هل انتهت الحرب السورية وبدأت معركة الاقتصاد؟
سامي كليب:
قبل نحو شهرين كان مُجرد القول إن الحرب السورية في طريق الانتهاء، هو ضربٌ من المغالاة والوهم. لكن بعد الحرب الأوكرانية، بات الأمرُ واقعاً، وصارت القيادةُ السورية تتصرّف على هذا الأساس، فاتحة ورشةً ضخمة لإعادة الاعمار وإنعاش الاقتصاد، بالاعتماد في المرحلة الحالية على الإمارات العربية المتحدة والصين، ولاحقا على دول أخرى.
شيءٌ من التفاؤل يتعلّق بدروس التاريخ، حيث إن اندلاعَ حربٍ في منطقة جُغرافية مُعيّنة من هذا العالم، يُنهي واحدة اندلعت قبلها، أو على الأقل يزيح آلة الضغط العسكري والسياسي والدعاية الإعلامية الى مكان آخر. فلم تنته مثلا حربُ لُبنان الضروس باتفاق الطائف الشهير، حتى اندلعت حربُ إخراج جيش صدّام حسين من الكويت. وثمة أمثلة كثيرة مُشابهة.
لا شك أن الحرب الأوكرانية عزّزت قناعة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأنه كان على حق في ما قام به في سورية، ومجرّد أن اندلعت المعاركة في الدونباس، سارع الأسد لردّ الجميل الى حليفه الأكبر، أكان ذلك بالموقف المؤيد لموسكو، أو بأشياء أخرى سيكشفها التاريخ لاحقا.
لكن شيئاً آخر من التفاؤل يتعلّق بمستجدّات كثيرة حصلت. وأبرزها الكوّة الكبيرة التي فتحتها الإمارات العربية المُتحدة في جدار الموقف العربي حيال دمشق. لعلّ كلّ ما يُقال في العلن، هو جزء طفيف من اتفاقات ستظهر نتائجها لاحقا على الأرض السورية، سيّما وإن الامارات تماما كالسعودية ما عادتا في الوقت الراهن تُعيران كبير اهتمام للغضب الأميركي، ربما إدراكا منهما بأن الرئيس جو بايدن لن يستطيع التجديد لولاية ثانية، أو لانهما ضاقا ذرعا بالضغوط والتخبط الأميركيين، وبالرغبة الأميركية بتوقيع اتفاق، كيفما اتفق، مع إيران دون الاخذ بعين الاعتبار مصالح الحلفاء التقليديين من الخليج حتى إسرائيل.
صحيح أن الامارات العربية، نأت بنفسها منذ فترة غير قصيرة عن الحرب السورية، ومنعت المُعارضة السورية من حُريّة التحرك على أرضها منذ منتصف سنوات الحرب السورية تقريبا، وأنها لم تقطع التواصل مع القيادة السورية، ولا أوقفت الطيران، لكن الأمور الآن تستعيد حرارة عالية، إن كان عبر الزيارات المُهمّة التي جرى تبادُلُها، أو بخطط الدعم.
إمارات-إيران-يمن؟
الأمر الأهم سياسيا في هذه العلاقة، يكمُن في معلومات دقيقة تتحدث عن دور مُهمّ لعبه الرئيس الأسد مع إيران وأنصار الله الحوثيين، بغية تقريب وجهات النظر مع الإمارات، وتزامن ذلك مع القرار السعودي بوقف الحرب والشروع بمفاوضات يمنية-يمنية. وهذا ما يُفسّر بعض الكلام الإيجابي الذي نُقل عن دبلوماسيين سعوديين حيال إعادة النظر بالعلاقة مع سورية رغم آن آخر تصريح علني من وزير خارجية السعودية قبل أشهر كان قاسيا جدا ضد الأسد وقيادته. وآنذاك قيل إن السبب هو أيضا اليمن.
تتقاطع هذه المعلومات مع الخيوط التي نُسجت بشأن الملف اليمني في الآونة الأخيرة على أكثر من صعيد، وجرى استمزاجٌ واسع للرأي، من الضاحية الجنوبية لبيروت وصنعاء وصولا الى الحليف الإيراني وموسكو.
تعود الذاكرة الى الدور الذي لعبه تاريخيا الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد بين الخليج وإيران في أوج التأزم، ونجح على نحو كبير في إبقاء الورقتين قويتين بيده، ورقة الشقيق الخليجي وورقة الحليف الإيراني. (نجد وثائق مُهمّة جدا في كتاب نائب الرئيس السوري عبد الحليم خدّام الذي نشره قبل وفاته ويشرح فيه تفاصيل كثيرة عن علاقات وساطة عميقة بين حافظ الأسد والخليج وايران، وهي علاقات استمّرت قوية في عهد بشّار الأسد على الخطّين حيث وصل كلام الرئيس السوري الحالي في طهران نفسها بعد الاجتياح الأميركي-البريطاني للعراق، الى حد القول إن أي تهديد جدّي للسعودية ليس في مصلحة إيران ولا سورية لأن البديل عن الاعتدال السعودي هي الجماعات الارهابية).
تعرّض ويتعرّض بشّار الأسد الى ضغوط كبيرة بسبب العلاقة مع طهران وحزب الله. لكنّه الآن صار أكثر قدرة على لعب دور أوسع، خصوصا إذا ما نجح في تكريس جزءٍ من هذه العلاقة مع طهران في سياق المُساهمة في أمن الخليج وأنهاء الحرب بصورة عادلة ورفع الحصار عن الشعب اليمني.
لا شك ان الكلام عن نهاية حقيقية للحرب السورية تفترض خروج الأميركي والتركي. هنا أيضا أصبح الهامش أوسع بعد حرب أوكرانيا. فلا الأميركي ما زال مُهتمّاً بهذه القاعدة الخلفية والهشّة له على الأرض السورية والتي يعرف أن أي خطأ فيها سيؤدي الى تنفيذ عمليات خاطفة ضدّه خصوصا إذا طالت حرب أوكرانيا وبقي الانسداد في الملف الإيراني، ولا الكُرد لعبوا دورا قادرا على حمايتهم في المرحلة المُقبلة وعلى تثبيت أقدامهم. لا بل يُمكن التفكير لاحقا باتفاق مُباشر أو غير مُباشر تركي-سوري لتطويق الكُرد الذين يقول دبلوماسي عربي إن الغضب السوري الرسمي منهم بات كبيراً، وانهم مُتهمون بتضييع فرصة نادرة للاتفاق مع دمشق.
لا بُد هنا من الإشارة أيضا الى قُدرة الإمارات، ومن خلال علاقتها المتطورة جدا مع إسرائيل، على لعبِ دورٍ ضامن الى حدٍ ما في الملف السوري، بمعنى أن التقارب الكبير بين دمشق وأبو ظبي، يسمح بتهدئة القلق الإسرائيلي من الجبهة الجنوبية ومن دوري إيران وحزب الله عند الحدود، ففي نهاية المطاف هذه دولة عربية سُنيّة، تبقى بالنسبة لدمشق أفضل من دولة تُركية سُنيّة حاولت لعب مثل هذا الدور سابقا حين حصل تفاوض إسرائيلي-سوري في أواخر العام 2007. الأمر ما زال سابقا لأوانه وغير مطروح سورياً، لكنه حتما قد لا يكون مُستبعداً لاحقاً.
ومن يَدري فقط يكون للإمارات لاحقا دور في كيفية التعامل مع اكتشافات الغاز واستخراجه من البحر الأبيض المتوسط ذلك أن علاقاتها مع سورية ولبنان وإسرائيل تسمح بذلك.
ماذا عن الاقتصاد؟
الرهان السوري كبير على الامارات والصين بطبيعة الحال، لكن الخطط والمشاريع التي تعمل عليها الإدارة السورية حاليا متعدّدة، ستبدأ بالظهور قريبا في مجالي الطاقة والكهرباء، وسيُصار الى تعزيز الاستثمارات في مجالات الطاقة المُتجدّدة (وهنا الخبرات الإماراتية والصينية كبيرة).
تلحظُ الخطط أيضا أعادة هيكلة الاقتصاد السوري بما يتلاءم مع مرحلة الشروع بإعادة الاعمار وتخفيف الضغط الاقتصادي والاجتماعي عن الناس الذين ضاقوا ذرعا بالفقر بعد أن عانوا ويلات الحرب وصمدوا، وإذا كان الأسد غالبا ما يميل الى الواقعية وعدم المغالاة في الطمأنة وعدم الحديث عن الأمور الاّ حين تُصبح جاهزة، فإن المجالات التي قد تُرسل إشارات جيدة تتعلق بإعادة تنظيم قطاعات المال والاعمال والضرائب وضبط الفساد، مع إعطاء الأولوية في الدعم للمشاريع المتوسطة والصغيرة.
في هذا قد تشهد سورية انفراجات عربية جديدة تُساعدها اقتصاديا، فمثلا الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون تبنّى موقفا مبدئيا بالاّ تُعقد القمة العربية العتيدة على أرض الجزائر بلا سورية. وليس بعيدا أن تشهد علاقات البلدين (الجيدة أصلا) تبادل زيارات عالية المستوى، أو ربما قمة بين الرئيسين. كما أن حزب جبهة التحرير الجزائرية يميل الى عقد لقاءات مع حزب البعث السوري في فترة قد لا تكون بعيدة.
العقبات أمام عودة سورية الى مقعدها في جامعة الدول العربية باتت قليلة لا بل ونادرة أيضا (ربما قطر الأكثر تشدّدا). كان لافتا مثلا أنه في خلال انعقاد المؤتمر الثاني ل ” حركة الشعب” في تونس قبل أيام بحضور أحزاب عربية وآلاف المشاركين، كان مُجرد ذكر أسم سورية أو حتى الأسد يثير الهُتافات العالية والتصفيق. فتونس التي عانت من الإرهاب، ومن عودة متطرفين خطيرين الى أرضها من سورية، تشهد كما دول عربية عديدة قراءة مغايرة تماما للحرب السورية خصوصا بعد توسّع هامش اقصاء الحركة الإسلامية في المغرب العربي بشكل عام.
انطلاقا من كل ما تقدّم، يبدو أن سورية باتت فعلا في المرحلة الأخيرة من الخروج من نفق الحرب، وما عاد الكلام عن تسوية مع المعارضة، يلقى الكثير من الاصداء في دمشق، فالدولة تتصرف على أساس أنها ربحت الحرب العسكرية وتخطط الآن لربح معركة الاقتصاد، ولا بأس أن تستمر المصالحات مع من يرغب بذلك كما يحصل حاليا في ريف حلب، لكن بشروط دمشق لا المعارضة.
هل التفاؤل في محلّه؟ ربما، وفي جميع الأحوال، فالدول الغربية التي رفعت طويلا شعار اسقاط الأسد، وعقدت عشرات الاجتماعات ل ” أصدقاء سورية” دعما للمعارضة، غارقةٌ حتى أذنيها الآن في حربٍ أكثر خطرا عند تخومها. وهذا بالضبط ما يجعل التفاؤل السوري أقرب الى الواقعية. لكنه تفاؤل يحتاج الى أن يلمسه الناس في لقمة عيشهم وحياتهم ورواتبهم في أقرب فرصة.
إضافة تعليق جديد