الاقتصاد السوري «يتباعد» جغرافياً: سوق ونموذج لكل منطقة
ما بات يفرق المحافظات والمناطق السورية اقتصادياً اليوم أكبر بكثير مما كان يجمعها. فلكل محافظة، وأحياناً لكل منطقة، اقتصادها الخاص المنبثق من رحم الحرب ومجرياتها. اقتصاد تسيطر عليه أنشطة غير مشروعة قائمة على الربح، وإهمال قيم العمل والإنتاج وهدر الموارد والثروات الوطنية
لم تعد إدلب خضراء كما كانت توصف قبل سنوات الحرب، فمدنها تحولت إلى مناطق حرة للبضائع والسلع التركية، ومحافظات الجزيرة الثلاث (الحسكة، دير الزور والرقة) التي كانت بمنزلة الخزّان الاستراتيجي لغذاء 23 مليون سوري، غدت اليوم عاجزة عن إطعام ما تبقى من أبنائها المقيمين فيها، وصناعيو حلب الذين كان يخشاهم الشرق، تحوّل بعضهم إلى أصحاب بسطات وورش صغيرة، وبعضهم الآخر لم يجد أمامه من مخرج سوى الهجرة. حتى المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة فقدت جزءاً كبيراً من هويتها وأنشطتها الاقتصادية لمصلحة ما بات يعرف باقتصاديات العنف أو الحرب.
فبعد ست سنوات ونيف من الكارثة، تكشف الخريطة الاقتصادية للبلاد عن اقتصاد «مبعثر» و«مناطقي» تتبدى ملامحه في الأسواق المتعددة والمستقلة عن بعضها البعض، وفي الأنشطة غير القانونية، التي تزايدت نسبتها إلى مرحلة أصبحت تمثل فيها العمود الفقري لاقتصاديات مناطق عديدة، ولا سيما تلك الخاضعة لسيطرة مجموعات مسلحة، والقريبة من بعض الدول المجاورة.
بدليل ما خلص إليه مسح السكان المنفذ عام 2014 من نتائج تتعلق بواقع الأنشطة المرتبطة بالحرب وانتشارها جغرافياً، حيث أكدت النتائج غير المنشورة أن تجارة المحروقات كنشاط جديد ينتشر في نحو 30% من المناطق السورية المدروسة، والتهريب ينتشر في 16%، وبيع المسروقات في 15%، وتوليد الكهرباء وبيعها في 9%، وتكرير وإنتاج المشتقات النفطية بطريقة غير نظامية في 7%.
مع الإشارة إلى وجود تباينات كبيرة في انتشار هذه الأنشطة على مستوى المحافظات والمناطق، فمثلاً تنتشر تجارة المحروقات في نحو 81% من مناطق محافظة إدلب ونحو 75% من مناطق الحسكة، فيما يسود التهريب كنشاط اقتصادي في نحو 44% من محافظة حمص، و30% من محافظة اللاذقية. واقع يُحمّل الباحث في المركز السوري لبحوث السياسات، الدكتور نبيل مرزوق، مسؤوليته لجميع أطراف الحرب، فيشير إلى أن «استمرار الصراع المسلح وتعدد الأطراف المشاركة فيه أسهما في نشوء عدد من جبهات المواجهة،
فيما بين الأطراف المختلفة ونشوء مناطق نفوذ اعتبر كل طرف أنها منطقة سيادته ومصدر قوته وتمويله في معظم الحالات». واعتبر في حديثه إلى «الأخبار» أن «انكفاء القوات النظامية عن المعابر الحدودية كان له دور كبير في تحويل تلك المعابر إلى مصادر تمويل للجماعات المسلحة التي تنازعت السيطرة عليها. فقد حرصت كل جماعة مسيطرة على منطقة أو محافظة على التحكم بالمصادر المحلية والموارد المتوفرة، بالإضافة إلى التحكم بحركة السلع والبضائع من وإلى المنطقة الخاضعة لنفوذهم، ولا يقتصر الأمر على المناطق الواقعة تحت سيطرة الجماعات المسلحة، فالمناطق الخاضعة لسيطرة النظام أيضاً خضعت لابتزاز أمراء الحرب». لتكون نتيجة كل تلك المتغيرات في النهاية أن السوق السورية الواحدة تحوّلت ــ
كما يؤكد تقرير صدر أخيراً عن مركز دمشق للأبحاث والدراسات حمل عنوان «الأمن الغذائي في سوريا» ــ إلى «أسواق محلية ومناطقية، لكل منها محدداته ومؤشراته الخاصة، من حيث توافرُ المواد والمنتجات الغذائية والأسعار، ما جعل من إشكالية خلل جغرافية الاقتصاد السوري تطفو على السطح، وتثير سيلاً من التساؤلات عن نهج التوازن التنموي الجغرافي الذي كان سائداً قبل الأزمة». وهذا ما يشير إليه أيضاً الخبير التنموي ونائب رئيس الفريق التنفيذي للحكومة الإلكترونية سابقاً الدكتور محمود عنبر، «فالاقتصاد المنظم لم يكن يشكل تاريخياً أكثر من 30% من حجم الاقتصاد في سوريا، فقد كان هناك ما يدعى بالاقتصاد العشوائي، والذي يعمل خارج إطار القوانين التي تنظم العمل الاقتصادي، وذلك لأسباب أهمها قصور آليات تنظيم العمل الاقتصادي وفسادها». ويضيف في تصريح لـ«الأخبار» أن «التبعثر الآن له أسباب أمنية في المقام الأول، لكنه بالنتيجة سيؤدي إلى تأثير أقل للجهاز الحكومي في رسم ملامح النظام الاقتصادي الجديد في كل منطقة».
