فرنسيس مراش: 170 سنة على ولادته
عام 1973، القى الدكتور كمال يوسف الحاج محاضرة في جامعة الكسليك عن مجموعة من الفلاسفة اللبنانيين. واحتل فرنسيس مراش "الحلبي" احد كراسي الفلسفة اللبنانية الى جانب فيلسوف الفريكة امين الريحاني وعالم الاجتماع الشويري انطون سعادة ودكتور الفلسفة الكوراني شارل مالك. بعد ثلث قرن، وتحديداً في 5 و6 و7 تشرين الثاني 2006 ألقى عدد من الباحثين الضوء، على سيرة فرنسيس مراش وإنتاجه في احدى الندوات المخصصة لرواد النهضة الحلبيين، لمناسبة الاحتفال بحلب كعاصمة للثقافة الاسلامية. فما هو سر اصرار الدكتور الحاج على قطع تذكرة لبنانية لرائد نهضة حلبي، في سياق كلامه عن الفلسفة اللبنانية وفرسانها اللبنانيين؟ ولماذا يتسابق الباحثون في قاعة محاضرات كلية الآداب في حلب، لتعريف الحضور بإنتاج كاتب نصراني وسيرته، في سياق محاضرات وندوات وحفلات فنية جرت منذ اوائل هذه السنة في عاصمة الثقافة الاسلامية؟
- لحظة ولد فرنسيس مراش عام 1836، كان قيدوم رواد النهضة في حلب الارمني الاصل، رزق الله حسون (1825 - 1880) والذي اصدر ثاني صحيفة عربية "مرآة الاحوال" عام 1855، في الحادية عشرة. اما جبرائيل دلال، الذي يرتفع تمثاله النصفي في احدى ساحات حلب، فولد في العام نفسه (1836). تعلم دلال في مدرسة عينطورة اللبنانية، وترأس تحرير جريدتي "السلام" و"الصدى" الباريسيتين، ودفع حياته، وهو في السجن عام 1892، بسبب قصيدته "العرش والهيكل" التي انتقد فيها السلطان عبد الحميد. عام 1839، ولد شقيقه عبدالله مراش (1839 - 1899) الذي وفّق بين التجارة والصحافة، في مانشستر وباريس، وتميزت مقالاته، وبخاصة التربوية منها، بالمنهجية العلمية. اما الصحافي والشاعر ميخائيل صقال فولد في حلب عام 1852، وأصدر في القاهرة مجلة "الاجيال" الفكرية ونشر فيها بعض إنتاجه. بعد ثلاث سنين، ولد المصلح الكبير عبد الرحمن الكواكبي (1855 - 1902) الذي أصدر ثلاث دوريات "الشهباء" 1877، و"اعتدال" 1879، و"العرب" 1900، اضافة الى كتابيه "طبائع الاستبداد" و"أم القرى"، ومخطوطات فُقدت اثر تسميمه على أيدي خديوي مصر والسلطان العثماني.
يبقى من رواد النهضة الحلبيين المبدعين الذين عاصروا مراش، قسطاكي الحمصي (1858 - 1941) الذي دشن انتاجه بكتاب "السحر الحلال في شعر الدلال". والجدير ذكره ان الحمصي هو ابن اخت الشاعر والناثر جبرائيل دلال. من مؤلفاته المهمة "منهل الوراد في علم الانتقاد" و"أدباء حلب ذوو الاثر في القرن التاسع عشر".
يتبين مما سبق، ان مراش يحتل المرتبة الثانية في لائحة رواد النهضة الحلبيين، من حيث التسلسل الزمني. وهذا شأن مهم. ذلك ان من عناصر الريادة أن يكون المصلح كتب واتقن احدى اللغات الاجنبية وجاهد في فترة باكرة، حيث كان يتعذر على الاخرين فك احرف اللغة العربية الأم، ناهيك باستسلامهم للمستبد الظالم الفاسد. قد لا تكون جريدة "مرآة الاحوال" بمستوى "الاهرام" في أي ناحية من نواحي الصناعة الصحافية، اذا جرت المقارنة بمعزل عن الزمان. لكن، اذا علمنا ان جريدة رزق الله حسون صدرت قبل دورية الاخوين سليم وبشارة تقلا بـ21 سنة، وجدنا احدى النواحي الجوهرية التي يتفوق بها حسون ومرآة احواله، على جميع زملائه ودورياتهم، ولا استثني شيخة الصحافة العربية، "الوقائع المصرية"، التي صدرت عام 1828، لانها كانت جريدة رسمية، وان "الزميل" الذي اصدرها هو حاكم مصر آنذاك محمد علي باشا.
لكن الاقدمية لا تكفي وحدها لتحدد رتبة فرنسيس مراش بين رواد النهضة في حلب وعموم بلاد الشام. سبق الدكتور اسعد يعقوب الخياط المعلم بطرس البستاني في فتح المدارس والدعوة الى تحرير المرأة ونبذ الطائفية وتكريس المواطنية. ولما كان إنتاج الاول وجهاده نقطة في بحر "دائرة المعارف" ومجلة "الجنان" و"المدرسة الوطنية"، فقد اصر مؤرخو عصر النهضة، وبحق، ان البستاني هو رائد رواد النهضة حتى في التسلسل الزمني. فهل تشكل رحلة مراش في "غابة الحق" عملاً نهضوياً متميزاً؟
- عام 1865، خرج من المطبعة المارونية في حلب كتاب عنوانه "غابة الحق" لفرنسيس مراش بعدما سدد تكلفة الطباعة صديقه اليان نقولا اليان. من المؤكد ان هذا الكتاب المؤلف من مئة صفحة من القطع الوسط، هو الذي دفع بالدكتور كمال الحاج الى لبننة المراش من غير استئذان الحلبيين، وتسابق هؤلاء الى درس رائد نهضتهم في احدى الجولات الاخيرة في احتفالية حلب بعد تكريسها عاصمة الثقافة الاسلامية. لنقرأ بعض ما ورد في الكتاب منذ 141 سنة حيث كان يخيّم على الولاية الحلبية وعموم السلطنة العثمانية ظلام الجهل والاستبداد والفساد. يقول المؤلف في بدء الرحلة "الخيالية": "اخيراً انفتح باب رحب مكتوب على قنطرته: العقل يحكم والعلم يغلب. وظهرت لي حينئذ جيوش التمدن الزاهر ممتطية متون الاختراعات العجيبة والمعارف الكاملة وهي تتمخطر متموجة بأنوار اسلحة الحكمة والعدل، متدرعة بدروع الحرية. ورأيت ممالك الظلام تتراكض على اعقاب القهقرى والانكسار. وهكذا مدت دولة العقل قوتها على كل بقعة ومكان". ولأن امتداد دولة العقل اقتصر على اوروبا وبخاصة فرنسا التي اتقن مراش لغتها وأقام فيها، كما سيجيء في "رحلة باريس"، وتم الانتشار نتيجة الثورات والمعارك وليس عبر التبشير، فقد انتقل الكاتب الى التجييش بواسطة لغة الشعر التي اتقنها، وهي الأكثر تأثيراً على متكلمي لغة الضاد:
هبّوا من الغفلات يا اهل الوطن/ ان العدو دنا وها نار الفتن
كرّوا الى الاعداء كر الاسد يا/ أسد الوفاء، فهم ثعالبة خون
لا يحسن الموت الزؤام لدى امرىء/ لكن فدى الاوطان موتكم حسن
