لأن الغدر من طبعي: عدنان عبد الرزاق
الجمل- عدنان عبد الرزاق: لا أملك مبرّراً لولعي وولهي بزجّ كلمة (لعبة) قبل كل شيء، قد لأني أيقنت أن الحياة كلها لعبة، لعبة الحب وألاعيب الزواج، ولعبة العيش وألاعيب التكسّب، لعبة الموت وألاعيب التحايل عليه للبقاء، لعبة الديمقراطية وألاعيب الوقوف إلى جانب الأقوى، أو تحته.
المنطق، أعتقد أن في (كليلة ودمنة) قرأت مرة، أن عقرباً مقهوراً على ضفة ساقية ينتظر من يقلّه إلى الضفة الأخرى وهو بلا صديق ولا حليف، وإذ بضفدعة تنقّ تشفّياً بهذا الغدار الذي ساقته الأقدار إلى هذا الموقف المذلّ، تروح وتجيء سباحة، تغطس وتطفو، وما من سلوك أو صوت إلا بهدف إغاظة ذاك الحائر.
سألها العقرب، هل من المنطق في شيء أن تتركيني وحيداً حبيس هذه الضفة، أليس من المنطق أن تقلّيني إلى الحافة الأخرى؟
أجابته: هل من المنطق أن أعرّض حياتي للخطر وأنت من لم يسلم منك مخلوق.
أسِف العقرب عمّا بثّه مجتمع العقارب من سموم منذ أدمهم الأول، نحَِبَ وتوسل ودعاها إلى منطق جديد وعلاقات ديمقراطية، ثم قال، هل تعتقدين من المنطق أن ألسعك وأنت تحملينني إلى الحافة الأخرى، ألن نغرق سوياً إن فعلت.
أعجبت الضفدعة بمنطق العقرب، حملته على ظهرها وبدأت في عبور الساقية، إلا أن العقرب لسعها وهما في منتصف الطريق.
سألته وهي تغرق، هل من المنطق أن تميتني وتموت معي، فقال السيد العقرب، (هذا طبعي).
قد لا يكون ثمة رابط منطقي بين ما استهللت به، وبين ما سآتي عليه، لأن المنطق السائد الآن، يغلب عليه اللامنطق.
لا يتوانى التجّار في سورية من "طقّ براغٍ" للصناعيين، والعكس صحيح، فما إن يجلس ممثل لهؤلاء مع صاحب قرار حتى يحمّل مسؤولية تدني نسبة النمو وارتفاع نسب العجز التضخّم والبطالة لأولئك، وكذا ممثل أولئك ما إن تسنح له فرصة لقاء مسؤول حتى يتهم هؤلاء بأنهم مثل ذكر النحل يأكلون العسل ويضيقون المكان.
ففكر العداء الذي أفرزته الظروف جميعها لم يقتصر على عداوة القطاع الخاص للعام ولا عداوة المكلف للمالية ولا عداوة الفقير إلى الغني، بل الحسد الذي أعتقده أتى في معظمه من عدم تساوي الفرص أثناء الانطلاقة والتمييز بين هذا وذاك، فالأول يرث والثاني محروم من الميراث، إنما ولد العداوة بين القطاع نفسه.
المهم، ممثل من أولئك التجار جلس مع وزير المالية في جلسة عمل، هدفها المعلن بحث سبب تدني عائدات الخزينة من التحصيلات الضريبية، وسبب عدم إقبال المستثمرين على إحداث شركات مساهمة، أو عدم تحوّل الشركات العائلية والفردية في سورية إلى مساهمة.
ـ سأل الوزير التاجر، في رأيك لماذا تغفلون، أنتم مجتمع الأعمال، موارد الخزينة فلا يهمكم إلا مضاعفة رساميلكم ولا تلتفتون إلا لمصالحكم، فكلما جاء تخفيض تنادون هل من مزيد، ألا تعتقدون أن الخزينة هي جيوب رعاياها، وأن قوة الخزينة والاقتصاد سينعكس عليكم، والعكس صحيح.
قال التاجر، كلام سيادتكم من ذهب، ولكن ليست أصابعك كلها في الطول ذاته سيدي، فنحن التجار أمامكم صفحة يبضاء وتكليفنا ليس بالأمر العسير، إنما التهرّب في جلّه يأتي من الصناعيين الذين يزوّرون في حجم وأسعار المواد المستوردة، ويزيّفون في أعداد عمالهم وتسجيلهم في التأمينات، كما يكذبون في أرقام الإنتاج والأرباح.
ولكن، قال الوزير، ها قد خفضنا النسب جميعها، فضريبة الأرباح هبطت إلى النصف، عدا أننا ألغينا العديد من الضرائب التي كانت مفروضة من ذي قبل، إلا أن التهرّب ما زال يفرخ رغم صرامة قانون مكافحة التهرّب، هل تريدون أن تعملوا ويقدم لكم كل شيء دونما أن تدفعوا أي شيء من أعذاركم الدائمة، إنكم تريدون مساواتكم بالآخرين، ألا تعلمون أن التهرّب الضريبي في الدول المحترمة يعد من أفظع الضرائب وأكثرها انعكاساً اجتماعياً على المتهرب، أم أن هكذا منطق لم يصل إليكم بعد.
صحيح سيدي، ولكن على ما يبدو أن الصناعيين اعتمدوها ثقافة، بل ويعتبرون أن التهرّب شطارة، ومن يسرق من أموال الدولة فهلوياً، يعتمدون هذا المنطق سيدي كما أننا الآن في أمسّ الحاجة ـ قال الوزير ـ إلى شركات مساهمة، ها هي السوق المالية على الأبواب، لماذا لم نرَ إقبالاً رغم تخفيض نسبة التحوّل إلى شركات مساهمة ورغم تسهيل إجراءات التأسيس.
لديّ فكرة سيدي، هل تسمح لي بقولها، طلب التاجر.
أنا اجتمعت بك لأسمعك، قل ما تريد، أجاب الوزير.
سيدي إن الصناعيين يخشون المفعول الرجعي إن أفصحوا عن أرقام أرباحهم وأسعار آلاتهم وعدد عمالهم، فالتهرّب ولد من رحم ارتفاع نسب الضرائب أيام زمان، ويخافون الآن بعد التخفيض إن أعلنوا عما أخفوه، أن تحاسبوهم على الأيام الخوالي.
مُؤَكَدٌ، إننا لن نفعل، وقد أكدت ذلك في غير ملتقى مع رجال الأعمال قال الوزير.
ولكن سيدي، لماذا لا تصدرون قراراً أو قانوناً بهذا الصدد ليطمْئِنَ الصناعيين والمتهربين فيعلنون عن أرقامهم الحقيقية، وبعدها يكونون قد اعترفوا بعظمة لسانهم أنهم متهربون، فتحاسبونهم عن كل قرش فوّتوه على خزينة الدولة، أليس هذا هو المنطق.
أعجب وزير المالية بالنصف الأول من الرأي، ضرب الجرس، أتى مدير المكتب، بلّغ الصناعيين أن غداً لقاءً عاماً مع ممثليهم في الغرفة قال الوزير، أمرك سيدي أجاب مدير المكتب.
تابع التاجر والوزير في شؤون وشجون أخرى وانتهى اللقاء الأول.
دخل الوزير اتحاد الغرف الصناعية ـ لنفرض أنه موجود ـ وإذ بممثلي الصناعيين من المحافظات جميعها بانتظاره.
بعد كلمات الترحيب والشكر والمجاملات قال الوزير، قد لا يكون خافياً على أحد أن الدولة والحكومة أعلنت نهج التشارك مع قطاع الأعمال، بل إن النهج المطبق الآن هو نهج اقتصاد السوق، ما يعني أنكم غدوتم أكثر من شركاء، دعوني أقول وفي منتهى الاختصار: إن التجارب في تخفيض نسب الضرائب انعكست إيجاباً على الخزينة العامة، لكن هذا لا يعني أن نستمر في تقديم التسهيلات والتخفيضات دون أن نلمس تعاوناً من قبلكم.
وقف صناعي ليقول، إلا أن الوزير رجاه حتى ينهي فكرته.
أتفق معكم ـ تابع الوزير ـ أن النسب الضريبية وخاصة تلك المفروضة على الأرباح كانت عالية،إلا أننا لم ندّخر جهداً في التخفيض والإعفاء، إلا أن التهرّب مازال سمة عامة، نحن نعرف أن لدى معظمكم دفترين، ونعرف حق المعرفة أن بعض دفاتر بعضكم إنما يديره موظفون من المالية، إلا أن أسلوب القط والفأر غير نافع، أنا هنا اليوم لأقول لكم إن جميع الالتفافات والتهربات التي اعتمدتموها في الماضي، إنما هي ساقطة بحكم التقادم، وأقول لكم عفا الله عما مضى عن أي سلوك غير قانوني قمتم به، ولكني أحذّر من أي تهرّب قادم، أو اعتماد منطق الفهلوية.
وقف صناعي وقال للوزير، نريد هذا مكتوباً يا سيدي، أليس هذا هو المنطق.
أخرج الوزير ورقة من مصنف أمامه وأعطاه لرئيس اتحاد الغرف الصناعية ـ لنفرض أنه موجود ـ وقال: ها هو القرار مع الرئيس وسيصدره لغرفكم غداً.
كما أن التحوّل ـ تابع الوزير ـ إلى الشركات المساهمة غدا ضرورة ملحة وواجباً اقتصادياً ووطنياً، حيث لا يعقل أن تفتتح سوق الأوراق المالية قبل أن تكون هناك شركات مساهمة تطرح أسهمها في السوق، أليس هذا هو المنطق.
بلغني أن خوفكم من المحاسبة عن سنين التهرّب هو العائق في وجه التحوّل، أرجو بزوال المسببات أن نرى شركات كبرى تستوعب فائض العمالة وتصنّع المواد الخام وتستفيد من القيم المضافة.
صفق الصناعيون وانتهى اللقاء الثاني.
وماذا حدث؟!
ليس لي المتابعة.
لماذا؟!
كي لا يفهم من كلامي من هو العقرب.
بالاتفاق مع مجلة الاقتصاد والنقل
إضافة تعليق جديد