حيثيات الفشل الأول: "الجبهة الإسلامية" تهاجم الغوطة
تعلم الجهات الداعمة والممولة، أن ضم الفصائل المسلحة الكبرى (أحرار الشام، لواء التوحيد، جيش الاسلام، صقور الشام) في تحالف واحد أطلق عليه "الجبهة الإسلامية" لا يعني أن الاختلافات والتناقضات بين هذه الفصائل انتهت. وقد استشعر الممولون والداعمون خلال فترة التفاوض على تشكيل هذه الجبهة مدى حجم الهوة التي تفصل بين فصيل وآخر، لاسيما أن بعض هذه الفصائل ينتمي إلى تيار السلفية الجهادية وبعضها الآخر إلى تيار السرورية، بينما الثالث ينتمي إلى تيار هجين بين السرورية والجهادية، علاوة على تيار الإخوان المسلمين ، لذلك كان لا بدّ من إنجاز كبير يساعد في صهر هذه الفصائل وتسريع اندماجها مع بعضها البعض، مستغلين بريق لحظة الانتصار المتوقعة.
لم يكن هذا السبب الوحيد الذي دفع إلى إطلاق معركة "الغوطة الشرقية" في الأيام السابقة، فهناك استحقاقات دولية تتمثل بمؤتمر جنيف٢ وقفت على الباب، وكان لا بدّ من استباق حلولها بمحاولة إحداث انقلاب في المشهد الميداني، هذا المشهد الذي صبت جميع تطوراته خلال الفترة الماضية في مصلحة الجيش السوري، بما حققه من تقدم على أكثر من جبهة. وبالتالي كان الرهان على معركة الغوطة، لتحقيق هذا الانقلاب الميداني من جهة، والسعي لاستغلال الانتصار المتوقع في تسريع دمج الفصائل مع بعضها للتخلص من تناقضاتها وما يمكن أن تجره من مشكلات معقدة جرى اختبار مثيلاتها سابقاً في العراق، من جهة ثانية، علاوة على محاولة تسجيل نقطة في مرمى تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) وإظهارها في صورة الفصيل المعزول والخارج عن إطار الجماعة، لعدم مشاركتها في معركة الغوطة، وبالتالي استغلال ذلك إعلامياً لاستكمال حملة "الشيطنة" التي تتعرض لها داعش من قبل كافة الأفرقاء تقريباً.
وما يؤكد ما سبق، أن داعش لم تكن على علم بالهجوم على الغوطة الشرقية، لأنه لم يجر إخبارها به للغاية السابقة التي اشرنا إليها، وهذا ما يفسر أن عناصر داعش لم يشاركوا في العمليات العسكرية إلا في اليوم الثاني من معركة الغوطة، وذلك بحسب قيادي بارز في تنظيم الدولة الإسلامية. وعلى العكس فقد كان التنسيق بين الجبهة الإسلامية وبين جبهة النصرة (فرع القاعدة في الشام) يجري على قدم وساق وفي أدق تفاصيل الهجوم ومناقشة سبل إنجاحه، وقد تولت غرفة عمليات "جند الملاحم" التي تهيمن عليها جبهة النصرة مهمة هذا التنسيق، خصوصاً وأن غرفة جند الملاحم صاحبة خبرة طويلة، ويمكن الاستفادة من تجاربها السابقة في مقارعة الجيش النظامي على أرض الغوطة.
وللمفارقة، فقد بدأ الهجوم على الغوطة الشرقية، دون أن يصدر بيان من قبل أي فصيل بتبنّي الهجوم، كما لم تمنح المعركة اسماً خاصاً بها كما جرت العادة في جميع المعارك الكبرى التي تطلقها الفصائل المسلحة، وقد يكون ذلك عائداً إلى عدم الرغبة في الربط بين الهجوم وبين الجبهة الإسلامية، لكي لا يجري تحميلها مسؤولية الهزيمة في حال حدوثها بما يشكله ذلك من انتكاسة قوية لها وهي التي ولدت في نفس يوم الهجوم وقد لا تتحمل مثل هذه الانتكاسة. إلا أن كافة المعطيات تشير إلى أن بداية الهجوم كانت مفاجئة للجيش السوري وعنيفة لدرجة أنها استدعت أن يقوم الجيش بالتراجع في الساعات الأولى من الهجوم مع ما استلزمه ذلك من إخلاء مواقع وترك حواجز كانت تشكل خط الدفاع الأول عن المناطق التي استعاد الجيش السيطرة عليها منذ فترة قريبة فقط. يدل ذلك على أن التحضير للهجوم كان متقناً ومعداً بحنكة وجرى الإعداد له بناء على معلومات استخباراتية دقيقة وضعت بين يدي المهاجمين وزودتهم ببيانات تفصيلية عن انتشار الجيش السوري وعدد المتواجدين على كل حاجز أو في كل موقع. ووجود هذه المعلومات بين يدي المهاجمين هو الذي أغناهم عن اللجوء إلى الوسيلة المعتادة لاستفتاح أي هجوم تشارك به جبهة النصرة، أي العمليات الانتحارية والسيارات المفخخة، التي طالما جرى استخدامها من أجل فتح ثغرات بغية التسلل منها ومن ثم الاقتحام، حيث يلاحظ أن هجوم الغوطة قد خلا من أي عمل انتحاري، بينما، مثلاً، عملية دير عطية التي قامت بها داعش مع الكتيبة الخضراء قبل أربع وعشرين ساعة، تطلبت تنفيذ خمس عمليات انتحارية ضد حواجز الجيش ومقراته.
