الأميركيون ونصرالله: رسائل، مفاوضات، ترجمات!
توحي التظاهرة التي حصلت أمام السفارة الأميركية في عوكر وقبلها أمام مطار بيروت الدولي، بالتزامن مع زيارة قائد المنطقة الوسطى في الجيش الأميركي الجنرال كينيث ماكينزي إلى العاصمة اللبنانية، أن لبنان يتحول تدريجياً إلى ساحة مبارزة علنية بين الأميركيين والإيرانيين، الأمر الذي سينعكس سلباً على الواقع الإقتصادي والمالي المتردي أصلاً في لبنان.
جرت العادة أن تتضمن خطابات الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله رسائل مكثفة، تكون موجهة إما للداخل اللبناني أو للخارج، أو للإثنين معاً، ولا سيما للإسرائيليين الذين يرصدون حروف خطاباته وكل ما يرافقها من تعبيرات جسدية. ينطبق ذلك على خطاب السادس عشر من حزيران/يونيو 2020، الذي تضمن عبارة مفتاحية بكل ما للكلمة من معنى.
قال نصرالله مخاطباً هذه المرة الأميركي من دون أن يسميه إن “مَن يريد وضعنا بين خيارين “يا منقتلك بالسلاح أو بالجوع”، نقول له إنَّ سلاحنا سيبقى في أيدينا ولن نجوع وسنقتلك وسنقتلك وسنقتلك”.
قيل الكثير حول عبارة “سنقتلك” ولماذا قرر تكرارها ثلاث مرات في معرض تأكيد معناها ومضمونها. حتى أن العارفين يجزمون أن هذه العبارة كانت مدونة خطياً ولم يرتجلها نصرالله. بعدها مباشرة، راح المحللون يغزلون وينسجون معادلات كثيرة، لعل أبعدها عن مضمونها تلك التي وضعت كلام نصرالله في معرض تهديد الداخل!
ضجت الصالونات السياسية والدبلوماسية في زمن كورونا بالمستفسرين من سفراء ودبلوماسيين عن المقصود من تلك الجملة العبارة. سفارات غربية وخليجية حاولت تلمس ولو بعض أبعاد الكلمة السحرية التي أعادها نصرالله ثلاث مرات. كان الجواب يشي بالمزيد من الغموض. على الأرض، هل تم توجيه رسائل أمنية؟ لا أحد يعطي جواباً حاسماً حول هذه النقطة تحديداً، لكن كل المؤشرات تدل أن أمراً ما قد حصل وسرّع في عملية تبادل التوضيحات بصورة غير مباشرة بين حزب الله والأميركيين.
في سياق تلك “الرسائل غير المباشرة”، جرى تقديم توضيحات متبادلة، على حد تعبير مرجع لبناني واسع الإطلاع، رافضاً الخوض في تفاصيل تلك الرسائل والتوضيحات ومضامينها.
أنجز حزب الله إلى حد كبير مشروعاً دشّنه منذ مطلع السنة الحالية، وقوامه تحضير بنية تحتية إجتماعية في بيئته خصوصاً وضمن البيئة اللبنانية عموماً. فُتحت الخطوط مع إيران على مصراعيها لإستيراد كميات كبيرة جداً من الأدوية والمواد التموينية وأيضاً المحروقات.
الورشة نفسها شهدتها أيضاً بعض البيئات اللبنانية الأخرى ولكن من مصادر مختلفة ولكن للهدف نفسه (الإكتفاء الذاتي): وليد جنبلاط في الشوف وعاليه والمتن الأعلى وراشيا وحاصبيا. سليمان فرنجية في زغرتا. القوات اللبنانية في بشري ومناطق نفوذ أخرى لها كالبقاع الشمالي.
كان مضمون رسالة حزب الله شديد الوضوح للأميركيين: “ضعوا في الحسبان أن ما تقومون به من ضغط وحصار وعقوبات على لبنان واللبنانيين سيجعلنا نربح وستخسرون أنتم. لن يجوع جمهورنا ونحن سنفتح على إيران والعراق وسوريا وحيث نجد مصلحة لنا.. ولو بالقوة ولن يقف أحد في طريقنا”.
صار متعارفاً عند الرأي العام أن نظرية “كسر الحدود” إعتمدها تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وظهّرها في شريطه المصور الشهير في العام 2014 عندما إقتحم الحدود العراقية من جهة سوريا (إقامة دولة الخلافة ومبايعة البغدادي). “كسر الحدود” كان هذه المرة بمضمون سياسي مختلف ولكن كان من شأنه أن يجعل الحدود من بيروت إلى طهران مفتوحة ومتشابكة، بكل ما تعنيه الكلمة، وهو قرار إستراتيجي إتخذه حزب الله، وتُرك له أمر تحديد ساعته الصفر.
فجأة قرر الأميركيون “فرملة” مجموعة خطوات كانوا يضغطون لوضعها موضع التنفيذ وأبرزها محلياً الدفع بإتجاه الإطاحة بحكومة حسان دياب. كانت كلمات السفيرة الأميركية دوروثي شيه واضحة جدا أمام عدد من المسؤولين اللبنانيين الذين إجتمعت بهم في حزيران/يونيو الماضي عندما قالت لهم إن حكومة دياب “صارت من الماضي”.
وضع حزب الله حاجزاً سياسياً فولاذياً أمام المشروع الأميركي للتغيير الحكومي. طمأن أولاً حسان دياب بعدما كاد يتسلل اليأس إليه لكثرة ما سمع عن همس حول الإطاحة بحكومته. ثم تشاور سريعاً مع الحلفاء، وأبرزهم الرئيس نبيه بري ورئيس التيار الوطني الحر جبران باسيل. هذا الأمر بانت ملامحه خلال لقاء الأخيرين. ألمح باسيل إلى مشروع التغيير الحكومي لكن بري كان جازماً بأنه يقف سداً منيعاً أمام أية محاولة للتغيير الحكومي. إنتقل النقاش بسرعة إلى مربع كيفية التدعيم والحماية وكانت البداية من عند إبرام صفقة التعييينات في مجلس إدارة مؤسسة كهرباء لبنان، وذلك من أجل إعطاء إنطباع أن الحكومة منتجة، وتمت مراعاة وليد جنبلاط عبر الإتيان بعضوين محسوبين عليه (السني والدرزي).
أطل الأمين العام لحزب الله مجدداً يوم الأربعاء الماضي ليضع الأمور في نصابها على حد تعبيره. “أي دولة في الشرق، أي دولة في الغرب، أي دولة في الشمال أو الجنوب، أي دولة في العالم لديها استعداد لمساعدة لبنان يجب أن ننفتح عليها، يجب أن ينفتح لبنان عليها ويجب ان يتواصل معها ويسعى ويناقش ويدق بابها إذا لم تأت هي”.
هذه الإطلالة حملت في طيّاتها إشارة إلى أن حزب الله مستعد للتعامل بطريقة إيجابية مع أية إشارة خارجية تكون كفيلة بمنع تدهور الموقف الإقتصادي والمالي.
بعد ساعات قليلة، أطل وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، وهو المعني الأول في الإدارة الأميركية بمتابعة الملف الشرق أوسطي ومن ضمنه لبنان. قال في البداية إنه لم يطلع على خطاب نصرالله لكنه سرعان ما ناقض نفسه بقوله “لكنني رأيته يقول إنه يجب أن يشتروا النفط الإيراني. ذلك شيء رأيته. وسيكون ذلك غير مقبول بالنسبة لهم أن يقوموا به، لأنه سيكون سلوكاً قابلاً للعقوبة بالتأكيد، وسنفعل كل ما في وسعنا للتأكد من أن إيران لا يمكنها الاستمرار في بيع النفط الخام في أي مكان، بما في ذلك إلى حزب الله في المنطقة”.
أضاف بومبيو أن الولايات المتحدة ستواصل ضغطها على حزب الله “ونحن سنظلّ ندعم لبنان ما داموا يعملون على تحقيق الإصلاحات الصحيحة وما داموا دولة خارج التبعية لإيران”.
قالها رئيس الدبلوماسية الأميركية للمرة الأولى منذ تصريحاته الشهيرة التي هدّد فيها لبنان ودعا إلى تشكيل حكومة لا تكون مرتهنة لحزب الله.
هذا التراجع الأميركي سارعت السفيرة الأميركية في بيروت لترجمته دبلوماسياً، علما أن زيارة قائد المنطقة الوسطى لم تأت في سياقه (الزيارة تعارفية وكانت مقررة منذ تعيينه، وتأجلت بسبب ظروف كورونا).
سحبت السفيرة الأميركية خطاب التغيير الحكومي وتواصلت على هذا الأساس مع رؤساء الجمهورية والمجلس النيابي والحكومة الذي إستضافها اليوم (الجمعة) على مأدبة غداء في السراي الكبير وذلك للمرة الأولى منذ وصولها إلى بيروت. حتى أن بري عندما إستقبلها برفقة قائد المنطقة الوسطى، سألها عما إذا كانت ترغب بإبقاء موعدها معه قائماً في اليوم التالي، فكان جوابها بالإيجاب، وبالفعل، عندما إجتمعت به يوم أمس (الخميس)، كانت نبرتها مختلفة، وبطبيعة الحال، جاءته بالملف الحيوي الذي كان ينتظره: هل يمكن إستئناف المفاوضات حول الترسيم البحري بين لبنان وإسرائيل بحضور الأميركيين؟
كان جواب بري واضحاً: عندما وافقنا على التفاوض عبر اللجنة الثلاثية في الناقورة، حددنا ثلاثة أمور، أولها ربط النقطة B1 بالقرب من الناقورة بالترسيم البحري وثانيها وضع سقف زمني للتفاوض، وثالثها أن تكون أية مفاوضات بإشراف الأمم المتحدة وتحت رعايتها…
وفيما يفترض أن ترد السفيرة الأميركية على الثوابت التي حددها بري بشأن الترسيم البحري، فإن جوهر التواصل مع رئيس الحكومة يأتي في سياق ترجمة كلام بومبيو الأخير الذي تضمن تحييداً للبنان عن حزب الله، حيث تعهد للمرة الأولى منذ تأليف حكومة حسان دياب “بدعم لبنان ما داموا يعملون على تحقيق الإصلاحات الصحيحة”.
كيف سيترجم الدعم الأميركي للبنان؟
الدعم الأميركي سيكون مرتبطاً بالإصلاحات، وهو لسان حال الأوروبيين وصندوق النقد الذي إستأنف اليوم (الجمعة) جلساته التفاوضية مع الحكومة اللبنانية، كما سيكون مرتبطاً بوضع ضوابط في التعامل مع إيران، على أن تسهل الحكومة الأميركية حصول لبنان على النفط العراقي الخام، ليصار إلى مقايضته بمشتقات نفطية (فيول وغيرها) لأن لبنان لا يملك حالياً مصفاة لتكرير النفط وتحويله من شكله الخام إلى المشتقات النفطية المختلفة.
هل يمكن للتساهل الأميركي أن يتخذ وجوهاً أخرى؟
على الأرجح، نعم، وهذه من حسنات التلويح الرسمي اللبناني بالورقة الصينية، “فالتواصل سيستمر مع عدد من العواصم العربية والدولية، وثمة إشارة إيجابية من قطر، وقد تليها إشارة مماثلة في الأسبوع المقبل من الكويت التي سيزورها المدير العام للأمن العام اللبناني اللواء عباس إبراهيم”، أما بالنسبة إلى سلطنة عمان، فإن زيارتها لا تمت بصلة إلى هذا الملف نهائياً.
ما هي وظيفة هذه المروحة من الإتصالات؟
“الأساس هو تكوين مناخ إيجابي يعيد الثقة ولو بحدودها الدنيا إلى الوضع اللبناني، وهذا سينعكس تلقائياً على سعر صرف الليرة اللبنانية”، يقول المرجع اللبناني نفسه.
القرار الأميركي بالتعايش مع حكومة حسان دياب وإستبعاد مشروع التغيير الحكومي، قد يعيد الأوكسيجين إلى المفاوضات مع صندوق النقد. قالها حسان دياب مجدداً في الساعات الأخيرة: 20% من المفاوضات للأمور التقنية، لكن 80% هي للقرار السياسي. فلننتظر ونر. للبحث صلة.
حسين أيوب - موقع 180
إضافة تعليق جديد