القلمون [2]: حمّادي: قصفنا الهرمل بالصواريــخ وحربنا بلا خطوط حمراء
لا يحتاج اجتياز الجرود الممتدة بين بلدتي عرسال اللبنانية وفليطة السورية إلى أكثر من ساعة، تُصبح بعدها رسمياً في الأراضي السورية. هنا يستقبلك مركزٌ مهجورٌ للجيش السوري، دُمِّرت بعض أجزائه، فحوّله «مسلّحو المعارضة» لوحة إعلانية، بل تحذيرية، موجَّهة حصراً لأبناء فليطة. يُسِرُّ لنا مرافقنا بأن عناصر من «جبهة النصرة» رفعوا على مداخل البلدة عبارات على شاكلة «المُشلّح يُقتل شرعاً» و«لا تسرق السلاح»، بعدما ضجّت الكتائب المعارضة بارتكابات أبناء من البلدة طالت عابري سبيلها، إذ لم يسلم منهم حتى قادة كتائب المعارضة أنفسهم بعدما سُرقت سياراتهم وجُرِّدوا من أسلحتهم على دروبها. يُعدّد مرافقنا أسماء أشخاص أُعدِموا ميدانياً.
يتحدث عن مطاردات وتصفيات وحرب شوارع اندلعت مع هؤلاء، باتت معها هذه الشعارات معلماً يُرشدك إلى البلدة السورية الذائعة الصيت. يحكي الرجل عن قطّاع طُرق وخاطفين. يُرشدنا إلى أماكن باتت معروفة بأنّها كمائن لـ«الفلايطة»، كما يرتئي تسميتهم. يُخبرنا أنّهم الأكثر شهرة في مجال الخطف مقابل الفدية. ويكشف لنا عن معمل أُنشئ أخيراً لتصنيع حبوب «الكبتاغون» ونوع جديد من المخدرات يُعرف بـ«الفراولة»، مشيراً إلى أنّهم يوزّعونها على مختلف الأراضي السورية، فيما يُصدّرون قسماً آخر إلى الخارج، ولا ينسى إرشادنا إلى حقول حشيشة الكيف المنتشرة في بعض أطرافها.
تُعرف فليطة بـ«المشرفة» أيضاً. تُنهي الجولة فيها فتُرحِّب بك لافتة «رأس المعرة». بلدة سورية فقيرة نسبياً، تتجاور منازلها القديمة بازدحام متوزعة بشكل دائري. تمرّ دقائق تشعر معها أنّك بتّ تمشي في وادٍ، ترتفع على جانبيه منازل كبيرة تصغر شيئاً فشيئاً كلّما ابتعدت عنها. تُكمل المسير فتطل أمامك مئذنة مسجد البلدة بقبّته الزرقاء. أما في الأعلى، فقمم جبال لا تنتهي، تتوسطها مغاور صغيرة، وربما هكذا تبدو من بعيد. تستمرّ في الانحدار، فتتراءى لك الحياة طبيعية للوهلة الأولى. ورغم ملاحظتك انتشار بعض المسلّحين في زوايا الطرقات، لا يُغيّر ذلك في الأمر شيئاً. معظم المحال التجارية الموجودة مشرّعة الأبواب، وحركة المارّة فيها اعتيادية. هنا تجد أطفالاً يلهون على دراجاتهم الهوائية، وفتيات يشبكن أيديهن بعضها ببعض ليتمشين عند أطراف البلدة. تودّع «رأس المعرّة» لتستقبل بلدة صغيرة تُسمّى الجبّة. تدخل بعدها بلدة «رأس العين». هنا القرية الأكثر هدوءاً إلى حد الآن. حركة الناس فيها لا تُذكر. تصل بعدها إلى مزارع البلدة الواقعة على أطرافها. يُسمّيها البعض هنا «مزارع راس العين» فيما يختار آخرون القول إنّها «مزارع يبرود»، لقربها من «عاصمة القلمون»، يبرود، المدينة التي تقع فعلياً في أحضان جبال القلمون. البرد القارس في مسقط رأس أول رئيس عربي حكم الأرجنتين ينخر العظام. في الطريق إليها، تجتاز ثلاثة حواجز للجيش السوري مدُمَّرة بالكامل. لم يبق منها سوى بعض جدران، عليها بقايا كتابات هي الشاهد الوحيد على أنّ الجيش كان هنا. في يبرود لإشارات المرور الضوئية حكاية خاصة. الضوء الأحمر حُفر على زجاجه كلمة «شهداؤنا». أما اللون الأصفر فحلّت فيه كلمة «وقود». وتربّعت كلمة «ثورتنا» على الضوء الأخضر لتُصبح كاملة «شهداؤنا وقود ثورتنا». لكل شيء هنا نكهة «الثورة». جدران المدينة التي طُليت بأعلام «الجيش السوري الحرّ». الرايات السوداء والخضراء لكتائب المعارضة المختلفة. في يبرود مقرٌّ وحيد لـ«جبهة النصرة». أمّا بلدة ريما الصغيرة التي لم يتوقّف القصف عليها، فتحوي مقرّين أحدهما لـ«الجبهة»، فيما المقرّ الثاني تشغلة «الدولة الإسلامية في العراق والشام». وتتوزع مقار باقي الكتائب المعارضة على المنازل الخالية الواقعة في خراج يبرود. يقضي هؤلاء فيها حاجاتهم، فينامون ويستحمّون ويأكلون. وللمفارقة، لا يزال النظام السوري يُغذّي هذه المناطق بالكهرباء والخبز، إذ إنّ كل كتيبة تُرسل مندوباً عنها إلى فرن البلدة، مزوّداً بلائحة اسمية لأفرادها، يجلب على أساسها حاجتهم من الخبز. يتحدّث المسلّحون المعارضون هنا عن «هدنة من يومٍ إلى آخر بين الجيش والثوار مقابل مبالغ مالية يدفعها تجار القلمون». ورغم ذلك، تكاد طائرات الميغ والسوخوي (تحديد النوع على ذمّة المسلّحين) لا تغادر سماء البلدات هنا. رغم أنّ المضادات الارضية تتصدى لها، تُغير بين حينٍ وآخر على بعض المنازل والسيارات المارّة، فضلاً عن صوت صفير قذائف الهاون أثناء سقوطها والقصف المتقطّع بالراجمات من قبل الفرقة ١٨ التي يقولون إنها متمركزة بالقرب من منطقة الناصرية.
في البلدة القلمونية، حتّى «مصاصات المتة» مميّزة. يخبرك الأهالي أنّ بلدتهم معروفة بالمصّاصات الطويلة، بينما تعتمد باقي المناطق المصّاصة القصيرة. الذباب هنا أكثر الكائنات وجوداً. أمّا السبب، فيردّه الأهالي إلى وجود مزارع الدجاج في خراج البلدة، فضلاً عن «البحرة» الموجودة أمام كل منزل التي تُعدّ عامل جذب لهذه الحشرات. هنا الالتزام بمنع التدخين الذي فرضته الكتائب الإسلامية جدّي، لكن في الظاهر فحسب. معظم المقاتلين يُدخّنون هنا، لكنّ كل مقاتل يُحذّر الآخر لإخفاء ذلك. فـ«انتبه أخفض سيجارتك»، عبارةٌ تسمعها مئات المرّات، إلى درجة تخالها محطّ كلام هنا.
