أسئلة «شارلي إيبدو» بانتظار 11 أيلول أوروبي
حالة من الفوضى، الإعلامية، سادت أمس قضية متابعة الهجوم الدموي الذي استهدف «شارلي إيبدو»، وسط ترقب عام لمآلات الأمور، تحديداً بعد تسجيل هجوم ثان استهدف الشرطة الفرنسية صباح أمس.
ومن الصعب في الساعات الأولى التالية للهجوم تتبع مسار تحقيقات (مهنية وسرية في طبيعتها)، لكن اللافت تمثل في ما دار، إعلامياً وسياسياً، حولها، إذ سُجّل، على نطاق واسع، بداية مسار تحويل القضية إلى استهداف لفرنسا ــ المشاركة في «التحالف االدولي» ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» والمؤسسة مؤخراً لحملات عسكرية في القارة الأفريقية ــ من قبل «الجهاد العالمي». وتكمن أهمية هذا التوجه، بعيداً عن صحته أو لا، في تقليص مساحة أي نطاق فرنسي خاص بالحادثة وربطها المباشر بأكثر الدوائر الشمولية، إلى درجة وصفها بأنها تماثل هجمات 11 أيلول. الهجمات التي شكلت، للمناسبة، مرحلة تحوّل مفصلية على صعيد العلاقات الدولية، لم تنته تداعياتها بعد، وطبعتها الخطابات الهوياتية.
وإلى جانب مسار «التتبّع البوليسي» لمنفذي الهجوم، كان تتبّع العبارات والتوصيفات المطلقة على هامش الحادث مهماً إلى حد بعيد. فإضافة إلى إحالة الحادث الدموي والمفجع إلى فترة 11 أيلول، لفت، مثلاً، ما أعلنه الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، بعيد لقائه الرئيس فرنسوا هولاند؛ فمن بين ما قاله، إن «الرجال المتحضرين عليهم أن يتّحدوا للرد على البربرية (أو الأعمال الوحشية)».
وقد تعزز منحى محاولة الربط بهجوم «جهادي» على عاصمة أوروبية بعد وصف تنظيم «الدولة الإسلامية»، أمس، منفذي الهجوم ضد صحيفة «شارلي إيبدو» بـ«الجهاديين الأبطال»، بحسب ما جاء في نشرة للأخبار بثتها إذاعة «البيان» التابعة للتنظيم.
تعززت أيضاً فرضية «الإرهاب الإسلامي» بعد الحديث عن العثور في سيارة المشتبه فيهما (شريف وسعيد كواشي)، التي تركاها في باريس الاربعاء، على «علم جهادي» وعشرات القنابل. ونقلت صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية عن مصدر حكومي «تأكيده فرضية انتماء منفذي الهجوم إلى تنظيم القاعدة»، رافضاً تحديد أي فرع من التنظيم الذي بات انتشاره عالمياً منذ حقبة 11 أيلول.
كذلك، بدا أمس أن العاصمة الفرنسية تحولت إلى هدف، وذلك إثر هجوم ثان أدى، صباح أمس، إلى مقتل «شرطية متدربة من الفرع البلدي» في مونروج بضاحية باريس الجنوبية، ما خلق نوعاً من الرهاب في العاصمة الفرنسية، خصوصاً أن الهجومين يأتيان بعد سلسلة حوادث أمنية وقعت خلال فترة أعياد نهاية العام. وكلف قضاة متخصصون في مكافحة الارهاب بالتحقيق في هذه الحادثة.
عموماً، لا يمكن نفي واقع أن من أول تداعيات الهجوم في باريس إثباته صحة المخاوف من وصول تهديد «الجهاديين» الى قلب أوروبا، بعد فترة من الحراك الغربي المبهم إزاء انتشارهم في الشرق الأوسط. لكن، في المقابل، فإن الاعتداء على «شارلي ايبدو» لا ينفي أنه يستبطن إشكاليات فرنسية داخلية من المفترض ألا تغيب. وعلى المستوى الفرنسي الرسمي، فقد أشار رئيس الوزراء مانويل فالس إلى ذلك، قائلاً «نحاول بشكل عاجل أن نتعقب الأفراد الذين ارتكبوا الهجوم. لدينا خطة للأمن ونعمل مع زملائنا في المجال السياسي لضمان وحدتنا الوطنية، وهو الأمر الذي شاهدنا مظاهره بالفعل. نتفهم المخاوف... ولقد ناقشتها مع المسؤولين وسنتابع الوضع باهتمام بالغ».
ومنذ مساء الأربعاء، تعرضت عدة مساجد لهجمات، محدودة، في فرنسا، بحسب مصادر قضائية، اشتبه في أن بعضها تم بدافع الانتقام بعد الاعتداء على الصحيفة الساخرة.
في غضون ذلك، وفي سياق تتبع منفذي الهجوم، بدأ الطوق يضيق، أمس، حول المشتبه فيهما في الهجوم على الصحيفة الفرنسية. وانتشرت قوات من الشرطة والدرك بعد ظهر أمس قرب مدينة فيليه ـ كوتوريه على بعد 80 كلم شمال شرق باريس حيث شوهد المشتبه فيهما بالاعتداء بعد أقل من 24 ساعة على الهجوم. وأوضح مصدر أمني لوكالة «فرانس برس» أن وحدات النخبة في الشرطة والدرك الوطنيين «تتمركز للتحقق من أهداف في هذه المنطقة حيث تم التخلي عن السيارة التي استخدمها المشبوهان اللذان عرّف عنهما شاهد». وأعلنت حالة إنذار قصوى في شمالي فرنسا حيث حدد موقع الرجلين.
وعلى الجانب الآخر من الشمال الفرنسي، قالت الحكومة البريطانية، أمس، إنها كثفت أمن الحدود مع فرنسا، بما في ذلك الموانئ والنقاط الأمنية.
وعن هوية المنفذين التي كشفت عنها السلطات الفرنسية، نشرت وسائل إعلام فرنسية أن شريف كواشي هو «جهادي» يقال إنه معروف من أجهزة مكافحة الارهاب الفرنسية. وقد حكم عليه في 2008 بالسجن ثلاث سنوات، بينها 18 شهراً مع وقف التنفيذ، بتهمة المشاركة في شبكة تجنيد مقاتلين للتوجه الى العراق والقتال الى جانب تنظيم «القاعدة».
وبحسب السلطات، فإن سبعة أشخاص من أوساط المشتبه فيهما وضعوا قيد الحجز الاحتياطي بعد توقيفهم ليل أول من أمس. بدوره، سلم حميد مراد (18 عاماً) ــ يشتبه في أنه متآمر معهما ــ نفسه للشرطة، ليل أول من أمس
أسئلة مشرؤعة:
«في صيف العام 2013، سهّل جهاز أمني أوروبي، عملية تجنيد مجموعة جهادية مقيمة في عاصمة أوروبية الى سوريا عن طريق تركيا، وصدف أن أحد أفراد المجموعة تعذر عليه الالتحاق بالمجموعة والوصول الى المطار الأوروبي، بسبب زواجه قبل يومين من تاريخ التحاقه، فطلب منه «أميره» الالتحاق بـ «الجهاديين» في مالي، وبالفعل سافر الى هناك عن طريق دولة في شمال أفريقيا، ولم تمض ساعات على وصوله، حتى وقع في كمين للجيش الفرنسي. أثناء التحقيق معه، قال للضابط الفرنسي: «لقد صدف أنني تأخرت عن الالتحاق بمجموعة جهادية متوجهة الى سوريا.. وبرعاية من جهاز أمني أوروبي، بسبب زوجتي.. فتم تعديل الوجهة. لو كنت اقاتل في سوريا، كنت ستتعامل معي كبطل يقاتل أعتى نظام ديكتاتوري في العالم.. أما وانني أقاتل هنا (ضدكم)، فقد أصبحت مجرما من وجهة نظركم»!
هذه الرواية تختصر معظم التعامل السياسي والأمني الأوروبي، وخصوصا الفرنسي، مع قضية الارهاب، وهي نموذج لنقاش سيتصاعد في أوروبا حول مسؤولية كل بلد في مواجهة الارهاب العائد سواء من مالي أو من سوريا أو العراق؟
الفرنسيون اعتكفوا عن المشاركة بالضربات الجوية ضد أهداف لتنظيم «داعش» على الأراضي السورية، علما أن باريس كانت من أشد المتحمسين لتوجيه ضربات ضد النظام السوري في صيف العام 2013، قبل أن يتراجع الأميركيون والبريطانيون في آخر لحظة، بفعل المخرج الذي وفره الروس لهم في تلك المرحلة، وأدى الى تدمير البرنامج الكيميائي السوري.
واللافت للانتباه أن الفرنسيين يتجنبون حتى الآن، وبأعذار غير مقنعة للرأي العام الفرنسي، مقاربة موضوع الضربات في سوريا، تارة بحجة عدم توافر غطاء الشرعية الدولية (...) وتارة أخرى بحجة أن من شأن هذه الضربات تقوية النظام السوري.
