تركيا تُصعّد ضدّ الكرد السوريين
جو غانم:
وسط صمتٍ أميركيّ مُريب، ومناشدةٍ كرديّة للروس، حصراً، بالتدخّل لكبح جماح رجب طيب إردوغان في الشرق السوريّ، كثّفت القوات العسكرية التركية في الأسابيع الأخيرة ضرباتها على مواقع كردية في أرياف حلب والرقة ودير الزور والحسكة، في الوقت الذي تتوالى عمليات الطيران التركيّ المسيّر التي تستهدف اغتيال قياديين كرد تابعين لما يُسمّى “وحدات حماية الشعب الكردي”، والتي تعتبرها أنقرة جزءاً لا يتجزّأ من “حزب العمال الكردستاني”.
وعلى الرغم من أنّ الهجمات والاستهدافات التركيّة للمواقع الكردية في الشمال والشرق السوريّين ليست جديدة، بل بلغت حدّ العمليات العسكرية الموسّعة غير مرّة خلال سني الحرب السوريّة، فإنَّ الجديد في الاستراتيجية التركية هذه المرة هو اعتمادها بشكل مكثف على الطائرات المسيّرة لتنفيذ تلك العمليات، واختيار أهداف محدّدة تؤثّر في البنية العسكريّة القيادية للتنظيم، وذلك عن طريق اغتيال قيادات كرديّة ميدانيّة ترى أنقرة بوجوب إزاحتها من الواجهة، منعاً لقيامها بالتخطيط لعمليات في الداخل التركيّ لاحقاً أو ضد القوات التركية التي تحتلّ أجزاء من الأرض السوريّة.
وقد ترافق عمل الطائرات التركيّة المسيرة مؤخّراً مع قصف مدفعيّ وصاروخيّ مكثّف قامت به قوات تركيّة وأخرى فصائليّة مدعومة من الأتراك، تابعة لما يُسمّى “الجيش الوطنيّ السوري”، لبعض المواقع الكردية في مناطق رأس العين والدرباسيّة وعين عيسى، ومعظم النقاط في شمال محافظة الحسكة وشرقها، كما على طول امتداد طرق “إم 4” الواصل إلى الحسكة، حيث تنتشر قوات “قسد”.
يرى الكرد في هذا التصعيد التركيّ المستجد مؤشّراً خطراً على احتمال بدء حربٍ تركيّة شاملة عليهم، وهم يعيشون قلقاً متزايداً في كلّ يوم، بعد استمرار عمل الطيران التركيّ المسيّر وتصاعده في الآونة الأخيرة بشكل يثير الكثير من التساؤلات والمخاوف.
لذلك، عمد الكرد إلى رفع المناشدات إلى موسكو لكي تضطلع بدورها وتكبح هذا الجموح العسكريّ التركيّ، باعتبارها قوّةً ضامنة في الشرق السوريّ. وعلى الرغم من أنّ موسكو لم تتّخذ أيّ إجراء حتى اللحظة، لكن يبدو أنَّ الأتراك يعتمدون على حجّة كانوا قد أوجدوها في اتّفاقهم مع الروس أنفسهم من خلال “مذكّرة سوتشي” التي تمّ التوصل إليها في العام 2019، والتي تقضي بوقف نشاطات التنظيمات الكردية قرب الحدود التركية، وعدم التمدد خارج المناطق التي سيطروا عليها، أو تنفيذ أيّ هجمات في العمق التركيّ أو في مناطق نفوذ أنقرة، حيث تسيطر الجماعات المسلّحة المدعومة تركيّاً في شماليّ سوريا، على أن تنشط دوريات روسية – تركية في تلك المناطق لفرض تنفيذ الاتفاق.
وبناءً عليه، يرى الأتراك أنّ المجموعات الكردية لم تفِ بالتزاماتها، وخصوصاً بعد قيام “حزب الاتحاد الديمقراطي” الكرديّ بإطلاق قذائف هاون باتّجاه بلدة “قرقميش” التركية في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، الأمر الذي كانت أنقرة تنتظر حدوثه لاتّخاذه ذريعة لاستعادة الهجمات بوتيرة أكبر، وذلك بعد أن فشلت في العام الماضي في الحصول على موافقة روسيا والولايات المتحدة الأميركيّة لشنّ عملية عسكريّة موسّعة على مناطق سيطرة الكرد، على غرار العمليات الكبيرة التي نفّذتها في الأعوام التي سبقت (“درع الفرات” و”غصن الزيتون” و”نبع السلام”)، والتي أدت إلى طرد الفصائل التركية من مناطق واسعة في ريفي حلب والرقة، وآخرها العملية التي أدت إلى سيطرتها على المساحة الواقعة بين منطقتي تل أبيض في ريف الرقة ورأس العين في ريف محافظة الحسكة في أواخر العام 2019، والتي يعبّر المسؤولون الأتراك بشكل مستمر عن أنها غير كافية لردع الخطر الكردي عن الحدود التركية وعمقها الدّاخليّ.
تشير المعلومات إلى أنّ موسكو وواشنطن ما زالتا غير راضيتين أو موافقتين على شنّ أنقرة أيّ عملية عسكرية واسعة ضد الكرد في الشرق السوريّ، لكن يبدو أنّ الكرد أنفسهم ما عادوا يعوّلون على الموقف الأميركيّ، وخصوصاً بعد ما جرى في سجن “غويران” في مدينة الحسكة، وفي ظل وجود تيار كرديّ يتّهم أنقرة بمساعدة تنظيم “داعش” الإرهابيّ على تنفيذ الهجوم على السجن، ويرى أنّ هناك تواطئاً أميركياً – تركيّاً أدّى إلى مقايضة ضربات تركيّة للتنظيمات الكردية في الحسكة ودير الزور، مقابل تسليم رأس زعيم تنظيم “داعش”، أبو إبراهيم القرشي، لواشنطن، وخصوصاً أيضاً أنّ الكرد يلاحظون تحسّناً في العلاقات التركيّة – الأميركيّة مؤخّراً، وحاجة واشنطن إلى أدوارٍ تركية جديدة في المنطقة والإقليم، وخصوصاً في سوريا وأوكرانيا والجوار الروسيّ.
هذا الأمر لا يمكن أن يؤدّي إلى موافقة أميركية على عملية تركية واسعة في الشرق السوري، لكن قد ينتج منه “غضّ طرفٍ” أميركيّ على عمليات عسكرية جراحيّة مؤثّرة وموجعة تقوم بها تركيا ضد الكرد في تلك المنطقة، وهو بالضبط ما تفعله أنقرة الآن، إذ تخوض “معركةً بين الحرب”، وبطريقة مختلفة هذه المرة، تشبه العمليات الأميركية في عهد الرئيس الأميركي باراك أوباما على نحو الخصوص، وفي أكثر من مكان من العالم، إذ حصدت الطائرات المسيّرة الأميركيّة مئات الأرواح من دون أن تتحرّك القوات الأميركية من مكانها.
وربما كانت الطريقة التي تنفّذ بها أنقرة عملياتها ضد الفصائل الكردية في سوريا عبر الطائرات المسيرة بهذا الشكل المؤثّر وغير المكلف ماديّاً، هي ما أشار إليه الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في كلمة له في تشرين الأول/أكتوبر من العام الماضي، عندما قال إنّ تركيا ستستمرّ بحربها “ضد التنظيمات الإرهابية في سوريا بشكلٍ مختلف للغاية في الفترة المقبلة”.
لكنّ المزاج العام الكرديّ الذي يعوّل على الروس بشكل أكبر هذه المرّة، يتخوّف من استغلال أنقرة انشغالَ موسكو في الأزمة في أوكرانيا، وقيامها بحرب شاملة على مناطقهم.
ويرى هؤلاء أنّ العمليات المكثّفة في الأسابيع الأخيرة ليست سوى تمهيد عمليّ لهذه الحرب، بيد أنّ التحليل الواقعيّ يبتعد عن هذه النظرية القلِقة، فالروس ليسوا منشغلين عن مهامهم في سوريا، وهم يقومون بكامل عملياتهم المعتادة بشكل روتينيّ منذ بدء الحرب في أوكرانيا، بل إنَّهم زادوا، مع الجيش العربيّ السوريّ والقوات الحليفة، ضرباتهم ضد تنظيم “داعش” الإرهابيّ في البادية، وكذلك عملياتهم النوعية ضد التنظيمات الإرهابية المسلحة في ريف إدلب.
كما أن أنقرة لا تحشد قوات عسكريّة بريّة في المنطقة الشرقية، وليس بإمكانها شنّ مثل هذه الحرب، مع العلم أنّ الفصائل المسلحة المدعومة منها في سوريا، ومنها ميليشيا “الجيش الوطني” الذي “ركّبته” من بقايا بعض الفصائل وفلولها، ليس بمقدورها أن تخوض لوحدها حرباً ضد الكرد في الشرق، حتى بإسناد تركيّ مباشر، بل إنّ أنقرة دفعت تعزيزات عسكرية ولوجستيّة كبيرة إلى مكانٍ آخر تماماً، لا جبهة فيه مع الفصائل الكردية، وهو مواقعها في جبل الزاوية جنوبيّ إدلب، حيث الجبهة مع الجيش العربيّ السوريّ.
من جهة أخرى، لن تسمح دمشق وقوى محور المقاومة، ومعهم روسيا، بحدوث عملية عسكريّة تركية كهذه في الشرق السوريّ، فالاستراتيجية السورية الحالية تقوم بشكل رئيسيّ على زيادة زخم المقاومة الشعبية والعسكرية في المنطقة الشرقيّة ضد قوات الاحتلال الأميركي، وتصعيدها ضد الفصائل الكردية المدعومة أميركيّاً أيضاً، وهو الأمر الذي بدأنا نلمسه بشكل واضح في الآونة الأخيرة، بعد ازدياد الهجمات على قواعد الاحتلال الأميركي ونقاط “قسد” في ريفي دير الزور والحسكة.
إضافة إلى ذلك، تواصل قوات الجيش العربي السوري والقوات الجوية السورية والروسيّة قصف مواقع ونقاط تابعة للتنظيمات الإرهابيّة المسلّحة التي ترعاها تركيا وتسندها ميدانيّاً في إدلب وريفها، مع تصاعد التصريحات السورية والروسيّة التي تكشف بشكل مباشر العزم على تحرير كامل التراب السوري، وفي طليعته إدلب، وهي رسائل موجّهة إلى أنقرة مباشرةً، كان آخرها تصريح المندوب الروسيّ في الأمم المتحدة، ديمتري بوليانسكي، في آذار/مارس الفائت، حول نيّة موسكو رفض التجديد للقرار الأممي المتعلّق بإيصال المساعدات إلى الداخل السوري عبر بوابة إدلب (معبر باب الهوى) التي تسيطر عليها تنظيمات إرهابيّة مسلحة مدعومة من تركيا.
كذلك، أطلق سفير الرئاسة الروسية إلى سوريا، ألكسندر يفيموف، تصريحات تحذيريّة غير مسبوقة حول “تطوّرات كبرى قادمة خلال المرحلة المقبلة، ولا سيما في العلاقات التي تربط موسكو مع بعض الدول المعنيّة والمؤثّرة في الشأن السوريّ”، في إشارةٍ منه إلى “إسرائيل” وتركيا تحديداً.
مع تطور أساليب القتال التركيّة ضد الجماعات الكردية في الشرق السوريّ مؤخّراً، واعتماد أنقرة طرائق جديدة في الصراع هناك، ورغم كثافة الهجمات التركيّة طوال الشهرين الأخيرة، حتى بلوغها حدّ العمليات اليوميّة في الأسبوعين الأخيرين، وقيام الجيش التركي ببناء قاعدة كبيرة في الريف الغربي لمدينة “تل أبيض” وحفر الخنادق ورفع السواتر الترابيّة، ورغم كلّ التحذيرات الكردية اليومية من حرب تركيّة على الأبواب، فإنَّ بالإمكان الاستنتاج، بناءً على الوقائع الميدانية والظروف العسكرية والسياسية المحليّة والإقليمية والدولية، أنّ أنقرة ستكتفي بتكثيف عملياتها الجراحيّة المؤثرة عن طريق الطيران المسيّر، إضافة إلى قصف مدفعيّ وصاروخيّ من بعيد على المواقع الكردية، من دون اللجوء إلى اجتياح بريّ لتلك المناطق.
ويمكن القول أيضاً إنّ حاجة واشنطن وموسكو إلى تركيا في هذه المرحلة، سوف تُسهّل على أنقرة القيام بمثل هذه العمليات، من دون اعتراض يُذكر من القوّتين المتصارعتين، لكن لن يُسمح لأنقرة بأبعد من ذلك، ومن شأن هذا كلّه أن يدفع بالكرد باتّجاه دمشق وموسكو أكثر، وهو الأمر المتوقّع في الفترة القادمة، وهو ما سيسمح لدمشق وموسكو معاً بالتفرّغ أكثر لجبهة إدلب، والوقوف وجهاً لوجه أمام تركيا، فإمّا أن تشتعل جبهة إدلب من جديد، وإمّا أن تُفتَح طريق أنقرة – دمشق السياسية، وتتوصّل موسكو إلى اتّفاق شامل مع تركيا حول وضع إدلب والفصائل المسلحة الموجودة هناك، وبالطبع حول الوضع الكرديّ في الشرق السوري.
وقد نشهد إعادة إحياء لـ”اتفاقية أضنة” بين الطرفين السوري والتركيّ، وهو الأمر المرجّح في مرحلة قادمة ليست بعيدة، وخصوصاً أنّ الرئيس الروسيّ فلاديمير بوتين اعتبر في آخر قمّة روسية – إيرانيّة – تركيّة في “سوتشي” في تشرين الأول/أكتوبر الماضي، أنّ اتفاقية أضنة بين سوريا وتركيا هي الحلّ الأنسب لمكافحة الإرهاب بين الدولتين، و”يمكن استخدامها كأرضية للعمل اليوم”، مشيراً إلى وجود تعاون نشط في هذا المجال بين موسكو وأنقرة، وليست دمشق ببعيدة عن هذا النشاط بكلّ تأكيد.
كلّ المؤشرات تتجه نحو تلقّي الكرد درساً جديداً يُضاف إلى دروس التاريخ الكثيرة التي تلقّوها، من دون أن تُثمر تغيّراً مؤثّراً أو مختلفاً في نظرتهم إلى مكانهم من الصراع في المنطقة ودورهم فيه.
الميادين
إضافة تعليق جديد