في ذلك الزمن، كانت حلب مثل بيروت، قبلة انظار البعثات التبشيرية والتعليمية، وكان الحلبيون، كما البيارتة، مقبلين على المدارس ومقلدين للأجانب. في المناسبة، مراش نفسه درس الطب في حلب على يد مدرّس خصوصي انكليزي يتقن العربية هو الدكتور يوحنا ورتبات، الذي ساهم في تأسيس الجامعة الاميركية وتولّى تدريس الطب في احدى كلياتها. لكن التمدن الحقيقي يُصنع ولا يُستورد. لذلك قال مراش في مكان آخر من كتابه: "لا يغتر اولئك المدعون بالتمدن اذا كانت بيوتهم مشحونة بالاثاث العقيم كالفضة والنحاس وانواع الخزف والاقمشة، ولم يوجد فيها كتاب او صحيفة يومية ولا ادنى وسيلة للعلم". اضاف: "ولا يعتد بهؤلاء المتظاهرين بالتمدن، اذا كانت رؤوس نسائهم تشعشع بأنوار الاحجار الكريمة ذات الثمن الوافر والعديمة الثمرة، ولم يكن في تلك الرؤوس ادنى شعاع العقل والادب. بل يعتد بهم اذا رفعوا جميع تلك الظواهر الخيالية واثبتوها للنفقة على تعليم نسائهم وتهذيبهن".
طبعا، كان يمكن المكتوبجي ان يمنع صدور الكتاب في ولاية حلب، لكنه اجاز المخطوطة بعدما قرأ الصفحة ما قبل الاخيرة منها حيث قال مراش: "وبينما كنت اسرح نواظري في هذه البيداء المجدبة، سمعت صوتا يناديني: هذه برية الشهباء فلتبشر بقدوم الخير. فقلت في نفسي: من اين سيأتي الخير الى هذه الاقفار المجدبة الساقطة من اعين العناية منذ الف عام". وعاد الصوت ينادي: "ابشري ابشري يا برية ارم القديمة وافرحي وابتهجي يا شهباء سورية، فها العناية الملوكانية مقبلة اليك والمراحم السلطانية هاجمة عليك". فسارع المكتوبجي ليوافق على طبع المخطوطة من غير ان يقرأ الاسطر الاخيرة التي ختم بها مراش سياحته، حيث قال فيها: "واذ لم أعد استطيع النظر الى هذا المشهد المنير، اغمضت عيني على غشاوة الانبهار وأخذت اضرب في اودية الهواجس. ولما فتحت اجفاني، وجدت نفسي مضجعاً على فراش النوم تحت سماء اليقظة".
- بعد حوالى العام، ابحر مراش الى باريس من اجل اكمال دروسه الطبية وتتويجها بشهادة جامعية. لكن، بدلا من ان يكمل تخصصه ويعود الى حلب ليشفي مرضاها، مرض هو ولم يتمكن اطباء باريس من معالجته، فعاد شبه اعمى. وعلى ضوء بصيرته، كتب وقائع رحلته واصدرها في كتاب عنوانه "رحلة باريس". ولما كانت باخرة باريس تمر في بيروت، فقد خصها مراش بأسطر قال فيها: "ان هذه المدينة قد جلست الآن على المرتبة الاولى ما بين مدن سورية (بلاد الشام) وأصبحت مبزغاً لكل نور يلوح في هذا الاقليم، ففيها جملة علماء عظام ومدارس معتبرة وجمع غفير من المطابع وآلات البخار... وبالاجمال فوجهها متجه على الدوام الى آفاق التقدم والنجاح غصبا عن معارضة الظروف الساعية كل يوم بردع همم التمدن هناك". والعبارة الاخيرة تنطوي على نقد لاذع للمحتل التركي. عند وصوله الى باريس، تحول اعجابه بالعاصمة اللبنانية الى انبهار بالعاصمة الفرنسية: "كل هذا الجمال العجيب والكمال الغريب الذي رقت اليه هذه المدينة المعظمة انما هو نتيجة ما بلغ اليه العقل عندهم من التقدم والنجاح. فلا ريب ان سلطان عقل هذا الجيل في هذه الديار قد جلس الآن على قمة عرش كماله، واخذ يشن على العالم غارات قواته ليفتتح معاقل الطبيعة ويقلب ممالك الظلام".