في أحد المقار الكائنة في منطقة رأس العين، التقت «الأخبار» أفراداً من «كتيبة بلال الحبشي» التي انسحبت من معارك القصير لتتحصّن في جبال القلمون، قبل أن تتحوّل إلى القتال تحت راية «جبهة النصرة». وفي حوارٍ خاص مع قائد الكتيبة رعد حمّادي، ابن بلدة أبو حوري في ريف القصير، الذي يرابط في الجبال التي تقع على تماس مع لبنان، تبنّى الأخير إطلاق الصواريخ على منطقة الهرمل اللبنانية. حمّادي الذي أصيب في معارك القصير بشظية في جبهته تركت ندباً في وجهه، تحدّث عن «حرب لا خطوط حمراء فيها»، فاعتبر مشاركة «حزب الله» في معارك القصير مبرِّراً لقيامهم بقصف الهرمل. لم يكتف حمّادي بذلك، بل ذهب أبعد من ذلك قائلاً: «حدود لبنان مفتوحة أمامنا ردّاً على اعتداء مسلّحي الحزب على أرضنا». وتوعّد حمّادي اللبنانيين بأنّه لن يُوفّر أحداً من مؤيدي حزب الله في حربه ضدّهم، عارضاً مقاطع فيديو تُظهر ثلاثة قتلى مذبوحين، زعم أنّهم لبنانيون ينتمون إلى «حزب الله». معظم الأحاديث التي تتبادلها الكتائب المقاتلة تدور حول معركة القصير. يحكي هؤلاء عن «بيع القصير من قبل القيمين عليها»، فيُعدّدون أسماء كموفّق أبو السوس وأبو مؤيد والشيشاني وغيرهم كُثر. يحكون أنّ هؤلاء قبضوا ثمن منع الذخيرة عنها. فتسمع على الدوام: هذا استشهد وذاك بطل وثالث غدر بهما.
شهدت يبرود خلال الأسابيع الماضية أكثر من تفجير سيارة مفخّخة، راح ضحية آخرها سبعة قتلى، علماً بأنّها تضم حالياً مقر غرفتي التجارة والصناعة لمحافظة ريف دمشق. أمّا بلدة رنكوس، فشهدت أعنف الضربات، إذ استهدفتها أكثر من ثلاث سيارات مفخّخة على مدى أيام، راح ضحية إحداها أكثر من خمسين قتيلاً. المعارضون هنا يوجّهون أصابع الاتّهام إلى استخبارات النظام السوري، لا سيما أن أحد الانفجارين استهدف مسجداً. وبعدما كان النظام السوري يقول بوجود خلايا إرهابية نائمة، باتت تحضر بقوّة النظرية القائلة بوجود خلايا نائمة، لكن للنظام، تتحرّك لتنفيذ عمليات نوعية.
معمل كبتاغون في فليطة
تنقسم كتائب المعارضة السورية المسلّحة بشأن معمل تصنيع حبوب «الكبتاغون» و«الفراولة» المخدّرة الذي أُنشئ حديثاً في بلدة فليطا السورية. ورغم أنّ جميع المجموعات الإسلامية تقول بحُرمته الشرعية، وقد دهمت لهذا السبب غير مكان في القرية المذكورة، إلّا أن عدة كتائب أخرى ترى فيه مصدراً مهماً لتمويل العمليات العسكرية، ولا سيّما إذا وُجدت فتوى لإرسال هذه الحبوب إلى بلاد غير إسلامية. إذ إنّ أقلّ شحنة حبوب قد تُصدّر خارج سوريا ستوفّر مبلغاً يصل إلى عدة ملايين من الدولارات. وفي موازاة طرح تمويل شراء السلاح من بيع حبوب الكبتاغون، تعود الكلمة الفصل لـ«الفلايطة» القيّمين على معمل الكبتاغون. إذ يُنقل عن هؤلاء رفضهم الشديد لتصنيفهم في أي خانة كانت، سواء المعارضة السورية أو النظام السوري. فذلك في عُرف هؤلاء يُعرقل تجارتهم في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام أو تلك التي توجد فيها المعارضة. ويكشف مسلّحون معارضون يمرّون في منطقة فليطة بين حين وآخر عن وجود مساحات مزروعة بحشيشة الكيف تخضع لسيطرة إحدى العشائر في البلدة المذكورة.
تجدر الإشارة إلى أنّ عناصر مكتب مكافحة المخدرات المركزي (اللبناني) تمكنوا من توقيف شحنات ضخمة من حبوب الكبتاغون مخبأة، دخلت لبنان قادمة من الأراضي السورية بغية تصديرها إلى دول عربية، أبرزها المملكة السعودية. وكشفت تحقيقات الأمن اللبناني أنّ هذه الحبوب سورية الصنع.
رضوان مرتضى
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد