يوم التقيت بمدينة بعد موتها ..دير الزور .. يا للهول
في يوم ما في قديم الزمان، جلست سوريا متكئة على كوعها تنظر للغروب، وخطر لها في تلك اللحظة أن الزمن غادر وأن الأيام قد تجور عليها، وتبقى عارية دون عراق. فكرت أنه لو حصل ذلك فلن تكون قادرة على احتمال الألم، فاحتاطت جيداً وبدأت في الصباح التالي بخلق مدينة اسمتها دير الزور، كي يكون لها عراقها مهما حصل.
طيلة قرون أدّت المدينة الدور بكل ما يتطلبه من شجن وعمق وموسيقى وفرات وحزن، وكما يحصل عند هذه الدرجة من الاتقان، التبس الأمر على البعض وعبروا عن الالتباس بعبارات ساذجة مثل (أهل الدير يشبهون العراقيين كثيراً) يا ويحكم، أهل الدير لا يشبهون إلا أنفسهم، ودير الزور هي عراق كامل بمفردها، حتى ليكاد يصعب الجزم أي العراقين سابق، وأيهما أشد عراقاً.
على مرّ السنين لم يخطر لي تفقد ذلك العراق الذي خباته لي البلاد، فقد كنت أشعر دائماً بالأمان، وأنا أعرف أن عراقي ثابت هناك بانتظاري في أي وقت، وبغتةً وفي غفلة من الزمن ومن البلاد ومني، وجدت نفسي وقد فقدت العراقَين، دون ألتقي بأي منهما وجهاً لوجه.
عضّني الندم والقهر، لدرجة أنه في اول فرصة متاحة (هي في الحقيقة منتزعة) ذهبت سريعاً لأعوض تقصيري السابق وأتعرف عليها، لكنني حين وصلت:
كانت المدينة قد ماتت.
التعارف
الساعة الثانية ظهراً. الشمس ترتفع وسط السماء، وملامح المدينة الشاحبة تظهر من بعيد.
“دير الزور ترحب بكم”. قرأت الآرمة بشعور من يسمع صوتاً خارجاً من تابوت، لذا بدا الأمر مخيفاً بعض الشيء.
ببالي كثير من الحكايات والروايات، القديمة منها والحديثة، واختزنت بذاكرتي مئات الصور عنها قبل وبعد الحرب. كيف لي أن أعيد ربطها جميعاً وأنا أزور المدينة للمرة الأولى، بعد سبع وثلاثين سنة من حياتي في سوريا، وتحديداً في دمشق، وبعد دمارها نتيجة حرب ظلت تطحنها لأكثر من خمس سنوات؟
أعرف أنها لن تقوى على ملاقاتي، إذاً، لأدخل بقدمي اليمنى ولأهيئ كل حوّاسي لما سأواجه، فأنا من عليه أن يتلقى المدينة.
شارع نصف مدمر
يقول سكان دير الزور “الربع ماشي حاله، والباقي على الأرض”، ويقصدون بذلك نجاة مساحة لا تتجاوز ربع حجم المدينة من الدمار الكلي، ولكن ليس من الدمار الجزئي ومن آثار الحرب والحصار التي تبدو ظاهرة للعيان رغم انتهاء المعارك فيها منذ حوالي عام ونصف.
تضجّ أحياء منها القصور والجورة بالحياة، فالأبنية سليمة إلى حد كبير، رغم أنها لا تخلو من آثار قذيفة هنا، وبضع رصاصات هناك، وغبار أسود يغطي عدداً كبيراً منها. “هو الغبار الناجم عن حرق البلاستيك للتدفئة والطبخ خلال أيام الحصار وانقطاع كافة أشكال الحياة”، يشرح لي أحد السكان.
في شارع البدوي، وهو السوق الأكثر شعبية في المدينة، تتراءى تفاصيل أخرى. طريق غير معبّد بمعظمه، وتغمره من الجانبين صرخات الباعة الجوالين، وأصوات المارة والمتسوقين، ويمتلئ بألوان محال الأطعمة والحلويات والمرطبات والمقاهي الشعبية. “يشبه قليلاً سوق باب سريجة بدمشق”، أهمس لنفسي. لعبة التشبيهات عند زيارة الأماكن الجديدة لا تنتهي.
