النجم الكلثومي
مظفر النواب ظاهرة صوتية، ومع أن نبرته الكربلائية عدت كثيرين، إلا أن إضافته للنسق الشعري قليلة، لكن قوته هي في قدرته على جذب الجماهير بأحجام تقارب جمهور كرة القدم.
(اطمئنْ رفيق ستالين؛ ليس لدمشق أية مطامع في روسيا)!، نكتة سياسية كان قد ساقها عن لسان (عبد المطلب الأمين - 1916- 1974) أول سفير سوري في روسيا؛ ففي حديثه أثناء تلك السهرة الدمشقية التي جمعتني به مقتبل تسعينيات القرن الفائت، كان (مظفّر النواب) يتذكر ذاك الخطاب الذي حرر الديبلوماسي السوري من خلاله ابتسامةً نادرة من تحت شاربي (الرجل الحديدي) في عز بأس الاتحاد السوفياتي السابق.
وقتذاك ضحك (النوّاب) حتى دمعت عيناه؛ ليطلعنا بعدها على وثيقة كان القصر الجمهوري العراقي قد أرسلها إليه مؤخراً، وفيها يطلب الرئيس الراحل (صدام حسين) منه العودة إلى البلاد بعد إعطائه الأمان التام على حياته. كان الشاعر يمسك بتلك الوثيقة ويقرأها متابعاً نوبة الضحك التي كانت تزداد هستيريةً وألماً كلما قرأ أخطاء اللغة والنحو الواردة في الخطاب الرئاسي؛ قارعاً أنخابنا نحن ندماؤه مع (المازا) العراقية التي حضّرها بنفسه؛ وذلك بعد أن التقينا به غير مرة في مقهى (الهافانا).
كانت سهرة لا تنسى طوّحت بنا حتى مشارف الفجر، لنخرج ثملين من بيت الشاعر العراقي الذي كان عبارة عن غرفتين صغيرتين (ملحق) استأجره على سطوح بناء مطل على ساحة الشهبندر في العاصمة السورية. في تلك الأيام كان الجلوس إلى مائدة (النوّاب) حلماً قصيّاً بالنسبة للكثيرين من جمهور طلبة الجامعة، والتي شهدنا كطلاب كنا على مقاعدها في ذلك الحين تلك الأمسيات التي كان يقترب فيها تعداد الحاضرين للقاء صاحب (عبد الله الإرهابي) من حجم جمهور مباريات كرة القدم.
الجموع المتدافعة لحضور (أبوعادل) كانت تأتي إلى مدرج كلية الصحافة في جامعة دمشق، قبل ساعتين وأحياناً ثلاث ساعات من بدء أمسية الشاعر؛ بل كانت أروقة المكان تكاد لا تتسع لموطئ قدم؛ شباناً وشابات يطوّقون أعناقهم بالكوفيات الفلسطينية؛ ويفترشون أحياناً الأرض أو يستلقون في أحضان بعضهم البعض من دون أي تذمّر لنيل فرصة الاستماع لقصيدة كتلك التي تقول: (القدس عروسُ عروبتكم).
في تلك الفترة التي شهدت حرب الخليج الأولى وتقدم حركات المقاومة إلى الواجهة في جنوب لبنان وثورة أطفال الحجارة في فلسطين، كانت أشعار (النوّاب) الهادرة آنذاك بمثابة روايات (ماركيز دو ساد) الممنوعة ـ المرغوبة، فالأشعار الغاضبة العامرة بما لذّ وطاب من الهجاء السياسي الممزوج بفواحش الشتائم المكالة لقمم (الأزياء العربية) وقادتها؛ جسّدت بنبرتها الحانقة ذلك الصراخ المكتوم في حناجر الشبيبة في وجه كل اتفاقيات الإذعان المعقودة مع إسرائيل؛ من (كامب ديفيد) مروراً بـ (أوسلو) وانتهاء بـ (وادي عربة).
شعراء اليسار
ليست وحدها أشعار (النوّاب) التي انتشرت وقتها بين جمهور الطلبة، بل كانت قصائد (نزار قباني) و (محمود درويش) و (أحمد فؤاد نجم) و (عمر الفرّا) ناهيك عن أغنيات (الشيخ إمام) و (مارسيل خليفة) و (خالد الهبر) و (فهد يكن) جميعها كانت هدايا ثمينة يقدمها الشباب لزميلاتهم في مقاصف المدن الجامعية ومدرجاتها، كآخر صرخة لشعراء اليسار العربي المنكفئ تحت ضغط الهزائم المتلاحقة ومطاردة معظم زعمائه ورموزه وزج البعض الآخر منهم في غياهب السجون.
صرخة أخيرة شكّلت لجيلٍ بأكلمه وسيلةً للتودد من الحبيب وطريقة لتقديم موديل جديد من ذلك المثقف المدجج (بأشرطة كاسيتات) الثورة وأغاني حركات التحرر الأممي و (غيفارات) على طريق تحرير الأرض والإنسان.
كان صراخ (النوّاب) يعلو مع قصائد (خالد أكر) و (جهيمان) و (آدم حاتم) فتهتف الحناجر الشابة مرددةً: «أبو عادل أعِدها، أعِدها يا أبا عادل) وما كان من (الشاعر الكلثومي) إلا أن يعيد ويكرر ويعيد مرات ومرات وصلْته بصوتٍ مذبوح ومدمى؛ مصعّداً من وتيرة هياج الجماهير الطلابية المشدوهة للشتائم الشعرية المقفاة على سجعٍ يطيح بهيبة السلطان وأجهزة الأمن وبروتوكولات الحكّام العرب والصهانية على حدٍ سواء، تماماً كما هو الحال مع مقطعٍ من قصيدته المشهورة (في الحانة القديمة) والتي جسّد فيها (النوّاب) الكبت الجنسي والسياسي والديني في آنٍ معاً كمثل العديد من قصائده: «سيدتي، أيقتلكِ البردُ؟ أنا يقتلني نصفُ الدفءِ ونصفُ الموقف أكثر؛ سيدتي نحن بغايا مثلكِ يزني القهر بنا.. والدينُ الكاذِبُ، والفكرُ الكاذبُ، والخبُر الكاذبُ، والأشعارْ ولونُ الدَمِ يُزَوَّرُ حتى في التَأبينِ رَمادِياً؛ ويوافق كل الشعبِ أو الشعبِ وليس الحاكم أعور.. الخ).
من هنا التقط (النوّاب) حساسيته الصوتية الميلودرامية؛ منغّصاً مزاج المئات من كتبتة الشعر، لا سيما من جيل الشباب الذين تصوروا بسبب ثقافتهم السمعية لا قراءتهم - أن القصيدة تكمن في هذا العويل المباشر من فوق المنابر، قصيدة البيان السياسي التي تتصادى عباراتها الرنانة بين جدران قاعة هنا وصالة رياضية هناك؛ فتغلي الصدور وتمور وتفور بالغضب الساطع؛ وراء قارعي الطبول وشعراء ومطربي حماسة اليسار، وربما الغريب في ذلك أن هذا كان بعيداً عن تلك النصوص الخرساء التي لم تجد سبيلاً إلى منابر الأخذ بالثأر ومكاسرات الخطباء المفوهين شعرياً؛ لتكتفي قصيدة النثر من كل هذا الجمهور الغاضب والعريض بما أسماه يوماً المكسيكي (أوكتافيو باث - 1914- 1998) في كتابه (الشعر ونهاية القرن العشرين) بـ (القلة الكثيرة) أو (الأقلية الهائلة).
يمكن اعتبار (مظفر النوّاب) في هذا السياق ظاهرة صوتية لافتة أو ممثل مونودراما لمسرحية الشخصية الواحدة؛ فبراعته لم تكن في إضافة تركها على نسق الجملة الشعرية التي اشتغل عليها (بدر شاكر السياب) و (عبد الوهاب البياتي) و (نازك الملائكة) و (سعدي يوسف) بقدر ما كانت امتداداً للشعر النبطي المغرق في كربلائيته واستجداء تعاطف الجمهور مع صيحات المنابر في الآن وهنا؛ فعلى الرغم من أن بعض نصوص (النوّاب) لا تخلو من تلك النبرة الصوفية العالية والتفكير بالصور الجديدة: «هدهدتني على سرير الكون أمي، كحلمِ النوارس، فالتبس الله عندي بكل البشر» إلا أن هذا لم يتح له أن يبتعد عن التفكير بتوزيع عواصف التصفيق وحشر العبارات الساخرة والمقذعة بين مقطوعةٍ وأخرى، منتهجاً أقصى حالات غرض الهجاء في الشعر العربي فحشاً؛ ومطوّعاً القصيدة لصالح بكائية الأغنية العربية كأسهل طريقٍ لبلوغ قلوب الجماهير النوّاحة على ضياع الحقوق العربية، وابتغاء أقصى حالات تعذيب الذات وأكثرها ساديةً.
صراخ راديكالي
ربما جاء (النوّاب) في وقته حرّاقاً وعاطفياً ومباشراً كتعبير لا برجزة فيه عن خيبة الأمل الجماعية لجماهير ضيّعت أعمارها وراء سراب تحررها وانعتاقها وكرامتها، متشردةً في كثبان الصحراء من جديد، ململمةً ما تساقط من هودج القصيدة العمودية وخبَبِ حوافر وأسنام جِمالها وخيلها التائهة في سديم لا رجعة منه، ربما كان شعره مضاداً حيوياً وقتها لصراخ راديكالي لا يزال يتلى على منابر العظات والخطب لجمهورَيّ الأحد والجمعة، فلم يحدث أن خرجت الحشود من (نوّابيات) الأمسيات المشتعلة بالهتاف والتصفيق نحو تحرير شبر واحد من الأراضي العربية المحتلة، بل عادت مثل كل مرةً في (أتوبيس الدولة) محشورةً في مقاعده المهترئة نحو بيوتها البعيدة في ضواحي وعشوائيات المدن وأكواخ الصفيح وأحياء المقابر، وربما ابتسمت هذه الجموع أو حطمت في جلسة مراجعة مع الذات كل (أشرطة الكاسيت) المتبقية في أدراجها، كافرةً بقصائد الشعارات التي ألهبت يوماً أكفّها بالتصفيق، ثم عادت متورّمة الأقدام منتفخة الأعين مزرقّة الخدود إلى أقفاصها الرحيمة، مرددةً في سرها أغنية كان (النوّاب) قد كتبها يوماً لـ (إياس خضر) بعنوان (تايبين وما نمر مرة بدربكم) أو تمتمت بينها وبين نفسها ما جادت به قريحة (ابن الكرخ) مستعيرةً رثائيته عن (الحزن ورائحته الرخيصة): «المشربُ ليس بعيداً، ما جدوى ذاكَ؟ أنتَ كما الإسفنجةِ تمتص الحانات ولا تسكر»!.
سامر محمد اسماعيل
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد