«مطار الجنّ»: حامية كويرس تروي حكاية الحصار والــصمود
بعدما تمكّنت حامية الكلية الجوية في مطار كويرس، شرقي حلب، من الصمود مدة عامين و7 أشهر أمام الحصار، تحول المطار إلى «أسطورة» تداولتها معظم وسائل الإعلام، وخصوصاً أنه حوصر من قبل عدة فصائل بدءاً من «الجيش الحر»، مروراً بـ«جبهة النصرة» وانتهاءً بتنظيم «داعش».
«كنا يداً واحدة، وهنا يكمن السر في صمود المطار أمام الاشتباكات اليومية مع المسلحين»، هكذا بدأ الرقيب إيهاب غانم حديثه وهو يلفّ بعض الشاش حول يده المصابة. فرض الحصار نمط حياة قاسياً على حماة المطار في الداخل، فما كان منهم إلا الاعتراف بالواقع والتعامل معه بهدوء، ولا ضرر بقليل من الضحك. يقول غانم: «رغم المآسي التي تعرضنا لها، فإن باب النكتة لم يُقفل. كانت تحدث معنا مواقف مضحكة في ذروة الاشتباك أحياناً». جاء قرار تسريح الرقيب منذ أربعة أشهر، أي عندما كان محاصراً داخل المطار. منذ ذلك الوقت، أعفي من كل واجباته العسكرية ليبقى صامداً مع رفاقه وقرار التسريح في جيبه. التسريح جاء طبقاً لقرار رئاسي يقضي بإعفاء أي ضابط محتفظ به في حال كان لديه أخ آخر يخدم في الاحتياط.
الاشتباكات كانت شبه يومية، بحسب ما تحدث الرقيب، يتخللها عدد كبير من قذائف الهاون تتجاوز الـ400 قذيفة في اليوم الواحد، عدا عن عمليات القنص. لكن مع الوقت، عرف ضباط الكلية كيفية التعامل معها. يتابع الرقيب سرد حكايته: «نصبنا الستائر تفادياً لعمليات القنص، أما قذائف الهاون فكنا نسمع صوتها عندما تنطلق فنسارع إلى أخذ مكان آمن نوعاً ما، معوّلين على أن لا تطاله القذيفة».
شكّل مطار كويرس عقدة نقص لدى المسلحين ولغزاً لطالما شغلهم وبقي عصياً على السقوط، ما كلفهم عدة وعتاداً، فماذا كان يحدث خلال الاشتباكات؟
يغوص الرقيب الناجي من الموت في تفاصيل حكاية المطار الطويلة: «في إحدى الهجمات، استخدم التنظيم 17 دبابة، بالإضافة إلى 7 مفخخات وأعداد هائلة من المسلحين. اعتمد المهاجمون في خطتهم على إحداث صدمة لنا من خلال المفخخات، لكننا نجحنا في إفشال العملية». ويتابع راوياً: «ذات ليلة، تمكّنا من إنقاذ طيار لنا وقع في مناطقهم بعدما تعرضت طيارته للقصف، وهذا ما جعل المسلحين يجنّ جنونهم».
كان طلاب وضباط الكلية الجوية داخل المطار يخترقون شبكات الاتصال الخاصة بالمسلحين. وسمع الرقيب إيهاب الكثير من المحادثات الجارية بين المسلحين، ليخبر عن واحدة: «سمعت أحدهم ينادي: يا شيخ ... يا شيخ المدفع عم يرمي لحالو». ويتابع ضاحكاً وكأنه رجع بالزمن إلى لحظة سماعه المكالمة: «ما سمعته كان من أطرف الأشياء التي حدثت، فالجندي الذي كان يجلس على المدفع قصير القامة، ولهذا ظن المسلح أن المدفع يرمي الصواريخ بنفسه».
حامية المطار، استشهد في أرضها 48 طياراً من أصل 50، خلال الدفاع عن المطار. دفنوا هناك بحسب الرقيب إيهاب. بعد ذلك أطلق المسلحون على الكلية الجوية تسمية «مطار الجن»، إذ «آمنوا بأن الشياطين تقاتل في المطار ولهذا لم يسقط».
اسقاط كويرس كان هاجساً لدى المسلحين. الرائد هادي إحسان يروي أنّه «عندما يريد التنظيم معاقبة أحد عناصره، كان يرسله إلى جبهة كويرس. وكثيراً ما كانت تتم تصفية العناصر عندما يفشل الهجوم على المطار من قبل التنظيم، مشيراً إلى أن هذه المعلومات تأكد منها خلال اختراق شبكات الاتصال الخاصة بهم.
استشهد في أرض حامية المطار 48 طياراً من أصل 50
خلال فترة الحصار، كانت المؤازرة تأتي إلى ضباط الكلية الجوية من باقي المطارات الأخرى القريبة لتضرب مواقع المسلحين المحيطة. وتكثّفت المؤازرة خلال عمليات الإمداد، وكانت الأخيرة تتم ليلاً بشرط عدم ظهور القمر. يتحدث الرائد هادي: «كانت تتم عملية تغطية للحوامات كي تستطيع الهبوط لأن المسلحين كانوا يبادرونها بالنيران الكثيفة».
في شهر شباط الماضي، استطاع المسلحون إسقاط حوامتين كانتا تؤمنان مؤازرة للمطار وتقومان بإلقاء المؤن. ومنذ تلك الحادثة، اشتد الحصار وتمكّن المسلحون من الاقتراب أكثر من أسواره، ما دفع القيادة العسكرية إلى استعمال المظلات في إلقاء المؤن والذخيرة لحامية المطار «والتي غالباً ما كان يصل منها ثلاثة أرباع الكمية». يقول الرائد: «كنا نتواصل مع الجيش عن طريق الهواتف واللاسلكي، وكانت الأخيرة تعمل داخل المطار بشكلٍ جيدٍ، لكن مع ذوينا كنا ننتظر وجود الشبكة وهي غالباً ما تكون نادرة». وعن لحظات اليأس، يجيب الرائد: «كانت شبه يومية، لكن سرعان ما تتبدد عندما ندخل في الاشتباك مع داعش. مع ذلك كله، كانت الثقة عميقة بداخل كلّ منا أن قوات الجيش السوري قادمة إلينا ... لم تمر أبداً في بالنا لحظات تخلّ، كان التفاؤل حاضراً».
«بابا كاذب»
التأقلم مع الحصار كان الأمر الأسهل بالنسبة إلى حامية المطار، لكن ما كان يقلقهم أكثر لحظات الفقد يتحدث الرائد: «لم يوجعني الحصار بقدر ما لاحقني صوت ابنتي جودي الخارج من سماعة التلفون وهي تنعتني بالكاذب. قالت لي في إحدى المكالمات: بابا أنت كذاب كل يوم بتقلّي بكرا بدك تجي. أي إجا مليون بكرا وأنت ما أجيت».
خضروات للتسلية
كان الطعام متوافراً بكميات محدودة، لكن ذلك لم يكن يشكّل مشكلة كبيرة بالنسبة إلى حامية المطار. يقول الرائد: «همّنا كان أن نسد رمقنا بأي شيء لكي نستطيع الوقوف على أرجلنا، واستطعنا أن نزرع القليل من الخضروات بغرض التسلية. ولاحقاً، في أيام العوز والقلة، استفدنا منها».
وحول الطبابة، فالنقطة الطبية الموجودة في المطار كانت بإمكانيات محدودة، لكن جاهد طاقمها المتواضع لإنقاذ ما أمكن من الجرحى.
«كنا نفتقر إلى المختصين والأطباء في المستوصف. مع ذلك كله، كانت غالبية الإصابات تتم معالجتها. وفي ما يخص الشهداء، كنا نحفر القبر للشهيد، ونضع في التابوت زجاجة بداخلها ورقة كُتب عليها اسمه. ثم نقوم بدفنه بعد تأدية مراسم التشييع الكاملة»، يقول الرائد.
«النهاية»
في 10 تشرين الثاني، وصل الجيش إلى منطقة كويرس شرقي، ليشعر حماة المطار بأن الفرج قادم لا محالة. في لحظة دخول أول مجموعة إلى المطار، يروي الرائد هادي: «لم نصدق أعيننا. اعتقدنا أنه حلم من أحلام اليقظة ... انتظرنا تلك اللحظة بفارغ الصبر. وأكثر ما فرحنا لأجله هو موضوع الجرحى، إذ سيتم نقلهم إلى مستشفيات مجهزة بمعدات طبية».
«انتهت الحكاية» ... واليوم بعد فترة من الراحة، المُدافعون توزّعوا على الجبهات ليكونوا كمن وصل إليهم ... مُحرِّرين.
ريما نعيسة
المصدر: الأخبار
إضافة تعليق جديد