وفاة التشكيلي محمد الوهيبي في برلين
لم يهنأ محمد الوهيبي (1947 ــ 2015/ الصورة) في منفاه الألماني طويلاً. انطفأ قلبه فجأة، أول من أمس. كأن أوكسجين الغربة لم يوائم جسده النحيل الذي ابتعد أكثر مما ينبغي عن البلاد. كانت التغريبة الأولى من طبريا، مروراً بمخيم وادي العجم عند تخوم جبل الشيخ، ثم إلى مخيّم اليرموك في دمشق، ثم إلى برلين. نزوحات متتالية أثقلت ألوانه بالمآتم الفلسطينية المرتحلة التي كانت جوهر انشغالاته اللونية ووجعه الشخصي.
قطعة الطبشور الأولى التي غنمها من مستخدم المدرسة الابتدائية مقابل مساعدته في تنظيف المكان قادته إلى سحر الرسم. هناك على أسفلت الطريق كان يرسم أشكالاً غرائبية وطيوراً وتعاويذ، كترجيع لذاكرته المحتشدة بالميثيولوجيا الفلسطينية وحكايات الأم بغياب الأب المبكر. زيارة إلى المتحف الوطني أعادته إلى غوايته الأولى، فعلى جدران هذا المكان باغتته أعمال لؤي كيالي، وفاتح المدرس، ونصير شورى، فقرر الانتساب إلى كلية الفنون الجميلة في دمشق "قسم الحفر". في محفوراته الأولى استعاد بلاده الغائبة ومفردات بداوته الأولى، ورائحة الأمكنة المغيّبة قسراً، مؤكداً بلاغة الجمال الشعبي: صندوق العرس، دلاء القهوة المرّة، الثياب المطرّزة، ووجوه موشومة بالفقدان والأسى والنواح. كأن رائحة البراري المنهوبة لم تغادره قَطّ. تراجيديا طويلة بالأبيض والأسود، موضوعها الموت غالباً، ذلك أن المقبرة كانت سبورته الأولى لإعادة رسم ما كانت ترويه الأم من طقوس حكايات الموتى "لم نكن نشعر بمعنى الموت. كنا نجلب النعناع البري ونضعه تحت الجسد المسجّى، قبل أن يُزفّ إلى المقبرة... كان الموت شأناً عادياً لا يستدعي الحزن أو الألم" يقول. ويضيف: "لقد نلت حصتي من الكآبة، وعشت في المقابر أكثر مما عشت في الشوارع المفتوحة على البهجة: ماذا أفعل أمام منظر لامرأة تتناول القهوة أمام قبر زوجها، وقد أحضرت فنجانه كي يشاركها بؤسها وذكرياتها في وحدتها؟". هذا المخزون المأساوي الذي لاحق الوهيبي كقدر أبدي، نجده في كل مراحل تجربته بتقنيات مختلفة تحمل بصمته، سواء أكان في لوحة، أم على قطعة حجارة صغيرة، أو على جدار في مقهى، أو على طبق من الخزف.
في منفاه الجديد، لم يتوقف التشكيلي الراحل عن العمل يوماً واحداً، لكن تكويناته ذهبت إلى مطارح أخرى تحت وطأة المنفى. رجال قساة بخطوط صارمة تبرز حجم العنف الداخلي المضمر، وكوابيس بمفردات صادمة كأنها خارجة للتو من أحد أعمال جورج أورويل المفزعة. لكل أسباب الدمار التي أحاقت بهذا التشكيلي المرهف، كان لا بد أن يختنق في تلك الأرض الباردة، ويُدفن هناك في مقبرة الغرباء، في إشارة لاكتمال المحنة، وانتهاء درس الحنين.
خليل صويلح
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد