مسرحيون سوريون يلوذون بالهواة وآخرون ينشدون رسم الاشتراك!
تركت الحرب السورية، في عامها السادس، أثراً لن يمحى بسهولة على المحترف المسرحي للبلاد، دافعةً البعض من ممثلين ومخرجين إلى الانكفاء والبحث عن لقمة عيشهم عبر العمل في التلفزيون أو الدوبلاج، بينما رفض البعض الآخر الانصياع لهذا الحال، متجاوزين فكرة العمل مع ممثلين محترفين، نحو مدّ جسور جديدة لهواة لا يبغون سوى فرصة للصعود إلى المنصة، ومن دون تقاضي أي أجر على ما يصرفونه من وقت داخل صالات التدريب.
الرفض لهذا الواقع الشاحب للريبرتوار السوري جاء من عشاقٍ حقيقيين لفن الخشبة، فكان أن لجأت المخرجة والممثلة نسرين فندي إلى ممثلين هواة لإطلاق مبادرتها «البيت / المسرح» في مدينة طرطوس، موظّفةً منزل «عائلة محسن حسن» وزوجته «زوات أحمد» الكائن بحيّ «الإنشاءات» كمكان لتقديم تجربة بعنوان «نهر الجنون» عن نص بالعنوان نفسه لتوفيق الحكيم. العرض الذي قام بأدائه كل من ردينة حسين، أمير حسين، محمد لطش، منصور عيسى،، كان فرصة لشبانٍ وشابات ما زالوا يبحثون عن فرصة للوقوف على الخشبة. ثلاثة أيام من دون أجر كانت حرية أن تحقق لهم هذا الحلم، منجزين عرض قراءة مسرحية، محاولين من خلاله الإسقاط على واقع مدينتهم الراهن، ومستفيدين من حكايات مئات العائلات الطرطوسية التي فقدت أبناء لها في الحرب، ومستقين مفارقاتهم من قصص أشقائهم في الأسر النازحة إليهم من مدن وأرياف دير الزور والرقة وإدلب.
العرض الذي عكس، بحسب فندي، حالةً غير مسبوقة في حميميّتها وإلفتها عندما سمحت عائلة حسن بتحويل بيتها إلى مسرح؛ لم يكن ليرى النور لولا تضافر جهود العائلة متوسطة الحال التي كان يعمل ربُّها كموظّفٍ في الميناء، أضف إلى مرونة أفراد هذه الأسرة الذين جعلوا من غرف معيشتهم كواليس وغرف تبديل ملابس ومكياج (وجد حسن). عن هذه المبادرة اللافتة قالت صاحبة مشروع «حَرْف للقراءات المسرحية» (أي نسرين فندي): «بداية الأمر، كان لدي رغبة في تقديم عرضٍ مسرحي على قارب صيد قبالة رصيف المرفأ، لكن لم يحالفنا الحظ في تحقيق هذه الخطوة، فوجدتُ أن العمل مع ممثلين هواة وتقديم عرض داخل بيت؛ أسهل بكثير ممّا لو حاولتُ العمل مع جهة رسمية تتطلب رزمة من الموافقات والتواقيع والمرور في العملية البيروقراطية لما يسمى حكّام المكاتب، ولهذا عمدتُ للاشتغال على «نهر الجنون» دراماتورجياً، لتقريبه من حال السوريين عموماً، فالجميع بات اليوم يتبادل تهمة الجنون مع الآخر، وعلى من لم يشرب بعد من نهره يقال له إن لزاماً عليه أن يشرب، وإلا لن يرحم المجانين عاقلاً وحيداً! باختصار يمكنك القول إنني «حبيت حطّ راسي بين الروس، وقول يا قطّاع الروس»!».
