سيوران توأم ديوجين 

11-02-2022

سيوران توأم ديوجين 

Image
سيوران في نظري توأم ديوجين. 

آدم فتحي: سيوران في نظري توأم ديوجين . ينبح في كلّ شذرة يكتبها. في نباحه شطحة الشاعر ولمعة المفكّر. أَدركَ أنّ الفكر لم يعد يتحمّل «الأقمطة» النسقيّة، فاستعاد توهّج اللحظة ما قبل السقراطيّة. كتب النصّ الطويل لكنّه روّضه بالشذرة. أتاح لِلَّمْعَةِ الشعريّة أن تمنح الفكرة أجنحة أخرى وأن تعود بالمفكّر إلى مملكة الحواسّ. 

ذاك ما أدركه نيتشه أيضاً. لذلك يصعب أن نقول «أخطأتَ الطريق» لمن يعتبر «الخطأ» علامةً من علامات طريقه. سيوران من بين القلّة الذين عثروا للشعر على طريق كي يفكّر، وللفلسفة على طريقة كي تظلّ قراءتها ممكنة. وهو إلى ذلك متشائم ضاحك. أو متشائل على طريقة إيميل حبيبي. لقد حيكت حول الرجل «أساطير» عديدة، كان هو أوّل من ساعد على «حياكتها». ذاك شرْطٌ من شروط بقاء الكاتب في نظره: ألّا يمنح عن نفسه «صورةً نهائيّة». وقف به الأرق على حدّ الجنون. اصطدم مثل الكثير من مجايليه بعلامات الانهيار والانحطاط التي غلبت على المشهد الحضاريّ الغربيّ. فحاول في بداياته أن يعترض على هذا الانهيار بطريقة «قيصريّة»، حتى كاد يقع في الغواية النازيّة. ولعلّه لم ينجُ من تلك الغواية إلّا حين قبلَ بفكرة الانحطاط والانهيار على أساس أنّها «نهاية ضروريّة». من ثمّ اشتغل على تيمات مثل الموت والسقوط منذ الولادة والانحلال أو التحلّل، من دون أن يسمح لهذه التيمات بالتحوّل إلى «عقائد». هكذا نجا من مصير فرويد وزفايغ على سبيل المثال، اللذين هالَهُمَا كمُفَكِّرَيْن أن يعجزا عن التصدّي لفظائع النازيّة، فانتحرا كي لا يتحوّلا إلى «شهود على الأنقاض». 

لهذه الأسباب، وغيرها الكثير، أقرأ سيوران بمتعة متحرّرة، من دون أيّ اهتمام بتصنيف ما يكتب، فهو المفكّر الشاعر أو الشاعر المفكّر. بل لعلّي أراه بنّاءً بقدْر ما يراه بعضُهم هدّاماً عدَمِيّاً، وأجد في شذراته الكثير من ملامح الأمل على العكس ممّا يتصوّر كثيرون.

 أنا لا أرى في سيوران فيلسوف التشاؤم واليأس والعبث، بل أرى فيه فيلسوف «النهاية» بامتياز، تلك النهاية التي تعني بدايةً جديدة مختلفة. وهو فيلسوف الإعلان الصريح عن «الإفلاس»، ذلك الإعلان الذي لا بدّ منه للتأسيس على أرضيّة خصبة. لذلك قلتُ وأقول إنّي أترجم سيوران للحصول على جرعة من الأمل، خاصّة في مرحلتنا الراهنة التي تكاد تدفع إلى اليأس، لفرط ما انهارت القيم وتراجعت الثقافة وعمّ الفساد وتطاوسَ الجهلُ وعُوقِبت الكفاءة وسادت الأنانيّة المتوحّشة واحتُقِرت المصلحة العامّة وهيمن منطقُ الربح، وتفشّت ذهنيّةُ المحاصصة والغنيمة. فإذا نحن لا نحلم حلماً إلّا أُجهِضَ ولا نخلص من فاسدٍ إلّا حلّ محلّه فاسد، وكأنّنا أمام ديستوبيا يصرّ تاريخُنا على ترجمتها إلى واقع في شكل دعوة مفتوحة للانتحار.

لقد صوّر سيوران، على طريقته، حياةً كابوسيّةً أكثر من هذه الديستوبيا. وتوغّل فيما تدفع إليه من اليأس والإحباط حدّ اختراقهما. حدَّ النفاذ منهما. وليس من برهان على ذلك أفضل من أنّه لم يستسلم إلى اليأس ولم ينتحر، هو «مُنظّر الانتحار» بامتياز أو هكذا يبدو. ربّما لأنّه اهتدى بعد حيرةٍ مدوّخة وبعد بحثٍ مضنٍ إلى طريقة تتيح له تحمّل الحياة، وتتمثّل تلك الطريقة في مساعدة المنهار على الانهيار. هكذا شرع في تفكيك كلّ الخدع والخزعبلات التي يتشبّث بها عالَمٌ هالِكٌ وحضارةٌ منهارة كي يحافظا على بقاء لا فائدة منه. وفي هذا السياق، جاءت شذرته الشهيرة: «كم هو محزن أن نرى أمماً كبيرة تتسوَّلُ قدْراً إضافيّاً من المستقبل».

ثمّة في هذه الرؤية السيورانيّة ما قد يصلح، في نظري، لتَحمُّل الحالة العربيّة الراهنة. لا بدّ من تجنّب التعميم طبعاً. فالمرحلة الراهنة لا تخلو من جُزُرٍ نيّرة. لكنّ تلك الجُزُر لا تمنع الإقرار بأنّ الوضع في معظمه معتم، يغلب عليه التشبّث المُقرف بالترقيع والتلفيق والترميم والرعب من الذهاب بالأمور إلى نهاياتها، كما تغلبُ عليه استماتةٌ يُرثَى لها في «التسوُّل العبثيٍّ لقدْرٍ إضافيّ من المستقبل». كأنّ بعضنا مصرٌّ على النفخ في جيفة. لقد جرّبنا «أنصاف الحلول» كُلَّهَا، فلم ننجح إلّا في منع النجاح من التحقّق، مُصرّين على إعادة إنتاج الفشل، كأنْ ليس في الإمكان أفضل ممّا كان. وكأنْ لا مناصَ لنا من معاناةِ الاستبداد والفساد والتبعيّة والعشائريّة والقبَليّة والطائفيّة والشعوبيّة إلى آخر القائمة التي لا يبدو لها أوّل ولا آخر! فإذا نحن نكتفي دائماً بالحدّ الأدنى من كلّ حلم. نتهرّب من حلّ معضلاتنا الفكريّة بشكلٍ جذريّ. نرفض الحسم في خياراتنا الحضاريّة. نتوقّف عند كلّ «هبّة» في منتصف الطريق، عاجزين من ثمّ عن النهوض الحقيقيّ وعن «الثورة الكاملة»، مُحجِمين عن ابتكار أنفُسنا في «الآن والهُنا» لِضَرْبِ موعِدٍ مع غَدِنا. لماذا؟ لأنّنا لا نملك الجرأة الكافية على «تقييد فلسة» كما نقول بالعاميّة التونسيّة. وتعني هذه العبارة الإعلان الواضح الصريح عن «إفلاس» مشروع أو رؤية أو مرحلة أو جيل، والبناء على أرضيّة صلبة للنهوض من جديد.

إنّ من شأن أعمال كأعمال سيوران أن تساعدنا على تمثُّل فكرة «النهاية» باعتبارها محطّةً لا بدّ منها في الطريق إلى كلّ بداية جديدة منشودة، لا يمكن أن تتحقّق ما لم نُتِمَّ طقسَ حِدادِنَا على المرحلة السابقة وما لم نعلن إفلاسها. من ثمّ زعمي بأنّ في قراءته وترجمته ما ينعش الأمل، إذا نحن تعمّقنا في نصوصه وتجاوزْنَا ما تَعمّدَهُ فيها أحياناً من استفزاز وتمويه ساخر لإنتاج ما يسمّيه «سوء التفاهم» الضروريّ لبقاء النصّ.

 

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...