اضافة الى اصداره الكتب، ساهم مراش في تحرير عدد من الدوريات، منها "مرآة الاحوال" لرزق الله حسون، و"الجوائب" لأحمد فارس الشدياق و"الجنان" و"الجنة" للمعلم بطرس البستاني وابنه البكر سليم، و"البشير" لليسوعيين، و"النحلة" للدكتور لويس صابونجي و"النشرة الاسبوعية للانجيليين"، و"النجاح" ليوسف الشلفون، و"الزهرة" للويس صابونجي ويوسف الشلفون. من مساهماته في "الزهرة" مقالة عنوانها "الوطن" نشرت في 11 حزيران 1870 انتقد فيها "ما ادخلناه من العادات الافرنجية الغريبة عنا. فقد اقتبسنا من الافرنج اللبس والجلوس والهرولة والزفلقة والغنة والخنة والايماء والدمدمة والهمهمة والهز والزيف والقتار والهتار والتمليق، لكننا لم نقتبس منهم المعقولات والمنقولات والصناعة ودقة التجارة والزراعة والسفر وحسن البيوت والاسواق والشوارع وكل لواحق ذلك. فليس لنا والحالة هذه من الجوهر الافرنجي الا الاعراض التي بها اضعنا جوهر جنسيتنا، اذ اقمنا اعراضا في غير جوهرها".
تبقى حقائق ثلاث اوجزها في ختام هذه العجالة:
1 - ثمة دوحة مراشية ثقافية في حلب تشبه الدوحات الثقافية، الاخرى، وبخاصة الدوحة اليازجية. فهذه اسسها ناصيف اليازجي بالاشتراك مع ابنه اللغوي والشاعر ابرهيم وابنته الشاعرة وردة. واسس تلك، فتح الله مراش بالاشتراك مع ابنيه فرنسيس وعبدالله وابنته الشاعرة مريانا.
2 - رحل مراش باكرا اسوة بمعظم مبدعي بلاد الشام. جبران لم يتجاوز الثانية والخمسين، واديب اسحق عاش 29 سنة، ونجيب عازوري 37 سنة، وسليم البستاني 36 سنة، ومارون النقاش 38 سنة، وعبد الرحمن الكواكبي 47 سنة، وانطون سعادة 45 سنة، ومراش 38 سنة، واثبت هذا الاخير والآخرون ان الابداع لا علاقة له بعد السنين.
3 - تأثر مراش بالفكر الاصلاحي الفرنسي اسوة بالبستاني وشميّل والنقاش. وأثّر بدوره على بعض الادباء والمفكرين المبدعين وفي طليعتهم جبران. والاخير لم يكتف بالاستفادة من مضمون انتاج مراش يوم درسه وهو طالب في الحكمة بين 1899 و1901، بل هو اعجب بأسلوبه الى درجة تقليده، وخصوصا في كتاب "دمعة وابتسامة". على سبيل المثال، قال مراش في مقدمة "غابة الحق": "بينما كنت ذات ليلة ضاربا في اودية التأملات العقلية، وطائرا على اجنحة الافكار المتبلبلة في جو الهواجس والاحلام التخيلية... انفتح لدى اعين خواطري مشهد عجيب تلعب به اشباح الاعصار السالفة، وترنّ في هوائه نغمات الشعوب الغابرة وراء حجب التواريخ الخالدة". ورغم ان هذا الاسلوب المرّاشي يتماهى مع الاسلوب الجبراني، فان معظم الباحثين الجبرانيين لم ينوهوا به، ربما لأن مراش ليس من بيت نيتشه مثلا!
جان دايه
المصدر: النهار
إضافة تعليق جديد