بوش ورامسفيلد وتشيني ونظائرهم المصغرة
حتى ما قبل السقوط الكبير للجمهوريين في الانتخابات التشريعية الأخيرة, استشعرت أميركا وجوب إحداث تغيير كبير في سياساتها في الشرق الأوسط يؤدي إلى تحسين صورة أدائها في المنطقة، ليس لأنها باتت تستحي من صورتها الحالية على غير عادة، ولكن لأسباب عملية براغماتية محضة تتمثل في إنجاح سياساتها التي استثمرت فيها ما يزيد على سمعة وفرصة إدارة واحدة لأحد الحزبين.
فهي في الحقيقة استثمرت موقع ودور وفرص أميركا لقيادة العالم لا أقل، وفعلت هذا وهي بعد في بواكير الفرصة التي سنحت لها بسقوط المعسكر الشرقي بشكل فاجأ العالم الذي لم يعد العدة لوراثته..
وفشل أميركا يثبت عدم الأهلية للدور، وهو ما بدأ يشجع آخرين على التقدم لملء بعض هذا الشاغر، بدءاً بأميركا اللاتينية, مرورا بأوروبا على وجلها، ومشارفا بإيران.. ولا نعرف انتهاء بمن.
ولكن تصاعد الحشد الشعبي في المنطقة ضد أميركا قابل لكل الطروحات، إلا طرح أميركا.. والمفارقة الأعجب أن أميركا لم يعد لديها ما تطرحه أكثر من حملة علاقات عامة لتحسين صورتها بالكلام لا أكثر، ومؤخرا "باللغة العربية" التي نشفق عليهم من شعاب بلاغتها!!
وليست سياسات أميركا في المنطقة التي جلبت عليها كراهية الشعوب ومكنت هذه الشعوب لأول مرة رغم طول الظلم من استجلاب إدانة لتلك السياسات داخل أميركا ذاتها وعلى الصعيد الدولي، هي ما فعلته وتفعله في ما يسمى بالحل السلمي للقضية الفلسطينية.
فهذه للأسف تحظى بإشادة واستزادة من أقطاب فلسطينية عدة نعرف أنها صنائع أميركا، ولكن الجهل بطرق إدارة الصراعات السياسية الذي يغلب على القوى الوطنية الفلسطينية يجعل خراج نضال هذه القوى يصب في صالح أميركا أيضاً.
فمجرد دعوة هؤلاء أميركا إلى لعب دور أو المراهنة عليها والقبول بإملاءات تشترطها للعودة لممارسة هذا الدور, هو نوع من الإشادة بالدور الأميركي يسقط مصداقية كليشيهات الإدانات المألوفة للتواطؤ الأميركي مع كل سياسات إسرائيل العنصرية وحمايتها دوليا!
السقوط الأميركي كان في العراق لا جدال في أنه سقوط مدوّ لأنه سريع ومكثف زمنيا كالموت المفاجئ (على عكس سقوطها في فيتنام، أو التفسخ البطيء والممنهج الذي جرى للقضية الفلسطينية منذ أن ورثت أميركا المنطقة عن بريطانيا), جاء كله دفعة واحدة في زمن الفضائيات والإنترنت التي تنقل الحدث لحظة وقوعه ومعه كل التحليلات ووجهات النظر مدعمة بالصوت والصورة.
وعصر الفضائيات والإنترنت هذا أتاح للشعوب العربية أولا: أن تعرف بلغتها كل ما جرى ويجري حتى في خبايا السجون ومؤامرات أجهزة المخابرات، مما كان يشكل من قبل عالم الأسرار التي لا تكشف إلا بعد مرور فترة حماية أسرار الدولة المحددة بعقود, ناهيك عن أن فرص انتشارها وتداولها بعد ذلك كان محصورا في النخب.
