الليبرالية الجديدة: أساطير وأوهام وتداعيات كارثية

15-06-2024

الليبرالية الجديدة: أساطير وأوهام وتداعيات كارثية

 د. جوليان بدور

شكل انهيار المنظومة الاشتراكية في بداية التسعينيات من القرن الماضي وفشل التخطيط المركزي في تحقيق التنمية الاقتصادية للدول النامية فرصة ذهبية للقوى الرأسمالية الكبرى في نشر فلسفة الليبرالية الجديدة أو(النيوليبرالية) على المستوى العالمي.

الفكرة الاقتصادية الأساسية لهذه الفلسفة تقوم على فرضية أن تدخل الدولة في الاقتصاد لا يساعد على التوظيف الأمثل للموارد النادرة لأنه يعرقل الأفراد والقطاع الخاص بالقيام بالاستثمارات والأعمال الرابحة مما يحرم الاقتصاد من موارد مالية إضافية مهمة ويضعف النمو الاقتصادي.

في هذا السياق التاريخي الملائم قام أنصار الفكر النيوليبرالي باستخدام المؤسسات المالية كصندوق النقد والبنك الدوليين والتجارة العالمية للترويج لفكرة أن التبادل الحر والخصخصة والحد من تدخل الدولة في الاقتصاد هو أفضل وسيلة لتحفيز النمو الاقتصادي وجلب الرفاهية والرخاء للأغلبية العظمى من الناس. وفي ظل هذه الظروف، تبنت الأغلبية العظمى من دول العالم (ما عدا الصين وبعض الدول) النيوليبرالية الجديدة كاستراتيجية اقتصادية بهدف الارتقاء بالتنمية الاقتصادية وجلب الرفاهية لأغلبية سكانها. بعد مرور أربعين عاماً من البدء على تطبيقها السؤال الذي يطرح هو هل نجحت حكومات الدول التي تبنت النيوليبرالية في تحقيق أهدافها أم إنها فشلت في ذلك؟ تجارب دول عديدة (تشيلي وأميركا اللاتينية، روسيا الاتحادية خلال حقبة التسعينيات ودول المنظومة الشرقية، مصر، المغرب، الأردن، اليونان وبريطانيا وغيرها من الدول)، تشير إلى أن الليبرالية الجديدة قد أخفقت كاستراتيجية اقتصادية في الارتقاء بالنمو الاقتصادي وتحسين المستوى المعيشي للسكان، هذا المقال يهدف إلى معرفة الأسباب الكامنة وراء إخفاق النيوليبرالية في تحقيق أهدافها؟

1- غموض مفهوم الليبرالية الجديدة على الرغم من هيمنة الفكر الاقتصادي النيوليبرالي على أغلبية دول العالم خلال الأربعين عاماً الماضية، إلا أن مفهوم النيوليبرالية بقي غامضاً ومن دون تعريف دقيق وواضح. ففي دراسة نشرت في عام 2009 تبين أن ثلاثة أرباع المقالات العلمية التي تستخدم مصطلح الليبرالية الجديدة لم تُعرفه بشكل دقيق. والربع الباقي انقسم ما بين من يعتبر هذا المصطلح مرادفاً للانفصال التام عن الدولة وبين من يرى بأن الدولة يجب أن تلعب دوراً نشطاً في الاقتصاد. بشكل عام يمكننا القول إن الفلسفة النيوليبرالية قائمة على ثلاث ركائز أساسية:

اولاً إعلاء قيمة اقتصاد السوق الحر والتجارة الحرة والحرية الفردية مقابل تدخل الدولة في الاقتصاد، ثانياً: خصخصة الاقتصاد وتعزيز دور المبادرة الفردية والقطاع الخاص، ثالثاً: اتباع سياسة التقشف ومحاربة التضخم.

