مُشكلة الكُليَّات في الفلسفة

16-12-2021

مُشكلة الكُليَّات في الفلسفة

Image
من ضلالات اللغة إلى الأنطولوجيا. حول مُشكلة الكُليَّات

محمد عبد المقصود:

إذا كانت الفلسفةُ هي أم العلوم – كما يُقال أحيانًا – فهي أيضًا – من ناحيةٍ أُخرى – أم المشكلات.. ومن أهم هذه المُشكلات التي ظهرت في تاريخ الفلسفة هي مُشكلة الكُلِّيات Problem of Universals، وهي، ببساطة شديدة: السؤال عن طبيعة وجود الحدود العامة Universal terms التي تُستخدم في المنطوقات التقريرية؟ فالحدُّ الجُزئيّ Particular term يُحيل مُباشرةً إلى الفرد الواقعي الذي يُشير إليه، وأما الحد الكُلِّي فلا نجد له مثل هذه الإحالة الواقعية المُباشرة، فما نجده في الخارج هو الجُزئيات فقط، ومن ثم يكون السؤال: ما طبيعة وجود الحدود الكُليَّة؟ فإذا كان لها إحالة وجودية، فأين؟ أتوجد في هذا العالم، أم في عالم آخر؟ وكيف تكون؟ أهي فيزيائية أم شيء آخر؟ وإذا لم توجد، فكيف نعتمدها كحدود منطقية في القضايا؟ أتكون المنطوقات التقريريَّة بلا معنى إذَن؟

 
هذه المشكلة، وهذه الأسئلة، لها نتائج بالغة الأهمية من حيث التبعيات المُترتبة على الإجابة بتقرير النفي أو الإيجاب.. فعلى سبيل المثال، بتقرير وجود الكُليَّات بدأت الفلسفات الماهَويَّة Essentialism، وبنفي وجود الكُليَّات نشأت مذاهب أُخرى كالتجريبية الكلاسيكية، والتحليليَّة المعاصرة، والبراجماتية.

• مشكلة الحمل المنطقي وموضوعيَّة المفاهيم كحلّ:

مَن يتأمَّل في تاريخ مشكلة الكلِّيات، والخلاف الذي نشب في العصور الوسطى بين الواقعية العقلانية والإسمية التجريبية، يجد أن جَذر هذا الخلاف يرجع، من بين ما يرجع إليه، أولًا: إلى التصوُّر الأفلاطوني للغة. وثانيًا: الخلط بين المعنى اللغوي والمرجع الوجودي

فاللغة كما يتصوَّرها أفلاطون هي الكلمات، والكلمات حقائق موضوعيَّة تُعيِّن ماهيَّة الأشياء، ويتم ذلك من خلال مُمارسة فن التسمية، فلابد أن يجيء الاسم مُحاكيًا لطبيعة (أو ماهيَّة) الشيء المُسمَّى. وأما المعنى Meaning فهو الفكرة Idea أو المفهوم Connotation والمفاهيم هي كيانات مُجرَّدة يحوزها المُتكلِّم في عقله وينقلها إلى عقل السامع من خلال الكلمات؛ فالكلمات هي علامات حاملة لكائنات ذات مرجعية أنطولوچيَّة (وجوديَّة)، ويتضح لنا ذلك بقوَّة في محاورة بارمينيدس عندما يقول أفلاطون أن ”العدم موجود بقدر ما يكون الوجود موجود“ : وما يقصده أفلاطون هو أن العدم يوجد (بمعنى من المعاني) لكي يكون لتقريراتنا معنى حين نقول أن أشياءً معينة لا وجود لها (أي معدومة)، وإلَّا فما معنى كلامنا حينئذٍ، إذا لم يكن ثمَّة عدم؟ ورغم أن كلام أفلاطون مُوجَّهٌ في هذا السياق ضد “بارمينيدس” في إنكارهِ للعدم، إلا أن أفلاطون يؤكد كلام “بارمينيدس” نفسه ولكن بمعنىً مُضاد لما يقصده هذا الأخير، فإن “بارمينيدس” يقول في قصيدته على لسان الآلهة: «اسمع كلمتي وتقبّلها، هناك طريقان للمعرفة لا غير يمكن التفكير فيهما: الأول أن الوجود موجود ولا يمكن أن يكون غير موجود، وهذا هو طريق اليقين؛ لأنه يتبع الحق. والثاني أن الوجود غير موجود ولا يجب ألا يكون موجودًا، وهذا طريق لا يستطيع أحدٌ أن يبحثه؛ لأنك لا تستطيع أن تعرف اللاوجود، ولا أن تنطق به لأن الفكر والوجود واحد ونفس الشيء. ما يُلفَظ به ويُفَكّر فيه، يجب أن يكون موجودًا؛ لأنه من الممكن أن يكون الوجود موجودًا، ومن المستحيل أن يوجد اللاوجود. إني آمرك أن تتأمل هذه الأمور، وأن ترجع عن ذلك الطريق..»

تُثير عبارات بارمينيدس غموضًا؛ فهو من ناحية يُنكر العدم، ومن ناحيةٍ أُخرى يؤكد أن ما ننطق به أو نُفكر فيه لابد وأن يكون موجودًا، فيحق لسائلٍ أن يسأل، كيف له أن ينطق بالعدم إذن، إذا لم يكن موجودًا؟ ويمكن القول أن هذه هي الثغرة التي استغلَّها أفلاطون في تعبير بارمينيدس. ولا أريد أن أدافع عن بارمينيدس ضد أفلاطون هنا، ولنترك هذه الأمور جانبًا الآن، فما يُهمّنا من هذه الأمثلة هو أن نُبيِّن فقط كيف تصوَّر أفلاطون اللغة. ويظهر مَيل أفلاطون إلى ربط اللغة بالمُثُل ظهورًا جليًّا في محاورة “كراتيليوس” وهو يُؤكد على لسان سُقراط أن الألفاظ ذات المعنى دالة على ماهيَّات حقيقيّة ثابتة، إنها تعكس طبائع أشياء واقعية، وذلك على عكس ما يعتقد به “هرموچينس” الطرف الثاني من المحاورة، من نِسبيَّة الألفاظ في الأزمنة والأمكنة، بوصفها ’’اصطلاحات‘‘ Conventions اتفاقية بين البشر. وإننا لا نُغالي إذا قُلنا أن فلسفة أفلاطون بأسرها تقوم على نظريته في موضوعيَّة المفاهيم المُجرَّدة، يقول “وولتر ستيس” : إن جوهر فلسفة أفلاطون، يقوم في أن المفهوم ليس مُجرد فكرة في العقل، بل هو شيء له حقيقته الخاصة به.

المعاني إذن كما تصوّرها أفلاطون هي كيانات عقلية مُجرَّد Abstract Entities، إنها مفاهيم (أو أفكار، أو مُثُل Ideas؛ جميعها مترادفات في هذا السياق) ذاتُ مرجعٍ أنطولوجي Ontological reference، وهذه المفاهيم/الأفكار تتوسَّط بين الأشياء Objects التي يُراد التعبير عنها، والرموز أو العلامات Signs المُعبّرة عنها (وهي الكلمات المسموعة، أو المنطوقة، أو المقروءة). والمعنى بهذا التصوُّر لابد وأن يحمل خاصية الثبات والتحديد والعموميَّة حتى وإن اختلفت الكلمات الدَّالة عليه؛ ذلك أنه لابد أن ينتقل كما هو من عقل المتكلِّم إلى عقل المستمع، وإلا فشل التواصل.

وفي ذلك يقول ابن رُشد أيضًا في شرحه على أرسطو : ”وأما المعاني التي في النَّفْس فهي واحدة بعينها للجميع، كما أن الموجودات التي المعاني التي في النَّفْس أمثلة لها ودالَّة عليها، هي واحدة وموجودة بالطبع للجميع. “ (انظر شرح ابن رُشد على منطق أرسطو، المُجلَّد الثالث؛ كتاب العبارة).

• الكُلي الطبيعي، أو الماهيَّة في الأعيان : 

فإذا سلَّمنا بهكذا نظرية في اللغة والمعنى، وإذا كانت عادتنا أن نستخدم الأسماء في اللغة لنُشير بها إلى الأشياء المفردة مثل قولنا (هذا أحمد) وإلى الأشياء الكثيرة أيضًا، مثل قولنا (الإنسان)، وإذا كان الشيء الجُزئي الذي نُشير إليه (أحمد) ذا مرجعية أنطولوچية بوصفه فردًا عَينيًا موجودًا هنا أو هناك، إذَن، لنا أن نسأل، ما المرجعية الأنطولوچيَّة للمفهوم الكُلِّي (إنسان)؟ والذي يمكن أن يصدُق على كل هؤلاء الأفراد (أحمد وزيد وعلي، إلخ) ولا يخُص واحد منهم فقط؟

والجواب عند أفلاطون هو أن هذا المفهوم الكُلِّي “الإنسان” له مرجعيةٌ أنطولوچيَّة في العالم المُفارق، عالَم المُثُل. إنه يُحيلنا إلى (النوع الإنساني) Human kind، وهو كيان مُجرَّد، ثابت Substantive وأزلي Eternal، لا تشوبه الكثرة والاختلافات ولا المتغيِّرات الحاصلة في هذه الأفراد/الجُزئيات في العالم المحسوس، بل بفضله ومن خلاله توجد هذه الأفراد، فهي موجودةٌ بالمشاركة فيه. فإذا كانت معرفتنا لا تكون إلا بالكُلِّيات كما يؤكد أفلاطون، فلا نعرف الجُزئيات/الأفراد (ما الذي يكونه أحمد وزيد وعلي، إلخ؟) إلا بما تشترك فيه من خصائص عامة فيما بينها، أي بالنظر إلى مثالها الكُلِّي (أي نوعها)، فذلك يستتبع أن هذا المثال الكُلِّي هو الذي يمنح للأفراد الجُزئيَّة وجودهم، ويُحدد لهم هُويَّتهم (إنسانيتهم)، فالنَّوع (إنسان) هو الماهيَّة الكُلِّيَّة التي يشترك فيها جميع الأفراد مثل أحمد وزَيد وعلي.. إنها (أي الماهيَّة) مجموع الصفات الضرورية التي بها يكون الشيء “إنسانًا”، وبدونها لا يكون كذلك. وهذا الأسلوب في الاستدلال هو الجدل الصاعد عند أفلاطون : إنه الانتقال من الجُزئي المُتكثِّر، المحسوس، إلى الكُلي الواحد، المعقول (الماهيَّة).
 
وإذا عدنا إلى مشكلة المرجعية الأنطولوچيَّة للمفهوم الكُلِّي، وجدنا أرسطو يحاول أن يُخفِّف هذه النزعة المثالية المتطرفة لمُعلِّمه، فيقول بأن المرجعية الأنطولوچيَّة للمعنى الكُلِّي “إنسان” توجد في كل الأفراد الجُزئية المُتعيِّنه في هذا العالم الوحيد، ولكن على أي نحوٍ توجد؟ يُجيبنا أرسطو بأنها توجد وجودًا مُحايثًا [كامنًا] في هذه الأفراد جميعها. هذه الماهيَّة العَينيَّة التي يقول بها أرسطو، هي الصفة الجوهرية في الشيء Essential Property، إنها الصورة Form التي بها يكون الشيء ما هو وليس شيئًا آخر، كالتعريف المنطقي المشهور للإنسان:

’’الانسان هو حيوان عاقل.‘‘

شرح وتحليل: الإنسان (نوع الشيء) هو حيوان (جنسه) عاقل (فصله). فالحدَّين المنطقيّين “حيوان+عاقل” هنا، هما الماهيَّة التي تُحدد نوع الشيء “إنسانًا” فتُميِّزه عن غيره من الأشياء وتُحدد له هُويَّته الذاتية. فالشيء إذا امتلك صفة «الحيوانية» مع صفة «العقلانية» فهو بالضرورة ينتمي إلى فئة «الإنسان». وصفة «العقلانية» هنا هي ما يُسمِّيه أرسطو ’’الجوهر بامتياز‘‘ فهذه الصفة هي الصورة Form التي تفصل نوع الإنسان وتميزه عن غيره من نوع الحيوان، إنها صفة ضرورية Necessity / Essentially لتعيين هُويَّة الشيء، فبدونها لا يكون الشيء ماهو.

وكلامنا فيما سبق كان يختصّ بالأسماء والمحمولات الكُلِّيَّة فقط، ولكن للكُلِّيَّات أقسام أُخرى أيضًا، يمكن أن نختصر أهمها في ثلاث فئات هي  :

1- الكيفيَّات : مثل الاحمرار والبياض والخشونة والنعومة والسخونة والبرودة، وغيرها من الأعراض العامة.

2- والعلاقات : كالرابطة السببية [علاقة الأثر بالمؤثِّر] والصِّلَة المكانية [جنوبية، شماليَّة، إلخ] والتتالي والتزامن [قبل وبعد، أثناء] والاشتراك والتضاد والنِّسْبَة، والمساواة وغيرها.

3- والصور المُجرَّدة : الأعداد وقضايا الهندسة والرياضيات وما يتصل بهما.

وأفلاطون فيما يبدو يقول بالواقعية الأنطولوچيَّة لجميع هذه الأصناف الثلاث من الكُلِّيَّات، بوصفها مُثُلًا أزلية في العالم المُفارِق، وذلك وفقًا لما تقتضيه هذه النظرة الضيِّقة للُّغة والمعنى كما تبيَّن.. وأما أرسطو، فبحسب معظم التفسيرات، أن فيلسوفنا على الأرجح قد التزم بموقفٍ أنطولوچيٍّ نقديّ تجاه هذه الأصناف من الكُلِّيَّات، يقول بـ لاواقعيّتها.. وسيُعرف ذلك الموقف في العصور الوسطى لاحقًا بـ “الإسمية” Nominalism وهو المذهب القائل أن الكُلِّيَّات عمومًا ليستْ سوى أسماء تصدُق على مجموع الأفراد ولا وجود لها.

وجُملة القول أن أرسطو يقول بواقعية ثلاث أصناف جوهرانيَّة :

1- الجواهر الأولى (موضوع الحمل المنطقي) والجوهر هو المقولة الأولى من المقولات الأرسطية العشر : وهو ما يقوم بذاته ولا يُحمَل على غيره، وما يكون محلًا للأعراض.

2- والجواهر الثواني (الأنواع والأجناس).

3-والجوهر المُفارق، المُحرك غير المُتحرِّك (الله).

وأما الصفات الكيفيَّة والعلاقات (وتمثلها المقولات التسع الباقية عند أرسطو) فهذه كلها ليست سوى ألفاظًا تُحمَل على الجوهر، وسيصل ذلك الموقف الإسمي المُعتدل إلى ذروته المتطرّفة مع الراهب الفيلسوف “ويليام الأوكامي” في نزعته الإسميَّة التجريبيَّة، فيقوم بإنكار الكُلِّيَّات والجواهر تمامًا لأن الحواس لا تدلنا إلا على الأعراض والجُزئيات.

وجدير بالذكر ههُنا أن المُتكلِّمين – بوصفهم ينتمون إلى المشائية – يقولون بهذا المذهب الإسمي الأرسطي المعتدل Minimal nominalism على عكس فلاسفة التحليل في القرن العشرين مثل راسِل وفتغنشتاين وكارناب وكواين، الذين دفعوا بالإسميَّة حتى نهايتها فأصبحت تُعرف بالنزعة الماصَدَقيَّة Extensionalism .

ويمكن القول إن وجود الكُليَّات لم يكن فيه خلاف تقريبًا طوال العصور الوسطى حتى القرن الحادي عشر مع ظهور النزعة الإسمية، فقد ظلَّ الفلاسفة يُقرّون بوجود الكليات ولكن بدرجات؛ أما على الطريقة الأفلاطونية، أو على الطريقة الأرسطية المُعتدلة، فها هو «ابن سينا» يستدل على الوجود (المعقول) للماهيَّة من خلال وِحدَة المعنى الكُلِّي ووقوعه على الكثرة من الأفراد المحسوسة، وهو في ذلك أقرب لأفلاطون من أرسطو. يقول الشيخ الرئيس في (الإشارات والتنبيهات) ص263-264 : ’’ اعلم أنه قد يغلب على أوهام الناس أن الموجود هو المحسوس، وأن ما لا يناله الحس بجوهره ففرض وجوده مُحال، وأن ما لا يتخصص بمكان أو وضع بذاته – كالجسم – أو بسبب ما هو فيه – كأحوال الجسم – فلا حظ له من الوجود. وأنت يتأتّى لك أن تتأمل نفس المحسوس فتعلم منه بُطلان قول هؤلاء؛ لأنك ومن يستحقّ أن يُخاطب تعلمان أن هذه المحسوسات قد يقع عليها اسم واحد، لا على سبيل الاشتراك الصرف بل بحسب معنىً واحدٍ مثل اسم «الانسان»؛ فإنكما لا تشكان في أن وقوعه على زيد وعمرو بمعنىً واحدٍ موجود. فذلك المعنى الموجود لا يخلو إمَّا أن يكون بحيث يناله الحس، أو لا يكون. فإن كان بعيدًا من أن يناله الحس فقد أخرج التفتيش من المحسوسات ما ليس بمحسوس، وهذا أعجَب! وإن كان محسوسًا فلهُ لامحالة وضعٌ وأين ومقدارٌ معيَّن وكيف معيَّن، لا يتأتَّى أن يُحَسّ – بل ولا أن يُتخيَّل – إلا كذلك، فإن كل محسوس وكل مُتخيَّل فإنه يتخصص لا محاولة بشيء من هذه الأحوال. وإذا كان كذلك لم يكن مُلائمًا لما ليس بتلك الحال، فلم يكن مقولًا على كثيرين مُختلفين في تلك الحال. فإذَن «الانسان» من حيث هو واحد الحقيقة، بل من حيث حقيقته الأصلية التي لا تختلف فيها الكثرة؛ غير محسوس، بل معقول صرف. وكذلك الحال في كلّ كُلِّي.‘‘

يتضح مما سبق، أن أفلاطون هو الأصل في مشكلة الكُلِّيَّات بوصفه أول من نادى بالأنطولوچيا الواقعية للكيانات العقلية المُجرَّدة.. والسبب في ذلك هو نظريته في المُثُل أولًا، وثانيًا نظرته للُّغَة باعتبارها ضرب من المُحاكاة الطبيعية لماهيَّة الأشياء الواقعية من خلال التسمية (محاورة كراتيليوس) وأن أرسطو، وإن اختلف مع مُعلِّمه قليلًا أو كثيرًا، لم يستطع مع ذلك أن يتجاوز هذه النظرية العتيقة في اللغة، فقط اعتقد بواقعية ثلاث فئات مُجردة من الجواهر Substances.

ولكن، ما هو المعنى في فلسفتنا التحليليَّة؟ Theory of Meaning:

المعنى عندنا هو الاستعمال (Usage)  كما يقول «فيتغنشتاين»، والاستعمال هو فاعليَّة ونشاط اجتماعي Social Activity، والأنشطة الاجتماعية مختلفة ومتغيِّرة باختلاف الزمان والمكان، فكل نشاط اجتماعي هو سياق، وكل سياق تحكمه قواعد استعمال لغويَّة مُعيَّنة (أو ألعاب لغويّة بتعبير فيتغنشتاين)، وكل كلمة في مجتمع لغوي هي فرد من عائلة من الكلمات المتشابهة التي تتداخل وتتشابك في علاقات مُعقَّدة، وتكتسب هذه الكلمات معنىً فقط في السياق التي تُستخدم فيه، فالألفاظ جميعها [في حد ذاتها] بلا معنى مُحدد، فيُمكن أن يختلف المعني للكلمة الواحدة باختلاف السياقات. ولا وجود لشيء ثابت ينتقل كما هو من عقل المُتكلِّم إلى عقل المستمع، وإذا لم ينتقل يفشل التواصل. وحتى لو هيّأت لنا تجربتنا مع اللُّغَة وجود هذا النوع من عمليات التبادل، فذلك يرجع إلى حميميَّة علاقتنا بالكلمات وبديهيَّة معانيها بالنسبة إلينا ليس إلا، فالكلمات هي بمثابة أدواتنا Tools التي نتستخدمها في أغراض شتَّى بحسب ما يقتضيه الظرف، فالمطرقة مثلًا لا تُستخدم في فعل واحد، فهي تُستخدم في صَقل المعادن، وفي تحطيم الثلج، وفي إسكات الجمهور في قاعة المحكمة أحيانًا، وكذلك هي الكلمات.. ليس لها معنى مُحدد، بل استعمالات.

والحديث عن المعنى بوصفه كائنًا سحريًا يتوسَّط بين الأشياء والكلمات، فينتقل (ميتافيزيقيًا) من عقل المُتحدِّث إلى عقل المُستمع، هو حديث مُضلل نحن في غِنى عنه.. فالمعنى إذا أسهبنا في تحليله سنخلُص إلى سلسلة من الاستجابات العصبية التي تنتهي في الدماغ، نتيجةً للمؤثرات القادمة من الخارج، والمتمثلة في موجات صوتية (على شكل فونيمات ومورفيمات) تصطدم بطبلة الأُذُن، أو فوتونات ضوئية تقع على شبكية العَين، فتُحدث انطباعات لدى المُتلقِّي Impressions of sensations حول المغزى (أو المعنى) من ترتيب الحروف أو الكلمات، والسياق؛ ونجاح الشخص في تحديد المعنى يتوقَّف على مدى تعلُّمه لكيفيَّة استعمال هذه الألفاظ المكوِّنة للجمل، ومعرفته للسياقات المناسِبة التي تحكم استعمالها.

فالمعاني في الأصل هي بنت بيئتها الاجتماعيَّة والفيزيائيَّة كما يقول “تايلر بيرج” وكما يؤكد “هيلاري بوتنام” في نظريته الخارجية عن المعنى Semantic externalism التي قدمها في شكل تجربة فكرية تُسمَّى «توأم الأرض» يمكن أن نعرضها بإيجاز على النحو الآتي:

تخيَّل كوكبًا مُطابقًا للأرض وليكن اسمه الأرض التوأم. والناس الذين يعيشون على الأرض لهم نُسَخ مُطابقة من الناحية الفيزيائية والبيولوجية والنفسية على الأرض التوأم، وتوأم الأرض هو كوكب يُشبه الأرض في كل شيء ما عدا جانب واحد فقط : أن السائل الذي يُسمَّى «ماء» في كِلا الأرضَين، ليس له نفس التكوين الكيميائي (H-2O) الذي للماء في أرضنا، بل له تكوين كيميائي آخر وليكن رمزه هو Azx، ولكن مع ذلك يمكن ملاحظة أن كل الخواص في (H-2O) موجودة في Azx، فهو مادة عديمة اللون والرائحة، توجد في الأنهار والبحار وتسقط على هيئة أمطار، ويستخدمها الناس في الشرب.

والآن تخيَّل أننا في عام 1750م عندما لم يكن لدينا (نحن وسُكَّان الأرض التوأم) علم بالكيمياء، وبذلك نكون غير قادرين على إدراك الاختلاف بين الماء (H-2O) والماء التوأم Axz. والآن تخيَّل اثنين من المُتكلمين هما “يوسف” على أرضنا و “توأم يوسف” على توأم الأرض، وكل واحد منهم هو نُسخة دقيقة من الآخر.. يُفكّر أحدهما في الماء عندما يُشاهد (H-2O) ويُفكّر الآخر في الماء عندما يُشاهد Axz.

حينئذٍ سيختلف معنى لفظ «الماء» الذي يستخدمه “يوسف” على الأرض عن معنى لفظ «الماء» الذي يستخدمه “توأم يوسف” على توأم الأرض، فبالرغم من اشتراكهما معًا في نفس الاعتقادات والانطباعات النفسية حول ما يُسمّيه كل منهما «ماء»، ورغم اشتراكهما أيضًا فيما ينسبان إلى الماء من أوصاف، إلا أن لفظ «ماء» عند كل منهما له ماصَدَق مُختلف عن الآخر.. والسبب هو أنهما يعيشيان في بيئتين فيزيائيتين مُختلفتين جُزئيًا، بحيث يكون للسائل المُسمَّى «ماء» على الأرض تركيب كيميائي مُختلف عن تركيب سائل توأم الأرض. فعندما يستعمل “يوسف” لفظة «ماء» فهو يُشير إلى (H-2O) وعندما يستعمل “توأم يوسف” لفظة «ماء» فهو يُشير إلى Axz. فمادام اللفظ يُشير إلى شيئين مُختلفين، فالمعنى سيختلف.

تُوضح لنا تجربة بوتنام أن المعنى لا يتحدّد في الأصل بما في العقل من مفاهيم مُحددة وعامة لدى الجميع، بل بما في الواقع من ظواهر فيزيائية مختلفة وأغراض اجتماعية متعددة. والآن فلنعُد إلى موضوعنا، فنفحص مُشكلة الكُليَّات كما سبق أن عرضناها، ولكن في ضوء نظريتنا التحليليَّة في المعنى واللغة.

إنني من جهتي – وبصفتي تحليليًا – أجادل وبثقة أنه بدون تلك النظرية العتيقة في المعنى التي قال بها أفلاطون وأرسطو ومَن سار على نهجهما من بعد من المشّائيين، أقول، أنه بدون هذه النظرية لا معنى لأسئلة من قبيل: أين توجد المعاني الكُلِّيَّة؟ هل العدم موجود بقدر ما يكون الوجود موجود؟ وهل لا يكون لكلامنا معنى إذا لم يكن هنالك “كُلِّي واقعي” ؟ وأنا في ذلك أنتمي إلى الإسميَّة الماصَدَقيَّة بقوة.

فالاستعمالات عندنا لا يُشترط أن تُحيل بالضرورة إلى أشياء ذات مرجعٍ أنطولوچيّ، فهنالك فرق بين مستويين من الاستعمال بحسب تقسيم “رودولف كارناب” :

1- اللغة الشيئية Objective language : وهي لغة تُشير استعمالاتها إلى الأشياء الفيزيائية Physical Objects المتعينة في الزمان والمكان، مثل قولنا “الوردة حمراء، الثلج أبيض” أو “الإنسان كائن حي ينتصب على قائمتيه”.

2- اللغة الشارحة Meta-language : وهي لُغَة صورية تُشير إلى اللغة ذاتها، أي تتحدَّث عن نفسها، مثل قولنا “العبارة القائلة «الوردة حمراء» تتركّب من كلمتين” أو “العبارة القائلة «الإنسان كائن حي ينتصب على قائمتيه» تعني كذا، أو صائبة منطقيًا، إلخ..”.

3- فاللغة الشيئيَّة هي التي تصدُق على الأشياء المفردة والكثيرة، وأمَّا اللغة الشَّارحة فوظيفتها هي ضبط الاستخدام للّغة الشيئيَّة وتوضيح مقاصدها وتحليل معاني ألفاظها، وكلامنا العادي لا يخلو من هذين المستويين – وإن بشكل ضمني لا ندركه. فالصدق والكذب وكلمات من قبيل «ليس، أو، إذا، و، فإذًا، لكن، بعض، كل» وغيرها من الكلمات تدخل في باب الميتا-لُغة، وأما الأسماء العَلَم فتنتمي إلى اللغة الشيئيَّة.  

وهذا التقسيم الخاص باللُّغَة يشبه تمييز “كواين” للفرق بين مجال “اللغة” ومجال “الوجود” أو ما يُسمّيه كواين بـ “نظرية المعنى” في مقابل “نظرية المرجع”، يقول ويلارد كواين :

وإذا عُدنا إلى تقسيم كارناب، نجد أن هذا التهجين بين المعنى والمرجع يحدث في المستوى اللغوي “الشَّيْئي” نظرًا لتضمُّنه “التسمية” كأحد موضوعاته، فيدخل فيه الحدود الجُزئيَّة (أحمد) والكُلِّيَّة (الإنسان) معًا، ولكنها – كما سنُبيّن – ليست سوى “فئات” منطقية Classes تُشير إحداها إلى الفرد المُتعيِّن، والأخرى نجمع فيها أوصاف مُحددة لتصُدق على كثرة من الأفراد، وذلك لتسهيل الإشارة والتواصل، أي لأغراض عملية صرفة، ولا حاجةَ لنا إلى أن نُدخل كيانًا في الأنطولوجيا لدينا حتى يكون للألفاظ الكُليَّة معنىً، فالحدود العامة من ذلك القبيل هي عبارات أو مُفردات وصفية كما يؤكد راسِل في نظريته عن العبارات الوصفية، وفيما يلي عرض لها:

المُراد بالعبارة الوصفية العامة، عبارة – وقد تكون كلمة واحدة – دالَّة على أفراد كثيرين من جنس واحد، كقولنا «رجل» أو «إنسان» أو «مَلِك»، وأحيانًا تدلّ على أوصاف مُركّبة، كقولنا «جبل من الذهب» أو «مؤلف كتاب» أو «قاضٍ عادل» إلخ… وسؤالنا الآن هو: ماذا أُقرر على وجه الدقة حينما أقول مثلًا : قابلتُ إنسانًا؟

هَبْني صادقًا فيما أقول، حين أقول: «قابلتُ إنسانًا»، وافرض أن الإنسان الذي قابلته فعلًا هو «العقّاد»، فمن الواضح أن عبارتَيْ «قابلتُ إنسانًا» و«قابلتُ العقّاد» ليستا متساويَتين، ويكفي لبيان ذلك أن نلاحظ بأنني قد أكون صادقًا في الأولى وكاذبًا في الثانية، إذ ربما أكون قد قابلت إنسانًا ولكن هذا الإنسان لم يكن العقّاد، ولو كانت العبارتان صادقتين لصدقتا معًا أو كذبتا معًا، ولاستحال أن تصدق إحداهما على حين قد تكذب الأخرى. إن قَولي «قابلتُ إنسانًا» لا يتعيَّن به أنّي قابلتُ فردًا بذاته من الناس كزيد أو عمرو، بل مثل هذا القول لا يتعيَّن فيه أن يكون للَّفظ «إنسان» مُسمَّيات حقيقيّة واقعة في عالم الأشياء أصلًا، بدليل أنني قد أقول «قابلتُ غولًا» أو «ركبتُ فرسًا مُجنحًا»، ويكون لقولي هذا معناه عند السامع – إذا فرضنا أن الغول والفرس المُجنَّح مُحدّدي الأوصاف – على الرغم من أنه ليس هناك في عالم الأشياء الواقعة غول حقيقي أو فرس مُجنَّح؛ لأنها كائنات من نسج الخيال.

فأنا حين أقول «قابلتُ إنسانًا» فإنما أعني بكلمة إنسان مجموعة من الصفات تنطبق على هذا وهذا وذاك من أفراد الناس، فهي أوصاف عامة، أتصوّرها بالذهن، حتى ولو لم يكن هناك الفرد الذي تنطبق عليه، إذ الأمر هنا لا يزيد ولا يقلّ عن العبارات التي أتحدث فيها عن كائنات خيالية مثل الغول والفرس المُجنَّح، وبناءً على ذلك فالمُراد من العبارات الوصفية هو المُدرَك العقلي، لا الأفراد الحقيقيون الواقعون في عالم الأشياء.

إن الألفاظ التي اصطلحنا على تسميتها بـ«الحدود الكُليَّة»، مثل إنسان ورجل ونهر وشجرة، ليستْ في الحقيقة إلا عبارات وصفية، وليست بحد ذاتها دليلًا على وجود أفراد لها، وإلا لأصبح هناك وجود لأفراد الغول وللفرس المجنّح.. وهذا يصدق على كل لفظة كُليَّة في اللغة: لفظة «رجُل» تدل على مجموعة صفات أتصورها وقد لا يكون لها مُسمًّى في الواقع، ولفظ «حيوان» يدل على مجموع صفات أتصورها وقد لا يكون لها مُسمًّى في الواقع، وهكذا… فمربط الفرس هنا إذًا هو معرفة أوصاف الموضوع الذي تُشير إليه اللفظة حتى يكون للقضية معنى، وليس وجود مُسمًّى لها في الواقع.

ومن هنا يتضح وجه الشبه، كما يتضح وجه الخلاف، بين عبارة تتحدّث عن شيء حقيقي، وأخرى تتحدّث عن شيء خيالي وهمي، فكلتا العبارتَين تكون مفهومة للسامع على حد سواء، فلا فرق من حيث الفهم بين أن أقول : «قابلتُ إنسانًا»، أو أن أقول «قابلتُ غولًا»، إذا كان للغول صفات معلومة مُحددة، لكن تعود العبارتان فتختلفان من حيث إن للأولى أفرادًا في عالم الواقع، وأنها تصدُق على أي فرد منهم، وأما الثانية فعلى الرغم من أني قد أفهم معناها، فليس في عالم الواقع أفراد بحيث تصدُق على هذا أو ذاك من هؤلاء الأفراد.

إن مصدر هذه المشكلة مصدر هذه المشكلة (مشكلة تقرير وجود ما لكائنات وهمية حتى يكون لكلامنا معنى) هو أن معظم المناطقة الذين عالجوا هذه النقطة، قد ضلَّلهم النحو عن المنطق، فاعتبروا التشابه في الصورة النحوية تشابهًا في الصورة المنطقية أيضًا، فعبارتا «قابلتُ إنسانًا» و«قابلتُ العقاد» عندهم من ضرب منطقي واحد، ما دامتا من صورة نحوية واحدة؛ ولذلك كانتا تُعَدَّان في المنطق التقليدي قضيتَين من قالب واحد، مع أن الصورة المنطقية مختلفة في الأولى عنها في الثانية أشد اختلاف.

عبارة «قابلتُ العقاد» قضية فردية بسيطة، تصدق أو تكذب حسب مطابقتها أو عدم مطابقتها لما وقع في العالم الخارجي من حوادث، أما عبارة «قابلتُ إنسانًا» فليست بالقضية، وإنما هي «دالَّة قضية» ودالة القضية هي صورة فارغة لا يمكن تصديقها أو تكذيبها إلا بعد ملء ما فيها من فراغ بأسماء أفراد جزئية، فعبارة «س عمره عشرون عامًا» صورة قضية؛ لأنني لا أستطيع القول إن كانت صادقة أو كاذبة إلا بعد أن أضع مكان س اسم فرد جزئي، بحيث تصبح مثلًا «فيصل ملك العراق عمره عشرون عامًا».

ومن ثمَّ يمكن القول أن السؤال عن أنطولوچيا “الكُلِّيَّات” عمومًا هو سؤال يكشف عن جهل تام بطبيعة اللغة ومستوياتها، إنه سؤال مدفوع بضرب من الضلال اللغوي يثير مشكلةً زائفة.

ولكن هل مشكلة الكُلِّيَّات والاعتقاد بوجود الماهيَّة (والمعروف أيضًا بمبحث الكُلِّي الطبيعي) يرجع فقط إلى سوء فهم اللغة؟ بالطبع لا.. فالملاحظة التجريبية لها دور أيضًا بالمسألة. وهذا ما سنتعرض له في مقالاتنا القادمة..

المحطة

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...