ببعض السؤال أدرك بأن معظم من هم في المدينة اليوم ليسوا من أهلها وإنما من أهل الأرياف الذين تركوا بلداتهم وقراهم هرباً من نيران الحرب، ومن الدمار الذي لحق بمنازلهم، في حين نزحت الآلاف من عائلات مدينة دير الزور نحو محافظات أخرى، أو ربما خارج البلاد.
أبحث في وجوه المارة داخل الأحياء نصف المدمرة عن حكايات وإجابات لأسئلة لا تنفك تدور في ذهني، وأعرفها على الأغلب لكنني أرغب بسماعها منهم. حكايات عن تلك الأيام، وعن شبح اسمه “الحصار”، وعن كيفية الفرار منه. أجرؤ على التقاط بعض العموميات من هنا وهناك، دون الخوض بعمق التفاصيل التي أشعر بأنها ستكون مؤلمة عند استرجاعها.
شارع مدمر بالكامل
المهمة الأكثر سهولة في دير الزور: العثور على شارع مدمّر بالكامل، فهي سمة معظم أجزاء المدينة اليوم.
تبدأ المهمة في شارع سينما فؤاد، وتمر بشوارع حسن طه وستة إلا ربع ودوار التموين، ولا تنتهي سوى في اليوم التالي، على كتف نهر الفرات. في كل شارع يمكن قضاء ساعات وأيام إن رغبنا بإعادة تركيب أجزاء الحكاية انطلاقاً من منزل أو محل أو مقهى أو دار عبادة، فهي أجزاء مبعثرة أكثر من اللزوم. “وما هو اللزوم هنا؟”، أسأل نفسي ساخرة.
البيت
زيارة منزل مدمر لأول مرة، والبحث عن خيوط متلاحقة من الذكريات. تبدو أحياناً أشبه بلعبة، أن أعيد ترتيب كل تلك التفاصيل من جديد، وربما كما يحلو لي. من كان ينام هنا؟ ومن كان يدرس في هذه الغرفة؟ كيف كانوا يقضون أوقاتهم؟ كم شخصاً كانوا؟ ماذا كان الأب يعمل؟ والأم؟ يبدو أنه كان لديهم طفلان أو ثلاثة. ما هي أعمارهم؟ اليوم، أو ربما عندما تركوا المنزل؟
لا، ليست لعبة مسلية بل هي متعبة للغاية.
أخاف أن أكون قد سبقتهم لزيارة منزلهم، فكثر من أهالي الدير اليوم، ومع تبعثرهم في أرجاء البلاد وخارجها، لا يجرؤون على القدوم لمدينتهم لئلا يروا دماراً أقوى من قدرتهم على الاحتمال. أتمنى لو كان بإمكاني تصوير كل المنازل، كل الجدران، كل النوافذ، وإرسال الصور لأصحابها، كي يحكوا لي عن ذكرياتهم فيها. أخاف من هذه الأمنية، ففيها من الأنانية الكثير.
الكنيسة
لوحة رخامية – كانت يوماً ما بيضاء – حُفر عليها: “تقدمة ميخائيل.. (الكنية غير واضحة) لراحة نفس والدته ووالده وأخيه”.
كيف سنعرف أسماء الأحياء والأموات إن كانت الحجارة جميعها قد تكسرت وأصبحت قطعاً صغيرة ورماداً؟ أتذكر مشهد الدمار في مقبرة مخيم اليرموك، حيث تبعثرت شواهد القبور في كافة الأرجاء، وحاول بعض الأهالي والزوار إعادة جمعها. وهل يمكنني أن أنسى كيف أمضى أحد أصدقائي ساعات طويلة وهو يبحث عن شاهدة قبر والدته بين الركام دون طائل؟ الدمار ذاته في كل مكان.
الصمت داخل الكنيسة مخيف، ومريح في الوقت ذاته، فالشارع بأكمله خاوٍ على عروشه.
هل ستسمع الصلوات على راحة نفس الأموات من هنا بعد اليوم؟ أم أنهم ماتوا مرتين؟
النهر
نصل إلى “الفرا” كما يسمي أهالي دير الزور نهرهم باللهجة المحلية.
تُروى حول نهر الفرات في المدينة الكثير من الحكايات التي لا أعرف إن كان بعضها يصل حد الأساطير أو الخرافات، لكني أحبّ تصديقها حتى النهاية.