اقتصاد التسويات
ومع أن مصير هذا التبعثر والتشتت الاقتصادي تحدده مجريات المعارك العسكرية والتسويات السياسية، إلا أن ذلك لا يوحي لكثيرين بالاطمئنان طالما أن هناك دولاً كثيرة ترغب في استدامة «النزاع»، وصياغة واقع جديد على الأرض السورية يخدم مصالح تلك الدول وأهدافها، الأمر الذي يجعل من الموارد والثروات الوطنية في بعض المناطق هدفاً مستمراً لبعض الجماعات والفصائل المسلحة، فضلاً عن المصالح الاقتصادية المتحققة لبعض دول الجوار، فمثلاً يكفي معرفة أن البضائع التركية الداخلة إلى مناطق الشمال السوري الخارجة عن سيطرة الحكومة السورية تعدّت قيمتها العام الماضي ما كانت قد وصلت إليه الصادرات التركية إلى سوريا في عام 2010. وبحسب ما يرى الدكتور عنبر «من المتوقع أن يكون هناك نشاطات اقتصادية متباينة كل منها سيتأثر مناطقياً بدول الجوار (من جهة)، كما أنه سيتأثر بالقوى الفاعلة المؤثرة على الأرض. لكن الأثر الأكبر قد ينشأ من ظهور خلافات حول توزيع الثروة الناجمة عن الموارد الباطنية بين مناطق النفوذ (مثل النفط والغاز والمياه والفوسفات)، وحينها من المتوقع أن تظهر اختلالات كبيرة بين منطقة وأخرى، يخشى من تحولها تدريجياً إلى واقع سياسي».
يتعمق الدكتور مرزوق أكثر في بيان تأثيرات تلك الحالة الاقتصادية التي تعيشها المحافظات والمناطق السورية، فيؤكد أن «الآثار الناجمة عن هذا التشظي الاقتصادي والاجتماعي، يضاف إليها دمار البنية التحتية والأصول الإنتاجية بما فيها المصانع والورش والأراضي الزراعية، وتحويل الموارد من الإنتاج إلى تمويل الحرب، أدت إلى تراجع القدرة الإنتاجية للاقتصاد الوطني ككل، ونشوء فئة من أمراء وأغنياء الحرب يمتلكون القدرات المالية والنفوذ، ويمكن أن يكون لهم الدور الأبرز سياسياً واقتصادياً في مرحلة ما بعد الصراع، إذا جاء الحل بتوافقات دولية بعيداً عن تطلعات الشعب السوري».
وفي انتظار تبلور حل سياسي للأزمة، فإن مواجهة ظاهرة التبعثر الاقتصادي، وإعادة الاعتبار للأنشطة الاقتصادية القانونية القائمة على الشفافية والوضوح ستكونان بمنزلة تحدٍّ للمحافظة على مؤسسات الدولة والانتقال بها إلى مرحلة إعادة الإعمار، إذ إنه يمكن، وفق ما يؤكد عنبر، «تحويل هذه المشكلة إلى فرصة في حال إجراء تغييرات واسعة في منظومة الحوكمة، فالمرحلة القادمة ستتميز بنوع من المنافسة بين النماذج الاقتصادية التي ستكون موجودة في كل من المناطق المختلفة، وإذا بقيت منظومة الحوكمة السورية الرسمية ينخرها الفساد، فسيضمحل دورها في المستقبل المتوسط. أما في حال إعادة رسم الدور الحكومي بما يتناسب مع المتغيرات السياسية والأمنية والاقتصادية، فمن الممكن أن تشكل منظومة الحوكمة الجديدة رافعة اقتصادية على المستوى الوطني»
زياد غصن - الأخبار
إضافة تعليق جديد