غسان الرفاعي: في «سوق البراغيث»..
-1-
استوقفني - وأنا أتجول في «سوق البراغيث» إعلان مضاء بالنيون الباهر، تصدر كشكاً مكتظاً بالكتب، تلتمع على بابه لافتة «مكتبة الأشرار» وتحتها بأحرف كبيرة ملونة: «رخصة كبيرة على الايديولوجيات تتجاوز الـ50%، لا تفوتوا هذه الفرصة النادرة». دخلت الكشك، بعد أن تملكني حب اطلاع واخز، واستفسرت عن جلية الأمر، فقال لي صاحب الكشك، وهو عجوز أصلع ترف عينه اليسرى بلا توقف:«الناس بحاجة إلى اختيار أسلوب في الحياة أكثر من حاجتها إلى الملابس والأحذية، عندي مجموعة من الكتب المبسطة المختصرة تتضمن شرح ايديولوجيات لاتزال تسحر الناس وتحرجهم». اشتريت بعض الكتب، وأنا أتساءل، بشيء من الدهشة والهلع: «حتى العقائد والايديولوجيات أصبحت سلعا تخضع لتذبذبات السوق!».
-2-
مؤلف كتاب «ايديولوجيات بأسعار زهيدة» مقاول، نجح في ميدان الأعمال، وهو واثق، على مايبدو من نجاحه في ميدان الأفكار، وإذا كان بارعا في قبض عمولته نقدا بعد كل عملية تجارية ناجحة، فهو مقتنع أن يقبض عمولته مؤجلا، بعد الترويج لبضاعته الايديولوجية، وإقناع أكبر عدد من الناس بجدواها، وبمردودها، يكتب في مقدمة كتابه: «لايزال الإنسان مغزواً بالهموم والآلام، يراوح مكانه فريسة للريبة والهلع، على الرغم من تكاثر السلع الايديولوجية المطروحة، المشكلة الكبرى ان عالم التنظير لاعلاقة له بعالم الواقع، ومن هنا شعورنا جميعا أننا لقطاء، وأننا بحاجة إلى تحديد نسبنا، والانتماء الى أرومة شرعية» وينهي مقدمته بهذا الاعتراف:«قد ينصّب الانسان المعاصر نفسه نبيا أو واعظا، وقد يلعن منبوذا شقيا، ولكنه لايستطيع أن يحلق فوق عصره، ولا أن يتجنب كوابيسه. ان الدراما الكونية المعاصرة قد فرضت على المثقف ان ينقلب من جامع نفايات إلى تاجر فضائح، بعد أن ألزمته الى التسكع العقلي العابث، والتمسك بذبالة من نبالة في عالم تسوده النذالة».
-3-
البارحة، قصدت مكتبة «العاصفة» الغائصة في زقاق متفرع من السان جرمان دوبريه، مدفوعا بحنين عتيق لتصفح «الكتب المارقة» التي تعودت أن أقتنيها، منذ عشرات السنين. فهالني «الانحطاط» الذي انحدرت إليه عناوين الكتب المعروضة. كانت صاحبة المكتبة، السيدة «ناتالي» تروتسكية ناشطة، ولم تكن تقبل أن تعرض إلا الكتب «الثورية» التي تدعو الى التفجير والتغيير، ولكن ناتالي قد توفاها الله وتولت ابنتها «فلورانس» ادارة المكتبة.
وتقول فلورانس، وهي لاتخفي حزنها وخيبة أملها:«أوصتني أمي قبل وفاتها، أن أحافظ على هوية المكتبة، أن أبقيها منبرا للفكر الثوري، ولكن الزمان قد تغير، ووجدت نفسي مرغمة على تخصيص رفوف في المكتبة للروايات البوليسية الأمريكية، وللأدب الجنسي المكشوف، وللتحقيقات الفاضحة، وللطروحات المغرقة بالرجعية، والتعصب العنصري. أما كتب المثقفين الشباب الجدد، فإنها أكثر تخلفا من كتب الكبار، وأفدح رجعية، لقد تصدر الساحة مثقفو «سوق البراغيث» ومجتمع الاستهلاك، وسماسرة المافيا».
-4-
كان مثقفو فرنسا يحدثون الزلازل السياسية منذ عام 1789، وكانت الحرائق التي يشعلونها تنتقل الى كل اوروبا، بل إلى العالم. وحينها تفجرت الثورة الفرنسية هتف أحد سلاطين التحالف المقدس:«الرعاع يزحفون، فإلى الخنادق!» ومازال جزء من اوروبا المحافظة يختبىء في الخنادق، خوفا من «الطاعون الفرنسي»، ولكن الموقف انقلب رأسا على عقب، وبدا، وكأن الإنسان الفرنسي العادي قد بدأ يقتنع أن «الجنون الثوري» هو عمل مضر، وان التمرد البروليتاري، سواء أكان سياسيا أم ثقافيا أم اجتماعيا، لم يعد مستعصيا على النجاح فحسب، وإنما هو مرادف «للنحس». ان المعارك المحلية التي تطفو على السطح لم تعد «لائقة» بشعب متحضر بل «لعلها مدعاة للسخرية، لأنها لن تغير شيئا في نهاية الأمر».
السؤال المأساوي المطروح حاليا: «هل تحولت منابر الحرية والنزاهة التي كانت تصدح في فرنسا، طول قرون، الى اسطبلات للعفن، والتلوث، والظلم؟».
-5-
الأدبيات السياسية التي أفرزها العدوان الأميركي على العراق، تغرق في التهويمات، والمقارنات حتى أضحت ـ على ذمة روبرت فيسك ـ أقرب ما تكون إلى «الفانتازيا»، وإذا كان المسؤولون في قمة الهرم الحاكم في الولايات المتحدة يتحرجون من الافصاح عن الخلفية الفكرية والأخلاقية التي تحركهم دبلوماسيا واستراتيجيا، مراعاة للباقة، وحفاظا على ماء الوجه، فإن المشعوذين الذين يدورون في فلك ذلك الهرم لايتورعون عن كشف ورقات التوت التي تستر عوراتهم الكهنوتية الشريرة، ولايجدون أي ضرر في المجاهرة بها، حتى ولو سببت لهم الشيء الكثير من الاحراج والاهانة. إن أهم ميزة للمجتمع الامريكي انه «مجتمع بلا تاريخ»، وان مقياس الوجاهة فيه هو للنجاح المادي، ولا قيمة للأصول والجذور، ومن هنا هذا التهجم على العراقة الحضارية، أو على التراث المتوارث عبر الأجيال.
-6-
قد يبدو هذا التخوف من البعد التاريخي لبلد من البلدان «مرضيا» يحتاج إلى سبر سريري، ولكن هذا التخوف يغلف، بعض الأحيان، بأساطير خرافية، لايمكن أن تصدر إلا عن الكهنوت «التلمودي» ينسب إلى «هنري كيسنجر» أنه قال، ذات يوم: «مشكلة الشرق الأوسط أنه مكتظ بالتاريخ، وقد تركت عليه الحضارات الغابرة شظاياها. ومن هنا هذا الاحتشاد بالطوائف، والاثنيات، والانتماءات، وفي قناعتي انه ينبغي ان يتحرر هذا الجزء من العالم من أعباء التاريخ التي تسحقه وتمنعه من التطور» ولو كان كيسنجر صادقا فيما قاله لوجدنا له بعض العذر في تطرفه، ولكن كيسنجر يراوغ، انه يريد ان يلغي كل حضارات الشرق الأوسط، فيما عدا حضارة واحدة هي «الحضارة الفلمودية» وليس من المستغرب أن يأتي أنصاره، فيما بعد، ليدمروا كل أثر من آثار الحضارات الشرق اوسطية، متذرعين بتحرير سكان المنطقة من ثقالتهم الحضارية الغابرة، وإلا تعذر عليهم التأقلم مع الحداثة والمعاصرة. وحتى «فوكوياما» الذي تنبأ بنهاية التاريخ نصح بوقوف الإنسان المعاصر عاريا من أية كسوة تاريخية، وزعم ان الحداثة الحقيقية هي «طفولة بريئة لاتتأثر بسلاسل الماضي».
-7-
على ان الصرخة التي أطلقها الكاتب الأمريكي «روبرت ستون» في روايته الحديثة «خليج الأرواح» والتي سبق له أن أطلقها في روايته «محاربو الجحيم» حول الحرب الفيتنامية تصم الآذان، وتستقر في أعماق القلوب، لأنها صرخة صادقة ونزيهة، لقد أعلن أنه يشعر بالاغتراب والاستلاب في مدينة نيويورك، على الرغم من أنه من أكثر الأوفياء لهذه المدينة التي «تغلي بالحيوية والصخب الفكري» يكتب في مقدمة روايته التي صدرت بعد حرب العراق:«لكم أشعر، أنا وأصدقائي من المثقفين والكتاب بالاستلاب. اننا نتهامس في مجالسنا في غضب ومرارة: ان رئيسنا جلف، غيرمثقف، أحمق، كذاب، وكم نسخر من «تشيني» و«رامسفيلد» حينما يتحدثان بابتذال عن أوروبا القديمة. اننا نرفض ان تصادر حضارتنا على أيدي هؤلاء الأغبياء» ويبدي إعجابه واحترامه لثقافات وحضارات العام الثالث الذي «يناضل في شجاعته ورواقيه من أجل التحرر والخروج عن الطوق الفولاذي الذي يحيط به من كل جا نب».
-8-
يصر أحد كبار كتاب هذا العصر «اندريه جيد»، ان «الاكتئاب» ليس حالة شعورية تقتحم الانسان، في حالات اليأس والقهر والفشل، وإنما هو «مهنة» لاتليق الا بالمثقفين، ويبدو ان هذا القول هو «تشخيص سريري» لايرفضه المحللون النفسيون الذين يصرون على «ان المثقف كائن كئيب، يوجعه مايجري في العالم، ويحاول ان يعبر عن ألمه وعذابه، ولكنه لاينجح الا في إيذاء نفسه، لأنه يكتشف ان قدرته على الحركة محدودة» لاعجب اذا تحدث (بول فاليري) عن «التعيس الذي يمتهن التفكير، ولكن لاقدرة له على الفعل..» بالإشارة الى المثقف المعاصر.
هل يعاني مثقفونا من الاكتئاب؟ الأحداث تتساقط على رؤوسهم فتجرحهم، وتدميهم، وقد يغامرون بالشكوى، وقد يتجرؤون على النقد، ولكنهم يفضلون الالتزام بالشكوى، ولاينزلون من صوامعهم، كسلا أو مللا، أو خوفا.
د.غسان الرفاعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد