطابق وينسجم مع الشروط الآتية:
- وجود حجم كبير من السكان، يترافق مع وجود سياسات سكانية ملائمة، وقدرة على ضبط وإدارة السياسات السكانية بفعالية وكفاءة.
- التمتع بالوحدة، والانسجام، والتماسك والاستقرار السياسي والاجتماعي.
- وجود اقتصاد يتميز بالهياكل المؤسسية، والنظامية، وكفاءة الفعالية في مجالي الإنتاجية والتنافسية.
- وجود عناصر بشرية مدربة تتمتع بالقدرة العالية، إضافة إلى توافر التكنولوجيا الحديثة والمتطورة.
- وجود مستويات عالية من القدرات الدفاعية والعسكرية بما في ذلك الأسلحة النووية.
• الهند: مدى قدرة تلبية شروط ومتطلبات التحول إلى قوة عظمى:
لا يمكن إصدار حكم قاطع إزاء مدى قيام الهند بتلبية متطلبات وشروط التحول إلى قوة عظمى.. وما هو واضح أن الهند تمضي قدماً في الوقت الحالي باتجاه التطور إلى قوة عظمى.. والمعايرة التقييمية لمسيرة الهند القائمة على أساس اعتبارات الموازنة بين (الفرص) التي تتطلب الاستغلال، و(المخاطر) التي تتطلب الوقاية والعلاج، هي معايرة تشير إلى الآتي:
• مؤشرات القوة في مسيرة الهند:
- سياسياً: ظلت الهند تتمتع باستقرار دستوري سياسي منذ لحظة استقلالها عن بريطانيا وحتى الآن، وظل النظام الليبرالي الديمقراطي التعددي الحزبي مستقراً فيها، وتخضع عملية تداول السلطة للقواعد المنصوص عليها دستورياً.
- اقتصادياً: تطورت الهند، وأصبحت في مطلع عام 2000م من بين أقوى 15 بلداً في العالم على أساس الاعتبارات الاقتصادية، وبرغم عدد سكانها الذي تجاوز المليار شخص إلا أنها استطاعت أن تحقق الاكتفاء الذاتي في الغذاء والملبس والخدمات الصحية والتعليمية، بل وحققت الكثير من الفوائض التصديرية. وظلت الروبية –عملة الهند- تحقق ارتفاعاً منتظماً مستقراً مقابل الدولار الأمريكي والعملات الأخرى، وحالياً على أساس اعتبارات الحجم يحتل الاقتصاد الهندي المرتبة الرابعة في العالم، بعد أمريكا والصين واليابان.
- علمياً وتكنولوجياً: شهدت الهند نهضة صناعية شاملة وأصبحت تصنع كل شيء، من الأجهزة الدقيقة وحتى الطائرات والقطارات والسفن العملاقة. وفي مجال التكنولوجيا الحديثة دخلت الهند مرحلة صناعة البرمجيات، واستطاعت أن تغطي ديونها الخارجية التي بلغت 140 مليار دولار من صادراتها في مجال البرمجيات وتكنولوجيا المعلومات.. أما على الصعيد العلمي، فقد استطاعت الهند أن تحقق فائضاً هائلاً في الكفاءات العلمية على النحو الذي جعل العلماء الهنود موجودون في الجامعات والمراكز العلمية المنتشرة في كافة أنحاء العالم.. كذلك بدأت الهند مشروع برنامجها الفضائي، والذي وصل الى مراحل متقدمة، وقريباً سوف تتضح أبعاد هذا البرنامج، وحالياً استطاعت الهند أن تقوم بصناعة بعض الأقمار الصناعية التي مازالت تعمل في الفضاء الخارجي بكفاءة وفعالية عالية.
- اجتماعياً: تضم الهند حوالي 4635 جماعة اثنية وثقافية، ويتحدّث سكان الهند حوالي 325 لغة، الأمر الذي أدى إلى تنوع تعددي ثقافي هائل، وما هو لافت للنظر أن هذا التنوع ظل يتعايش ويتداخل مع بعضه البعض في علاقات بينية اجتماعية تتميز بالاستقرار والانسجام.. وحالياً تعتبر الهند من أغنى بلدان العالم على أساس اعتبارات التنوع والتعدد الثقافي.
- عسكرياً: تعداد الجيش الهندي يجعله رابع أكبر جيش في العالم، وتصنع الهند كل احتياجاتها العسكرية، بدءاً من الرصاصة الصغيرة وحتى الصواريخ البالستية والقنبلة النووية.
• مؤشرات الضعف في مسيرة الهند:
- سكانياً: حتى الآن لم تستطع الهند تحقيق السيطرة الكاملة على ظاهرة النمو السكاني بالشكل المطلوب وضمن الحدود التي لا تهدد مستقبل الهند.
- التعليم: برغم التقدم وانتشار المؤسسات التعليمية، ماتزال مستويات الأمية في الهند من بين النسب الأعلى في العالم.
- السياسات الوطنية: تتميز السياسات الداخلية والخارجية الهندية بالنزعة التقليدية والجمود وعدم الابتكار.
- الاقتصاد: برغم الإصلاح والتحديث والتطوير الاقتصادي، فماتزال عملية توزيع الموارد تعاني من الاختلال وعدم العدالة بين الشرائح والفئات الاجتماعية الهندية.
- علمياً وتكنولوجياً: حتى الآن لم تشرع الهند في تصنيع الغواصات النووية، وحاملات الطائرات.
وعموماً، تعتبر الهند من البلدان ذات القوى المعتبرة على أساس الموازين الاستراتيجية الإقليمية، وإذا استطاعت الهند إحراز مركز متقدم ضمن مفردات المعادلة الإقليمية الآسيوية، فإن بإمكانها الصعود والارتقاء بسرعة وأخذ مكانتها ضمن مفردات معادلة الدول الكبرى العالمية، على النحو الذي يفسح المجال أمامها لتصبح ضمن منظومة القوى العالمية.
أما بالنسبة للدول العربية، فيمكن القوى بأنه رغم توافر الموارد الطبيعية والبشرية والاقتصادية، والموقع الجيوستراتيجي المتميز، فإن غياب التخطيط السليم والفساد المستشري والارتباط بالتبعية للأجندة العالمية، من الصعب على خلفيتها التنبؤ بإمكانية أن تستطيع الدول العربية أخذ مكان متقدم بين منظومة دول العالم، في الوقت الحالي على الأقل، وفقط يبقى أمر هذا التقدم مشروط بتحرير الإرادة والانفكاك من حالة التبعية التي أدت إلى تدهور الكثير من البلدان العربية مثل جمهورية مصر التي كان كل العالم العربي ينظر إليها خلال حقبة الستينيات ومطلع السبعينيات باعتبارها القوة العربية الصاعدة، وعندما كانت الهند في تلك الفترة ترزح تحت وطأة المجاعات والطاعون والفيضانات التي كانت تجرف أمواجها المتلاطمة البشر والبقر والمساكن الخشبية، كانت مصر آنذاك قد دخلت عصر صناعة السيارات، وكان الهنود يحملون حينها بـ(موتر الفيسبا).. والآن انقلب كل شيء، وأصبحت مصر الدائنة للعام حضارياً -بفضل التبعية- مدينة مالياً.
الجمل: قسم الدراسات والترجمة
إضافة تعليق جديد