عند ولادة طفل جديد، على ذويه أن يقطعوا مشياً على الأقدام جسور النهر السبعة وهم يحملون مولودهم الجديد قبل أن يبلغ يومه الأربعين. “هكذا ينشأ رابط سري بينه وبين المدينة والنهر”، يقولون. تحكي لي صديقة بأنها وضعت مولودها خارج سوريا، وحرصت على العودة خصيصاً كي تقطع به النهر، قبل أفول شمس اليوم الأربعين.
ما العمل اليوم وقد انهدمت جميع الجسور؟ كيف سنعيد ربط الصلة مع المدينة؟ لا أحد حقاً يملك إجابة شافية.
رواية أخرى سمعتها، وتحكي عن طقس وداع من يبتلعهم نهر الفرات أثناء السباحة، وهي حوادث لا بد منها كل عام. يتمثل الطقس بذهاب والدة المتوفى إلى مكان غرقه، ووقوفها على حافة النهر ومن ورائها، إلى البعيد قليلاً، حشود الأهل والأصدقاء. تستمر الأم الثكلى بالمناداة على طفلها حتى التعب، وتعود إلى المنزل بانتظار أن تطفو الجثة على سطح المياه ومن ثم إحضارها بغرض دفنها. “نداءات تقطع القلب”، يصفونها لي.
من سينادي اليوم على آلاف الموتى؟ ومن سينتظر جثثهم كي تطفو لدفنها؟
تبدو المنازل المدمرة على كتفي الفرات جميلة للغاية، وفيها الكثير من التفاصيل. نوافذ ملونة. جسور حجرية مزخرفة. شرفات منحوتة وقناطر حجرية. أحزن لأنني كنت أعتقد فيما مضى بأن دير الزور مدينة غير جميلة. أخجل من البوح بذلك بشكل علني، وأفضّل أن أحتفظ بالأمر لنفسي.
المدينة الحيّة الميتة
أن نزور مدينة لأول مرة في حياتنا بعد أن مرت بها الحرب، يشبه أن نلتقي شخصاً ما للمرة الأولى، لكن بعد وفاته، وأثناء جنازته تحديداً. يشبه أن نعيد تركيب تفاصيل حياته في أذهاننا، وهي ستكون على الأغلب تفاصيل من اختراع خيالنا، وربما من معرفة سطحية به. لن نعرف يوماً إن كانت هذه الحكاية المتخيلة تشبه الواقع فعلاً، فالرواية الحقيقية قد تبقى حبيسة جدران المدينة المتهاوية، مهما بحثنا عنها.
في يوم ما في قديم الزمان، جلست سوريا متكئة على كوعها تنظر للغروب، وخطر لها في تلك اللحظة أن الزمن غادر وأن الأيام قد تجور عليها، وتبقى عارية دون عراق. فكرت أنه لو حصل ذلك فلن تكون قادرة على احتمال الألم، فاحتاطت جيداً وبدأت في الصباح التالي بخلق مدينة اسمتها دير الزور، كي يكون لها عراقها مهما حصل.
طيلة قرون أدّت المدينة الدور بكل ما يتطلبه من شجن وعمق وموسيقى وفرات وحزن، وكما يحصل عند هذه الدرجة من الاتقان، التبس الأمر على البعض وعبروا عن الالتباس بعبارات ساذجة مثل (أهل الدير يشبهون العراقيين كثيراً) يا ويحكم، أهل الدير لا يشبهون إلا أنفسهم، ودير الزور هي عراق كامل بمفردها، حتى ليكاد يصعب الجزم أي العراقين سابق، وأيهما أشد عراقاً.
على مرّ السنين لم يخطر لي تفقد ذلك العراق الذي خباته لي البلاد، فقد كنت أشعر دائماً بالأمان، وأنا أعرف أن عراقي ثابت هناك بانتظاري في أي وقت، وبغتةً وفي غفلة من الزمن ومن البلاد ومني، وجدت نفسي وقد فقدت العراقَين، دون ألتقي بأي منهما وجهاً لوجه.
عضّني الندم والقهر، لدرجة أنه في اول فرصة متاحة (هي في الحقيقة منتزعة) ذهبت سريعاً لأعوض تقصيري السابق وأتعرف عليها، لكنني حين وصلت:
كانت المدينة قد ماتت.
زينة شهلا : الأيام
إضافة تعليق جديد