وقد استشعرت داعش بالكمين الذي يجري إعداده لها، من قبل أصدقائها الألدّاء، فأعلنت على الفور عن خوضها معارك على طريق خناصر بريف حلب، وقالت عبر الصفحات المناصرة لها أنها تحقق تقدماً كبيراً بل زعمت أنها قطعت طريق الإمداد وهو ما تبين عدم صحته بتقرير مصور أعده التلفزيون السوري، كما أطلقت داعش معركة جديدة في الشيخ سعيد بحلب أسمتها "غزوة الفتح" تستهدف بحسب البيان الصادر عنها تحرير الحي من جيش النظام، إضافة إلى أنها لا تريد أن تظهر خاملة في حين تنشط بقية الفصائل في معركة كبيرة من وزن معركة الغوطة، كما استغلت داعش انشغال الجميع بمعاركهم لتقوم بتنفيذ حكم الإعدام بطريقة مروعة بحق "حسن جزرة" قائد غرباء الشام مع أربعة آخرين من المقربين إليه.
في هذه الأثناء كانت صفحات المعارضة ولاسيما تلك التابعة للفصائل المشاركة في هجوم الغوطة، تتغنى بالانتصارات التي تحققها أحرار الشام وجيش الإسلام وجبهة النصرة، وتشيد بالتقدم الذي تحرزه هذه الفصائل ساعة بعد ساعة. فمن إعلان التقدم في الزمانية إلى اقتحام العبادة والزمانية، في سلسلة طويلة من الانتصارات الإعلامية وصلت يوم أمس الخميس إلى ذروتها بالإعلان عن تحرير بلدة العتيبة الاستراتيجية التي تعتبر عقد العقد في تلك المنطقة من الغوطة الشرقية.
ورغم أنه من المعتاد أن ترافق هذه الحملات الإعلامية أي هجوم تقوم به الفصائل المسلحة، إلا أن مجريات الميدان كانت تسير بشكل معاكس، حيث كان الجيش السوري قد استوعب الصدمة التي سببها الهجوم العنيف في بداياته، وقام بتحشيد قواته على محاور عدة كان القصف المدفعي والطيران الحربي فتح ثغرات فيها وأمّن طرق عبورها، تمهيداً لاسترجاع الحواجز والمقرات التي خسرها في بداية الهجوم، كما كان الجيش السوري قد نجح في استهداف أبرز قيادات الهجوم ومنهم الأمير في جبهة النصرة "أبو سليمان الأنصاري" والقائد الميداني في حركة أحرار الشام الملقب بـ "أبو الوليد".
علاوة على ذلك، فقد أحس قادة الفصائل المهاجمة أن الحملة الإعلامية المبالغ بها قد وضعتهم في موقف محرج، فالحديث عن تحرير بلدة العتيبة انتشر انتشار النار في الهشيم في وسائل الإعلام التابعة أو المؤيدة لهم وسط فرح عامر من أنصارهم الذين ابتهجوا بسماع الخبر دون ان يتساءلوا كيف يمكن تحرير العتيبة وهي في أقصى المنطقة بينما لم يجر بعد تحرير القاسمية مثلاً وهي قبلها؟.
لذلك كان لا بد من كبح جماح هذه الهستيريا الإعلامية، وقد كان من أوائل من تنبه إلى ضرورة ذلك هو الناشط المعارض أحمد أبو الخير الذي كتب على حسابه في تويتر "اعتذاراً من متابعيه" لأنه شارك في نشر خبر تحرير العتيبة وهو ما تبين أنه غير صحيح.
كما كان لافتاً أن يخرج زهران علوش القائد العسكري للجبهة الإسلامية وأمير جيش الاسلام، ويكتب عن الخسائر الكبيرة التي لحقت بالفصائل المشاركة في الهجوم، مشيراً إلى أن جيش الاسلام وحده فقد أكثر من خمس وأربعين قتيلاً، عدا الإعلاميين الستة الذين قضوا في اليوم الأول من الهجوم. ما اعتبر من قبل المراقبين تمهيد من قبل علوش لإعلان الهزيمة في معركة الغوطة.
بعد التلميحات السابقة، خرج "خبيب الشامي" القيادي في حركة أحرار الشام، وقال ما يمكن اعتباره إعلاناً غير مباشر عن فشل الهجوم على الغوطة الشرقية، حيث كتب الشامي وهو العائد للتو من جبهات القتال: " لم يفتح الطريق إلى الغوطة، ولم يفك الحصار، والمعركة على الأرض تختلف عما يجري تداوله في الإعلام، والضغط علينا كبير جداً، بينما البعض منكم على تويتر حرر الغوطة وفتح الطريق وفك الحصار".
كان واضحاً أن الهجوم الأول الذي أريد له ان يكون بشارة خير بمناسبة إعلان مولد "الجبهة الاسلامية" قد تحول إلى فشل مزدوج، فمن ناحية عجز عن تحقيق أهدافه المعلنة وأهمها فك الحصار عن الغوطة، ومن ناحية ثانية كان للمبالغة في التوقعات والانسياق وراء نصر إعلامي تأثير سلبي أسقط الأنصار في هوة من الإحباط عندما بدأ الاعتراف بالحقيقة.
عبدالله علي: آسيا.
إضافة تعليق جديد