بعد تصفية الرهينة الفرنسية بيار هيرفيه غوردال في الجزائر في أيلول المنصرم، واعلان فرنسوا هولاند ان بلاده لن تتراجع في حربها ضد الارهاب، تجدد السؤال حول مشاركة باريس في الضربات العسكرية الجوية في سوريا، وجاءت مناقشات الجمعية الوطنية الفرنسية ومنابر ديبلوماسية وسياسية وأجهزة أمنية، لتعكس حجم هواجس الشارع الفرنسي، في ضوء الأداء المتعثر للحكومة الفرنسية:
• ماذا إذا طال أمد الحرب في سوريا، خصوصا بعد اعلان «الدولة»، وماذا عن حركة «الجهاديين» العائدين من سوريا والعراق ومالي الى اوروبا؟
• هل من واجب الفرنسيين التضامن مع مسيحيي سوريا ولبنان والعراق ومجمل الشرق العربي وصولا الى محاولة نجدتهم عند الضرورة، أم نتصرف معهم على قاعدة أن فرنسا العلمانية لا تملك نظرة خاصة الى المسيحيين تميزهم عن غيرهم من أبناء المنطقة؟
• إذا كان لا مفر من ممر إلزامي من خلال قرار دولي يصدر عن مجلس الأمن الدولي، خصوصا في ضوء مطالبة العراقيين المتكررة بذلك، فأية دينامية ستتبعها الحكومة الفرنسية للوصول الى قرار دولي من شأنه، لو صدر، استعادة الشراكة مع الأسرة الدولية، وخصوصا روسيا والصين في مواجهة خطر ارهابي كبير لا يستثني دولة أو شعبا؟
• إذا كانت فرنسا تملك علاقة خاصة مع بعض دول الخليج وخصوصا السعودية وقطر، وثمة استثمارات خليجية في السلاح والاقتصاد الأوروبي بعشرات مليارات الدولارات، كيف يمكن لفرنسا أن تجيّر هذا الرصيد، مع هذه الدول، من أجل أن تنخرط في الحرب ضد الارهاب بدل ما يحصل من تمويل ودعم لمنظمات ارهابية لا بل لجمعيات تتظلل بعباءة الاسلام في أوروبا، وتحظى بدعم خليجي، بينما كانت تشكل غطاء لتجنيد مجموعات ارهابية الى سوريا وغيرها؟
• ما هي السياسة التي رسمتها فرنسا للاستفادة من زخم علاقتها مع تركيا في الاتجاه نفسه؟
• ما هي شروط الشراكة الفرنسية والغربية مع روسيا وايران في الموضوع السوري تحديدا الا اذا كانت باريس مقتنعة أنه يمكن تجاوز هذين العاملين في الأزمة السورية؟
• هل تملك فرنسا استراتيجية واضحة في الشرق الأوسط وخصوصا في ملف الصراع العربي ـ الاسرائيلي، بمعزل عن سياسة الالتحاق بالولايات المتحدة؟
• هل يمكن أن يعطي الفرنسيون تفسيرا لموقفهم المستكبر ازاء قضية المناضل اللبناني والعربي الكبير جورج ابراهيم عبدالله ولماذا ينصاعون للاملاءات الأميركية التي تتحدى قوانينهم ومبادئهم؟
• ما هو الهدف العسكري الأميركي تحديدا والغربي عموما، هل هو وقف تمدد «داعش» والحد من نفوذه ام القضاء عليه او تطويقه؟
• هل يعتقد الفرنسيون أنه بمقدورهم محاربة «داعش» في العراق، وعندما تبلغ المعركة عتبة سوريا يقولون ان الحرب ضد الارهاب انتهت.. وليفعل النظام السوري ما بمقدوره أن يفعله وحده في مواجهة مجموعات إرهابية باتت تضع يدها تقريبا على نصف الأراضي السورية؟
• هل يمكن لعاقل أن يصدق أن الحرب ضد «داعش» لا يمكن ان تقتصر على الجو، بل لا بد من خيار البر؟
• هل يستطيع الفرنسيون أن يمارسوا الشفافية تجاه شعوبهم، بالكشف عن بعض أدوارهم في تنظيم وتسليح مجموعات جهادية وتسهيل انتقالها من أوروبا الى سوريا وغيرها من «الساحات»؟
• هل يخفى على المخابرات الفرنسية تحديدا، أن «الفيروس الجهادي» موجود في كل بلد من بلدان العالم (ومنها فرنسا) سواء أكان فردا أم مجموعة أو أكثر، وبالتالي، يمكن لهذا «الفيروس» ان يتفشى بأسرع مما يتوقع القيمون على اجهزة الاستخبارات؟
• من يستطيع أن يعطي تفسيرا لعمليات تجنيد الجهاديين في فرنسا وغيرها ولماذا فشلت سياسات الاحتواء والاستيعاب الأوروبية ولماذا يفضل «اوروبيون جهاديون» الموت من اجل خليفة وهمي على العيش في ما تسمى «بلاد حقوق الانسان»؟ اين مسؤولية سياسات التهميش والعزل والنبذ (تعاظم دور الأحزاب والمجموعات اليمينية المتطرفة في فرنسا وغيرها)؟
بين الواجب الأوروبي الاخلاقي وواقع السلوك السياسي والأمني الأوروبي هوة لا يعرف أحد كيف يمكن ردمها، ويبقى السؤال الكبير: هل هناك استراتيجية أوروبية أو فرنسية في الشرق الأوسط؟
وكالات
إضافة تعليق جديد