وثانيا: أن تتفاعل مع المعلومة بالرأي وبالموقف وبالفعل الذي لم يقتصر على الاصطفاف السياسي, بل وصل إلى فعل المقاومة الذي لم يحظ قط بجزء من التسهيلات التقنية واللوجستية التي وفرتها شبكات الإنترنت خاصة، إلى جانب توفيرها بنية تحتية إعلامية إعلانية متطورة.
وقد يكون النجاح غير المبرر الذي حظيت به أميركا دون فعل مجدٍ في التوصل لحلول دائمة أو حتى إحلال سلام مؤقت في فلسطين، قد شجعها على سلسلة المغامرات والمقامرات التي قامت بها في العراق.
والآن هي تعتقد أن عزل رمسفيلد، ووضع بعض القيود على بوش فيما تبقى من ولايته يكفي، ولكن الحقيقة التي سيواجهها الديمقراطيون والجمهوريون على السواء، هي أن مغامرة فريق بوش اللاعقلانية خلقت أثناء إعدادها للبيئة العراقية وتلك المجاورة، أعدادا من "النظراء المصغرين" لبوش ورمسفيلد وتشيني وولفويتز وغيرهم.
وهؤلاء ينتشرون في المنطقة كلها ويديرون السياسة على طريقة أولئك باعتبارها مواقع نفوذ للبزنس. وهو ليس "البزنس" العاقل الذي يديره رجال أعمال حقيقيون، بل ذلك النموذج الذي أتت به "هاليبرتون" ويلخص في "الكلفة زائد الربح".
ولكن في توسعة أرفقتها بها الإدارة السياسة للبيت الأبيض مفادها أن كل شيء يمكن أن يتحول إلى "بزنس" حتى آخر قرار سياسي أو اقتصادي أو أمني، بدءا من خدمات التموين والخدمات اللوجستية للجيش المحتل، إلى خدمات القتل والتعذيب التي تنعش "البزنس" بتحريك القتل المضاد, وحتماً تنعش تجارة الأسلحة التي لها تاريخ سياسي سري غير مشرف ولا منضبط في المنطقة غطت عليه أميركا بالذات طويلاً، واحتجت على بعضه فقط سراً!
والكلف والأرباح كلها باتت في ارتفاع جنوني لا يظهر منه للعلن سوى ارتفاع سعر النفط. وحتى هذا الأخير لا تطرح الأسئلة الحقيقية حوله، لأن مجرد البدء في بعض الأسئلة سيجر إلى غيرها. وفي تعليم "العلم" المجرد -كما في تعليم الفلسفة والمنطق والعلوم الإنسانية- الدرس الأول يقول إن المهم هو أن تطرح الأسئلة الصحيحة لأن الإجابات الصحيحة ستلي حتما.
أميركا رغم اعترافها بالفشل في أكثر من طريقة لم يبد عليها أنها تعلمت حتى الآن ذلك الدرس الأول.
ومع أنها تعرف وبدأت تعترف بأنها لم تعد مستفيدة من آلة القتل والدمار والفساد والمؤامرات التي زرعتها في العراق, وفي المنطقة كلها كي توفر البيئة المتناغمة المتوافقة مع عراقها الجديد، فهي لم تسأل بعد عمن استفاد ويستفيد من كل هذا الآن بحيث لا يسمح بغيره ولو "على جثته", وهو حتماً مما ستؤول إليه الأمور في النهاية.
فما دامت أميركا تدفع أية "كلفة زائد الأرباح"، فإن "النظائر المصغرة" ستستمر في إشعال سلاسل حروبها "المصغرة".
ولكن بغض النظر عما تفعله أميركا فالسؤال بات يطرح في المنطقة، وهو لا يتعلق بالعراق وحده، بل بفلسطين وبلبنان أيضا. والأخيرة بشكل خاص لكون مقولة "ولو على جثتي" تترجم حرفياَ هناك!
وما دام السؤال الصحيح قد طرح فإن الإجابة الصحيحة ستلي حتما. وأميركا لم تتعلم بعد الدرس الأول!
توجان فيصل
المصدر: الجزيرة
إضافة تعليق جديد