تجربة تحويل البيت إلى مسرح لم تكن الأولى من نوعها في هذه المدينة الساحلية، حيث حصل الفنان الشاب دانيال الخطيب في العام 2015 على ترخيص من «وزارة الثقافة» لإقامة محترف باسمه داخل بيت عائلته في منطقة «العريض»، فيما أدار (الخطيب) أيضاً العديد من الورش مع هواة مسرحيين كان آخرها «ورشة إعداد ممثل» في ناحية «مشتى الحلو» في أيار الماضي. خطوة قام بها قبل سنوات المخرج علي إسماعيل مدير «المسرح القومي» في المدينة، عندما قام هو الآخر بتقديم عرض مسرحي مع الهواة على سطوح بيته في القرية، وبحضور لا يتجاوز العشرين شخصاً، فيما أنجز الفنان رضوان جاموس مؤخراً «ورشة مسرحية مجانية» للهواة مع «المسرح القومي» بطرطوس أيضاً.
مسرح الغرفة
التجربة في البيوت ومع الهواة بعيداً عن المسارح الضخمة خففت الوطء قليلاً على مسرحيين يئسوا من المطالبة بتحسين أجورهم، إذ كانت قد بدأت هذه المبادرات في «حيّ التجارة» (دمشق) بين العامين 2009 و2011 عندما قدم «الأخوان ملص» عرضاً بعنوان «كل عار وأنتَ بخير»، محيلين حجرة من بيت العائلة إلى مكان للعرض وأماكن جلوس الجمهور، وتحت ما عُرف وقتها بـ «مسرح الغرفة» لتصل هذه التجربة إلى ذروتها مع المخرجة والممثلة أمل عمران التي أشرفت وأدارت برفقة الفنان فايز قزق ورش مسرحية مجانية مع هواة في كلّ من اللاذقية والحسكة والقامشلي بين العامين 2008 و2009 قدمت في نهاية كل ورشة منها ما يشبه عرضاً مسرحياً بمثابة امتحان لمتدربي الورشة.
المخرج والممثل عروة العربي انتهى هو الآخر من إدارة ورشة مفتوحة ومجانية مع قرابة عشرين ممثلاً وممثلة من الهواة، حيث وجّهَ صاحب «تشيللو» دعوة عبر صفحته الشخصية على «الفيس بوك»، لكل عشاق المسرح الحقيقيين بالتقدم إلى الورشة، وفعلاً ما هي سوى أيام حتى تقدّم أكثر من ستين شاباً وشابة، معبّرين عن رغبتهم في العمل مع العربي، الذي يبدو أنه هو الآخر قد يئس من مزاج الممثلين المحترفين وعدم التزامهم بأوقات البروفات، فبعد تعرّض المخرج الشاب لخيبات أمل عديدة على أيدي هؤلاء بتركهم للعمل معه بعد شهور من التدريبات من أجل التصوير في مسلسلات التلفزيون، آثر صاحب «مدينة من ثلاثة فصول» الاشتغال مع هواة على «خشبة أبي خليل القباني» (مديرية المسارح والموسيقى)، وبالتعاون مع كل من الدراماتورج براءة زريق، والكوريغراف جمال تركماني في مادة الليونة ولغة الجسد.
بالمقابل يستغل البعض واقع الهواة والحالمين بدخول عالم المشاهير، وذلك عبر ما يسمى «دورات خاصة وتأهيلية» وبشكل ربحي للغاية؛ فنبتت فجأة وقبل امتحانات القبول في قسم التمثيل بـ «المعهد العالي للفنون المسرحية» منتصف أيلول المقبل، العديد من دورات أعلن أصحابها عن أنفسهم على «الفيس بوك» كوسيط شبه أكيد لتأهيل الشباب لدخول عالم الاحتراف، وذلك مقابل دفع مبالغ مالية تتراوح بين 35 ألف ومئة ألف ليرة سورية (ما يعادل 200 دولار أميركي) للدورة الواحدة.
هكذا نقرأ بكثافة على الموقع الأزرق عناوين من قبيل: «مؤسسة الرضا للتدريب والتطوير ـ فرع أورنينا» تعلن عن دورة تأهيلية للمعهد العالي للفنون المسرحية بإشراف الفنان كفاح الخوص، وأخرى للخوض أيضاً بعنوان «ورشة عمل لإعداد ممثل لفحص المقابلة في المعهد» (مركز النشاطات السوري ـ البلغاري)!؟ في حين بزغت صفحة أخرى على موقع «زكربرغ» لما يسمى بمعهد (FUTURE STARS - نجوم المستقبل)! معلناً كذلك الأمر عن إقامة ورش ودورات تدريب للهواة، داعياً شباب وشابات للتسجيل بإشراف كلّ من الممثلين وسيم قزق وأحمد الأحمد، بينما أعلنت الممثلة نغم ناعسة عمّا أسمته «دورة تأهيلية للتمثيل» في معهدها (ستيج آت ـ STAGE ART) وأخرى للسينوغرافيا وثالثة ورابعة للرقص والموسيقى خاصة بالتقدم لمسابقات قبول المعهد المسرحي.
مخرج شاب فضّل عدم ذكر اسمه قال للسفير: «هذه الدورات مثل موسم رمضان التلفزيوني بالنسبة إلى البعض، إذ يستغلونها مادياً لتحصيل الأرباح ممّن يرغبون في دخول الوسط الفني وعالم المشاهير، لكن من المفيد الاعتراف أن الدخول للمعهد المذكور لا يتعلق بخبرات ولا يطالب أحد من المتقدمين باتباع ورش تأهيلية كالتي يقيمها بعض الزملاء، ناهيك عن دور «الواسطة» والمحسوبيات التي تتدخل بشكل حاسم في قبول حوالي خمسة عشر طالب وطالبة سنوياً من أصل أكثر من ألف متقدم ومتقدمة، مما يزيد من خيبات الأمل الجماعية لدى المغرّر بهم من متّبعي دورات الإكسبريس!».
اللامساوة
المخرج سامر عمران والعميد السابق للمعهد العالي للفنون المسرحية علّق على هذه الظاهرة: «في البداية كنتُ ضد هذه الدورات التي تبيح نوعاً من اللامساوة بين شبان وشابات يمتلكون مالاً لإتباع مثل هكذا دورات، في حين لا يملك البعض الآخر منهم الإمكانية المادية لذلك، لكن مع الوقت شعرتُ أن مثل هذه الدورات تساعد اللجنة على تسهيل فحص المتقدم أو المتقدمة، وتعطيه بعضاً من الثقافة المسرحية، لاسيما أن من يُجري هذه الدورات في أغلبهم هم من خريجي وخريجات المعهد، لكن المصيبة في تلك الدورات التي يقيمها أُميوّن لا يعرفون عن فن التمثيل ألف باء هذا الفن الصعب والحساس». اللافت أن هذه الدورات التدريبية التي تنمو اليوم كالفطر في أحياء العاصمة، لم تختص فقط بدورات القبول في «قسم التمثيل» بل تضمنت دورات وورش لهواة من أجل دخول قسم الرقص في المعهد المسرحي، إضافةً لدورات للراغبين بدخول امتحان كلية الفنون الجميلة، جنباً إلى جنب مع تعلّم قصّ الشَعر والمكياج والرقص الشرقي والعزف على الآلات الموسيقية والكاراتيه! لكن قبل ذلك عليك «أخي الهاوي» دفع رسم الاشتراك! ظاهرة سرعان ما تنشط في هذه الفترة من السنة، ولا تلبث أن تذوب وتتبخر عناوينها ودعواتها على مواقع التواصل الاجتماعي مع انتهاء فحوص القبول في الكليات والمعاهد المستهدفة، ومن دون أية رقابة محتملة، فمن يحمي الهواة من أحلامهم مسبقة الدفع؟
سامر محمد اسماعيل
المصدر: السفير
إضافة تعليق جديد