2- أسطورة النيوليبرالية وأوهامها، تقوم النظرية الاقتصادية التي تروج لها النيوليبرالية على ثلاثة أوهام أو فرضيات أساسية: لبرلة الاقتصاد، وخصخصة القطاعات والخدمات العامة، اتباع سياسة التقشف واستقرار الأسعار. فما السمات الأساسية لهذه الفرضيات النظرية وهل تؤكدها أم تدحضها البيانات الحقيقية للدول؟

‏i- وهم لبرلة الاقتصاد (تحرير الأسعار وحركة رؤوس الأموال والتجارة الخارجية):

أ- المبدأ النظري من وجهة نظر أصحاب الفكر النيوليبرالي يعتبر التبادل الحر هو الشرط الأساسي والفعال لتحقيق التنمية المستدامة وجلب الرفاهية والرخاء لأغلبية الناس لأمرين أساسيين: الأول: هم يدعون أن التبادل الحر كان السبب الرئيسي وراء التنمية الاقتصادية التي حققتها الدول الغنية والرفاهية والرخاء الذي ينعمون فيه الآن. الثاني: هم يؤكدون، بالاستناد إلى نظرية المزايا النسبية لدافيد ريكارود، بأن التبادل الحر، على عكس السياسات الحمائية والاكتفاء الذاتي، هو الحل الأفضل للدول النامية للحصول على التخصيص الأمثل للموارد النادرة وتحفيز النمو الاقتصادي فيها.

ب- على أرض الواقع تجارب الدول ومعطيات الواقع تفنّد هذا الرأي لسببين رئيسيين: – الأول وحسب، هو- جون تشانغ (2003) فإن نظرية التبادل الحر هي أسطورة لا أساس لها من الصحة وأن الدول الغنية كالولايات المتحدة والمملكة المتحدة لم يتبعوا قط سياسة التبادل الحر عندما كانوا في طور النمو البدائي بل بنوّا قوتهم الاقتصادية والصناعية بإتباع سياسات الحماية الجمركية.

– أما العامل الثاني فيتعلق ببعض بلدان الجنوب التي ضمنت صعودها في إطار ما يسمى التصنيع المتأخر وهي الصين وكوريا الجنوبية في هذا السياق، وعلى عكس ما تدعو إليه نظرية المزايا النسبية، أعتّمد هذان البلدان من أجل بناء قدرات صناعية وإنتاجية تنافسية وإنجاح اللاحق بالبلدان المتقدمة على ركيزتين أساسيتين أولاهما تدخل إرادي قوي للدولة لدعم وحماية المؤسسات الإنتاجية حتى تراكم شروط التنافسية من خلال اتباع آليات التعلم أو التمرين.

ثانيتهما ربط التدخل والدعم الحكوميين بشرط إحراز نتائج ملموسة وقابلة للقياس من خلال قدرتها على المنافسة واختراق الأسواق الدولية.

– لكن إذا كان الواقع يدحض مبادئ النيوليبرالية فما الغاية التي دفعت الدول الرأسمالية الغنية إلى الترويج بقوة لحرية السوق وضرورة تبنيها من دول الجنوب. الهدف الحقيقي لمثل هذه السياسة هو تحويل دول الجنوب إلى أسواق مفتوحة بالكامل بلا ضوابط قانونية لحمايتها بغية تمكين الشراكات العملاقة من دخول أسواق الجنوب الفقير لبيع منتجاتها وخدماتها من دون عوائق ضريبية أو جمركية ومن ثم السماح للأرباح والأموال بالانتقال من مختلف بقاع الأرض لتنتهي في البنوك والمصارف التابعة للشركات العملاقة.

‏ii- خرافة أو وهم خصخصة الاقتصاد (أي بيع الممتلكات والخدمات العامة للقطاع الخاص)

أ-المبدأ النظري يدعو أنصار النهج الاقتصادي النيوليبرالي إلى خصخصة القطاعات والخدمات العامة، وتخفيض الضرائب على أرباح الشركات بحجة أن الشركات الخاصة أكثر كفاءة وفاعلية من الكيانات التي تديرها الحكومة في تقديم الخدمات العامة وإنتاج السلع، وأن المنافسة بين الشركات الخاصة ستؤدي إلى زيادة الإنتاج والابتكار وانخفاض الأسعار بالنسبة للمستهلكين.

ب-على أرض الواقع تظهر المعطيات الحقيقية بأن خصخصة الاقتصاد والتبادل الحر وتخفيض الضرائب على أرباح الشركات لا أساس لها من الصحة لسببين رئيسيين: الأول هو أن تجارب الدول تشير إلى أن خفض الضرائب على الأغنياء والشركات لا يؤدي بالضرورة إلى الزيادة في الاستثمار المنتج بل تنجم عنه زيادة في المضاربات وارتفاع في الأرباح الموزعة على المساهمين ما يزيد من ثراء الأثرياء وفقر الفقراء. الثاني هو أن الحرية الاقتصادية والمنافسة الكاملة هما أسطورة لا صلة له بأرض الواقع بسبب القيود والضوابط التنظيمية الموجودة بكثرة في الدول المتقدمة (القيود على هجرة العمالة الأجنبية، سياسات دعم الزراعة والصناعات الوطنية، حجم الموازنة العامة للحكومات، الحرب التجارية الاقتصادية الحالية بين الدول المتقدمة والصين، سياسات فرض الحصار والعقوبات الاقتصادية على العديد من الدول، تحديد سعر الفائدة من البنك المركزي الواقع تحت سيطرة الحكومات إلخ).

‏Iii- أسطورة سياسة التقشف ورفع الدعم واستقرار الأسعار: 

أ- المبدأ النظري من وجهة نظر الاقتصاديين النيوليبراليين أن أتباع سياسة التقشف ومحاربة التضخم الناجم عن تفاقم عجز الموازنة العامة وضمان استقرار الأسعار وسعر الصرف ضرورة ملحة لتحفيز الاستثمار الخاص، بشقيه الوطني والأجنبي، والنمو الاقتصادي وإيجاد فرص عمل للمواطنين. 

ب- على أرض الواقع بصفة عامة يتبين من دراسات للبنك الدولي وباحثين آخرين أنه منذ أن تم اعتماد سياسات متشددة في مجال التضخم شهد العالم أزمات مالية ومصرفية عديدة كالأزمة المالية التي عانت منها كوريا الجنوبية وتايلاند في عام 1997 أو الأزمة المالية العالمية في عام 2008، لكن الدراسة الأهم والأكثر معنىً هي ما قام بها ثلاثة من اقتصاديي صندوق النقد الدولي والمنشورة في عام 2016 (أي الهيئة الدولية التي تبنت وروجت بقوة للسياسات النيوليبرالية) والتي تبين بأن السياسات التقشفية وتحرير أسواق رأس المال التي كان يتشدق بها صندوق النقد زادا من مخاطر حدوث الأزمات المالية وساهما في انخفاض الطلب والنمو الاقتصادي وفاقما من مشكلة اللامساواة الاجتماعية.
أخيراً وليس آخراً يجب الإشارة إلى أن سياسة محاربة التضخم والسياسات التقشفية تؤدي إلى تقليص الإنفاق على مجالات حيوية كالتعليم والصحة والحماية الاجتماعية والبنى التحتية والاستثمار في القطاع الزراعي إلخ مما يضر بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد.

٣- أضرار النيوليبرالية وتداعياتها الكارثية الناجمة عن تطبيق النيوليبرالية عديدة ومتنوعة وتشمل أغلب البلدان التي تبنت النهج النيوليبرالي.

1- على المستوى الاقتصادي في كتاب بعنوان نهاية النيوليبرالية والتاريخ يولد من جديد (2019)، لخص الاقتصادي الشهير جوزيف ستيغليتز، الحائز جائزة نوبل، التداعيات الاقتصادية والاجتماعية الناجمة عن تطبيق سياسات النيوليبرالية اقتبس بعد مرور أربعين عاماً، دعونا نلق نظرة على الأرقام: لقد تباطأ النمو، وذهبت ثمار هذا النمو في الأغلب الأعم إلى قلة قليلة للغاية عند القمة.ومع ركود الأجور، وارتفاع سوق الأوراق المالية إلى عنان السماء، تدفقت الدخول والثروات إلى الأعلى، بدلاً من التقاطر إلى الأسفل.

2- على المستوى العالمي حسب الكاتب البريطاني (مون بيوت)، لعبت النيوليبرالية دوراً محورياً في مجموعة من الأزمات منها: الأزمة المالية العالمية (2008)، انتشار مراكز الأوفشور المالية التي يخفي فيها الأثرياء أموالهم بعيداً عن سلطات الحكومات، انهيار قطاعات الصحة والتعليم، زيادة الفقر وانتشار الأمراض النفسية، انهيار النظم البيئية.

3- على المستوى النفسي حسب الكاتب «بول هيجي»، أدى النظام النيوليبرالي إلى انتشار الكثير من الأمراض مثل اضطراب الأكل والاكتئاب والعزلة والشعور بالوحدة والقلق الدائم من فقدان العمل والخوف من المستقبل.
4- على المستوى الصحي والتعليمي حسب الدراسة التي أجرتها المجلة العلمية والمستقبل الاقتصادي (2022)، أدت السياسات النيوليبرالية إلى تحويل الرعاية الصحية والتعليم إلى سلعة خاصة للبيع بدلاً من كونها حقاً إنسانياً ومنفعة عامة مدفوعة من الخزينة العامة. وتشير هذه الدراسة إلى أن نتائج تطبيق الاصلاحات النيوليبرالية على قطاعي الصحة والتعليم كانت كارثية بكل معنى الكلمة، إذ أدت إلى تراجع متوسط العمر المتوقع وزيادة الوفيات وعدم المساواة وتراجع معدلات النمو الاقتصادي والدخل الفردي، فالأفراد غير القادرين على دفع تكاليف الصحة والتعليم لن يحصلوا على مثل هذه الخدمات التي يحصل عليها الأغنياء.
5-على المستوى الاجتماعي : تفاقم مشكلة المساواة الاجتماعية على أرض الواقع حيث تميل السياسات النيوليبرالية إلى تشجيع الاحتكار بغية رفع الأسعار وزيادة أرباح التجار والشركات على حساب المستهلكين، ما أدى إلى تركيز الثروة ووسائل الإنتاج بأيد قليلة من الأغنياء على حساب أغلبية الناس وتآكل حقوق العمال وإضعاف النقابات العمالية وزيادة العمل غير المنظم والمستقر. فمثلاً في أميركا يمتلك أدنى واحد بالمئة من السكان الأثرياء ثروة أكثر مما يمتلكه 90 بالمئة من الفقراء.

بالمحصلة النهائية بدلاً من إطلاق تنمية اقتصادية حقيقية ومستدامة وجلب الرفاهية وانتشال الملايين من الناس من الجوع والبطالة والفقر المدقع، أدى اعتماد الليبرالية الجديدة كإستراتيجية اقتصادية في الكثير من البلدان إلى ازدياد عدد الوفيات والفقر والجوع والمرض وعدم المساواة والخوف من المستقبل وفقدان السيادة الوطنية إلخ.
لكن السؤال الذي يهمنا هو التالي: هل المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية التي يعاني منها المواطن في سورية هي من النوع نفسه ومشابهة للمشكلات التي أنتجتها الليبرالية الجديدة في البلدان الأخرى؟ هذا ما سـنحاول الإجابة عنه في مقال مقبل.

الوطن

د. جوليان بدور : أكاديمي وباحث اقتصادي سوري في جامعة ريونيون الفرنسية

إضافة تعليق جديد

لا يسمح باستخدام الأحرف الانكليزية في اسم المستخدم. استخدم اسم مستخدم بالعربية

محتويات هذا الحقل سرية ولن تظهر للآخرين.

نص عادي

  • لا يسمح بوسوم HTML.
  • تفصل السطور و الفقرات تلقائيا.
  • يتم تحويل عناوين الإنترنت إلى روابط تلقائيا

تخضع التعليقات لإشراف المحرر لحمايتنا وحمايتكم من خطر محاكم الجرائم الإلكترونية. المزيد...