أنقرة و«إخوانُها» لجني «الثّمار»: بدء العدّ التنازليّ في إدلب
بين حقبة صعود «جبهة النصرة» وهيمنتها شبه المطلقة على محافظة إدلب، ومرحلة الانحدار التي توشك أن تتحوّل أمراً واقعاً، ثمّة قاسم مشترك أساسي، هو اللاعب التركي. كانت أنقرة عاملاً شديد التأثير في مسار «الجبهة» المتطرفة، وعلى نحوٍ مماثلٍ لمسارات صعود «داعش» وانحدارها. وكما حقّق الأتراك مكاسب من استثمار «داعش» في المرحلتين، يتهيّأون اليوم لتكرار السيناريو وجني مكتسبات أفول «النصرة» كما جنَوا ثمار صعودها. وبينما تتسارع الأحداث في إدلب تمهيداً لبدء تنفيذ ما توافق عليه اللاعبون في أستانا، تتهيّأ جماعة «الإخوان المسلمين» لتجني نصيبها من الثمار... ثمار حربٍ خيضت بـ«دماء الآخرين»
ساعة إدلب دقّت. تنفيذ التوافقات التي بُنيت قطعة قطعة في شأن المحافظة الشماليّة استوفى معظم شروطه، وبات في انتظار «شارة الانطلاق» التي لا يمكن إلا أن تكون تركيّة. وعلى نحو مماثل لمسار تفكيك معادلة «داعش» في الشمال السوري، أفلحت أنقرة في فرض نفسها ممرّاً إجباريّاً لأي «مشروع» ينجح في تفكيك «إمارة النصرة».
وعلى الرّغم من أن تقويض هيمنة الفرع السوري لتنظيم «القاعدة» في إدلب الخضراء كان حتى وقت قريب يبدو في ظاهر الأمر مهمة محفوفة بالمخاطر، غير أنّ مجريات الأسبوعين الأخيرين جاءت لتقلب التصوّرات وتُثبت أن كلمة السر التركيّة شديدة الفعالية. وإذا كان ضم إدلب إلى اتفاقات «خفض التصعيد» قد كشف بوضوح عن أنّ «البازار» أفضى إلى صفقةٍ ما، فإنّ تصريحات وزير الخارجية التركية مولود جاويش أوغلو جاءت قبل يومين لتقطع الشكّ باليقين وتؤكّد أنّ «جبهة النصرة» هي القربان الموعود. وكان المسؤول التركي قد قال إنّ العمل بدأ بالفعل لتنفيذ اتفاق «خفض التصعيد» في إدلب، مؤكداً أن «المرحلة الأولى الجارية بالفعل هي فصل المعارضين المعتدلين عن المنظمات الإرهابية». ولا تعدو هذه التصريحات كونها «إعلاناً رسميّاً» لوجود مخطط لـ«عزل النصرة» يُعمَل على تنفيذه فعليّاً منذ شهور عدّة، وعلى وجه التحديد منذ أواخر كانون الثاني الماضي . ورغم أن مسار الحدث في إدلب قد ذهب منذ ذلك الوقت نحو تشديد قبضة «النصرة» أكثر فأكثر (تحت بصر أنقرة وبغضّ نظر حتمي منها)، غيرَ أنّ المآلات التي أفضى إليها هذا المسار قد أثمرت «عزلاً» على مقاس اللاعب التركي. فاتساع رقعة سيطرة «النصرة» في إدلب وإلحاقها هزيمة تلو الأخرى بالمجموعات غير المتحالفة معها، وهيمنتها شبه المطلقة على المحافظة في تموز الماضي، كانت في جوهر الأمر أوراق قوّة إضافيّة يجري تجميعها في قبضة أنقرة.
تنفيذ التوافقات التي بُنيت في شأن المحافظة استوفى معظم شروطه
ومن بين الفوائد التي جناها الأتراك من هذا «التمدد المؤقت» يبرز تعاظم القلق الشعبي في إدلب من انعكاسات هيمنة «الإرهاب» وتعزيز رفض الحواضن الشعبيّة لأبو محمد الجولاني وجماعته، في مقابل زيادة رصيد بعض المجموعات المتقهقرة من القبول المجتمعي. وتأتي على رأس تلك المجموعات «حركة أحرار الشام الإسلاميّة» و«ألوية صقور الشام». ورغم أن «الصقور» لم تنخرط فعليّاً في المعارك الأخيرة ضد «النصرة» ولم تُمنَ بهزائم أمامها (خلافاً لـ«أحرار الشام») غير أن تطلّع بعض الحواضن إليها بوصفها عقبةً محتملةً في وجه سيطرة «النصرة» المطلقة أدّى إلى ارتفاع أسهمها من جديد، يعزّز ذلك انتماء عدد كبير من مقاتليها إلى الريف الإدلبي. في الوقت نفسه أدّى «التمدد» إلى تجذير الفصل بين صنفين من المسلّحين (على اختلاف انتماءاتهم).
أوّل الصنفين يضم المسلحين القابلين للانجذاب إلى «سحر الرايات السوداء»، وقد سارع معظمهم إلى «مبايعة» الجولاني على وقع انتصاراته بين شباط وتموز. أما الصنف الثاني، فيضم خليطاً من المسلحين ذوي الميل «الإخواني»، وبقايا المنشقّين غير المؤدلجين دينيّاً، والمتوجّسين من «إمارة» يفرضها الجولاني، مستنداً إلى «فقه التغلب» وتجرّ على إدلب مصيراً مماثلاً لمصير المناطق التي نُكبت بـ«خلافة داعش». ويضاف إلى المكتسبات التركية المجبيّة من صعود «النصرة» الطارئ، رفع الثمن الذي يمكن أن تجنيه أنقرة من «ذبح الثور بعد تسمينه» ولا يصعب تخمين الأثمان الكفيلة بإرضاء أنقرة في حالات مماثلة، ويأتي على رأسها توسيع مساحات «الانتداب» غير المعلن ودخولها على خط محافظة جديدة. ومن شأن الدخول العسكري إلى إدلب أيضاً زيادة مخاوف الأكراد في شأن منطقة عفرين الخاضعة لسيطرة «قوات سوريا الديمقراطيّة» التي باتت أشبه بـ«جيب» مطوّق.
وكتحصيل حاصل لتثبيت الوجود العسكري التركي في إدلب، يأتي هدفٌ تركي بعيدٌ يتعلّق بـ«الصفقة» التي لا بدّ من توافق اللاعبين حولها آخر الأمر لإقفال ملف الحرب السورية. وثمة تفصيل بالغ الأهمية تجدر الإشارة إليه ويتعلق بمناطق «درع الفرات» في ريف حلب، حيث تشير المعلومات المتوافرة من هناك إلى زيادة «الإعجاب الشعبي» بتركيّا، ولا سيّما أن تلك المناطق قد عرفت مرحلة من «الأمان» في ظل الاحتلال التركي. ويبدو لافتاً أنّ عدداً كبيراً من اللاجئين العائدين من دول الجوار قد عادوا إلى تلك المناطق تحديداً، وفقاً للإحصائيات التي توفرها المنظمات الدولية المعنية باللاجئين. ويبدو هذا السيناريو مرشحاً للتكرار في مستقبل إدلب القريب، وعلى وجه التحديد في القسم الذي ستضطلع أنقرة بمسؤوليته في ظل اتفاق «خفض التصعيد»، وهو الجزء القريب من حدودها بطبيعة الحال.
ورغم استيفاء العملية العسكرية التركية المرتقبة عناصرها، ما زالت أنقرة تسعى في ربع الساعة الأخير إلى انتزاع موافقة من «النصرة» على تكريس «حل سلمي» يوفّر على الطرفين أكلاف الحرب.و قد أشرنا قبل ثلاثة أسابيع إلى «عرض تركي» على طاولة الجولاني يمنحه «خروجاً مُشرّفاً» من المشهد السوري.
وترافق العرض المذكور مع رسائل تركية «شديدة اللهجة» تحمل في طيّاتها تهديداً مبطّناً بتسهيل استهدافه وتصفيته. غيرَ أن الجولاني اختار «الحل الأصعب» عبر إعلان نفسه «قائداً عاماً لهيئة تحرير الشام». ورغم أنه كان منذ إنشاء «الهيئة» قائداً فعليّاً لها، غير أنّ الخطوةَ جاءت بمثابة ردّ على تهديدات أنقرة. ويؤكد «مسؤول جهادي» سابق في «النصرة» أنّ «خطوة الجولاني كانت رعناء، وذهبت بعيداً في التحدّي». ويقول المصدر الذي انشقّ قبل عامين إنّ «جنون العظمة قد تفاقم لدى الجولاني في الشهور الأخيرة، وقد أبلغنا كثير من الإخوة عن وقائع تؤكد أنّه فقد السيطرة على نفسه».
ورغم أنّ «هيئة تحرير الشام» قد أصدرت أخيراً تكذيباً لنبأ إصابة الجولاني، غير أنّ التكذيب (في حال صدقه) لا ينفي احتمال ضلوع أنقرة بتسريب معلومات عن مكان وجود الزعيم المتطرف. ويورد مصدر إعلامي مرتبط بـ«الهيئة» رواية مفادها أنّ «الشيخ عدل عن حضور الاجتماع الذي استُهدف قبل ساعتين فحسب». ويؤكد المصدر أنّ «الشيخ سيخرج قريباً في شريط مصوّر ليفضح كذب الروس». وأصرّت موسكو أمس على رواية إصابة الجولاني ووضعه الحرج.
ونقلت وسائل إعلام روسية، عن المتحدث الرسمي باسم وزارة الدفاع، إيغور كوناشينكوف، تأكيده أن «سلاح الجو الروسي نفذ غارة دقيقة، بعد تلقيه معلومات استخبارية، أدت إلى مقتل عدد من قيادات النصرة، وإصابة زعيمها ودخوله في غيبوبة». ويبدو جليّاً أنّ وقوع الغارة في حد ذاته يأتي بمثابة ورقة ضغط قاتلة على «النصرة» وزعيمها، سواء أكانت إصابته حقيقةً أم لا.
المصدر: صهيب عنجريني - الأخبار
إضافة تعليق جديد