ما الذي فعله الباشا محمد علي بمصر ج٢؟
سامح عسكر:
ذكرنا في الجزء الأول أن محمد علي أنشأ في مصر أول مدرسة للطب في الشرق الأوسط في قصر العيني سنة 1827 لكن اهتمام محمد علي بالتعليم كان قبل ذلك حيث أنشأ أول مدرسة للهندسة سنة 1816ويذكر الجبرتي قصة نادرة لإنشاء هذه المدرسة، حيث اخترع أحد أبناء البلد واسمه "حسين عجوة" آلة لضرب الأرز وهي التي تفصل قشرة الأرز عن ثمرته، وهي التي يعرفها المصريون "بالتبييض" فأعجب الباشا بالآلة وأنعم على صاحبها بمكافأة ، ثم أمر بتركيب هذه الآلة في "دمياط ورشيد" وهي الفكرة التي ألهمت محمد علي بإنشاء مدرسة الهندسة في القلعة سنة 1816م
ويقول الأستاذ "جمال بدوي" في كتابه "محمد علي وأولاده" أن الجبرتي ساق هذه القصة في سياق إعجاب الباشا بأبناء مصر الذين رأى فيهم نجابة وعبقرية وبالتالي عادت ثقة الوالي بالمصريين في الاعتماد عليهم من أجل الصناعة، وهي قصة تكشف إلى أي مدى لم يشجع الأمراء السابقون على محمد علي كافة المصريين على العبقرية والإنجاز، بل استخدموهم فقط بالحروب ودفع الإتاوة والأموال..قصة تكشف إلى أي مدى كان محمد علي مؤمنا بقدرات المصريين..وهذا ليس مدحا ملائكيا للرجل بالمناسبة، فقد طرحنا وجهة النظر الأخرى في 29 إبريل 2017 بمقال "رؤية أخرى لتنوير محمد علي" وأن هذا التنوير لم يكن عن إيمان حقيقي به ولكن مصلحة له ضد رجال الدين والمماليك، وأن جزءا كبيرا من هذا التنوير كان تقليدا حرفيا لأوروبا دون مراعاة الخصوصية المصرية والإسلامية..
لكنني أرجح هنا رؤية تنوير محمد علي المؤمن بقدرات المصري وضرورة تغيير أحوال هذا البلد للأفضل، حتى لو تم ذلك بأساليب القرون الوسطى بالقمع والترغيب، حتى لو كان عن مصلحة له ضد رجال الدين، ففي تقديري أن نجاح الساسة والحكام غالبا يكون باستغلال أخطاء خصومهم وليس عن نقد ذاتي وضمير، فنادرا ما ينقد الحكام ذواتهم أو يقبلوا ذلك ما دامت السلطة معهم، لذلك فالديمقراطية وصلت إلى أن شرط الإصلاح وعلاج العيوب في التعددية السياسية كي لا يكون للحاكم سلطة علوية تمنع وتسمح بنقد أعماله، فيكون نقد الحكومة عن طريق المعارضة جزء أساسي من عمل الدولة..وهذا لم يكن مسموح به قديما أن يكون للمعارضة نفوذ واعتراف من الدولة بل كل معارض وطالب للحكم عند رجال البلاط هو كافر مهرطق أو خائن..لذا فتنوير محمد علي أفهمه وفقا لسياقه الزمني والمكاني الذي لم يعرف الديمقراطية بعد أو أن تجاربها في الحضارة الغربية لم تكن كاملة النمو..
كان قرار محمد علي بإنشاء "دار الهندسة " أو "المهندسخانة" هو الذي سمح للمصريين بتعلم الجبر والهندسة وأساليبها من المقادير والارتفاعات والمساحات والمثلثات..إلخ منذ قرون، فمنذ إعلان مصر دولة دينية مسيحية في القرنين الرابع والخامس الميلاديين وتوقف العلم والإيمان به الذي كان يُنظر له على أنه من بقايا أعمال الفلاسفة والزنادقة والهراطقة خصوم الكنيسة، فما فعله الرجل بالواقع كان إحياءة جديدة لعصر العلم بعد غيابه في قبل 1400 عام، وقد توسع محمد علي في إنشاء مدارس الهندسة فبعد إنشاء نموذجها الأول في القلعة أنشأ مدرسة أخرى في بولاق سنة 1834 م وعين عليها "يوسف أفندي" المعروف في كتب التاريخ "بيوسف هاككيان" الذي أطلق اسم اليوسفي عليه لكونه من أحضر هذه الثمرة إلى مصر من بلاد أوروبا أيام البعثات..
توسع محمد علي في إنشاء المدارس، وينقل جمال بدوي في كتابه "ثم توالى ظهور المدارس العاليه بخلاف مدارس الحربية والبحرية، فقد أنشأ محمد علي مدرسة الألسن بالأزبكية، والمعادن بمصر القديمة ، والمحاسبة بالسيدة زينب، والصيدلة بالقلعة والزراعة بنبروه والتجهيزية الثانوية بأبي زعبل والإسكندرية، ثم أنشأ مدارس أخرى للفنون والطب البيطري..وغيرها، فلو لم يكن الرجل مؤمنا بالعلم وتحديث الدولة ما الذي دفعه لإنشاء كل هذه المدارس لأول مرة في تاريخ مصر دفعة واحدة؟ وما الذي جعله ينفق من ثروات مصر على تعليم أبنائها في الخارج؟ إلا إيمانا منه أن ما سينفقه اليوم سيجنيه غدا
وفي تقديري أن الإنجاز الأعظم لمحمد علي تمثل في ضبط "عدد سكان مصر" وتنظيمه ليكون طبيعيا ينمو بحسب نمو الموارد ويزيد كلما زاد معدل التنمية..فالنسبة والتناسب ضروريين لأي مجتمع، فالرجل استلم حكم مصر وعدد سكانها 3 مليون فقط على مساحة جغرافية هائلة وملايين الأفدنة المزروعة ورغم ذلك كان الشعب يعيش في فقر ومجاعات رغم كثرة موارده، فجاء محمد علي بالحلول التي سقت إحداها في مقال "محمد علي والحل العبقري" بتاريخ 26 نوفمبر 2016 وسقت فيه كيف أن محمد علي خلص مصرا من أزمة العُربان والبدو واتخذ قراره الشجاع بتوطينهم ودعمهم كي لا يصبحوا مصدر قلق متزايد ومكرر للفلاح المصري الذي كانوا ينهبوه بشكل متكرر، ويتعاونون مع أمراء المماليك ضده كلما لزم الحاجة أو طمع الأمراء في مزيد من الغنائم، فالفترة المملوكية لم تكن السلطة فيها وكيلة عن الشعب بل اشتهرت بأنها كانت فترة جبابة واحتلال بغيض كان فيها المملوك يحكم المصريين بالحديد والنار لكي يدفعوا بالمقام الأول..
ولنعلم كيف نجح محمد علي في ضبط عدد سكان مصر فلتتخيل أنه لو استمرت مصر في تناقص عددي مستمر عن 3 مليون بسبب الفقر والمجاعات والأوبئة التي ميزت العصرين المملوكي والعثماني فهل كنا سنرى شعبا مصريا بالأساس؟..أم سيكون مجرد تاريخ يُحكى كالهنود الحمر وسكان استراليا الأصليين؟..وفي ذلك يقول الشيخ المراغي في تفسيره اعترافا جميلا حيث قال "ولما اعتلى عرش مصر « محمد على » رأس الأسرة المالكة فى مصر فى أوائل القرن الثامن عشر ، وساس البلاد بحكمته ، وسعى جهد طاقته فى تنظيم مرافقها من زراعة وصناعة ومعارف وعلوم ، تكاثر النسل وما زال يزيد ، ونهج أبناؤه وحفدته نهجه حتى بلغ عدده فى عصرنا الحاضر نحو عشرين مليونا" (تفسير المراغي ج29/ صـ 84) وهو اعتراف مثير من أحد رجال الدين الذي تضرر أسلافهم من حكم الرجل فهاهو يشهد له بالإنجاز وبُعد البصيرة وإنقاذ شعب مصر من الفناء..
فالتاريخ يؤكد أن فترة الباشا الألباني كانت مركزية في تاريخ مصر تحول فيها المصريون من الفناء إلى الزيادة والعُمران، من الجهل والمرض إلى الصحة والعلم، من الضعف والخنوع إلى القوة والاستقلال والشخصية..
وهنا لفتة هامة أن محمد علي كان شخصا (عمليا براجماتيا) فهو لم يهتم بنقل فلسفة وميتافيزيقا مفكري أوروبا ولم ينشغل بكيف يرى هؤلاء الدين والله بل انشغل بشئ واحد هو كيف يستفيد من تجاربهم عمليا وينقل خبراتهم إلى مصر في سلوك يوحي أن الرجل كان يفكر بشكل "يساري" أو "شيوعي" بتقديم المادة على المثال ، أو البناء التحتي عن البناء الفوقي، فيكون تنمية البناء التحتي والمواد مقدمة لتهذيب رؤية الشعب ورجال دينه ومفكريه للحياة بالكامل ، وأن يخرجوا بإرادتهم من عالم المثال الذي عاشوا فيه لعدة قرون متصلة وطويلة تخلف فيها المصريون أيما تخلف، وانشغلوا بما لا طائل منه من خلافات المذاهب والأديان العبثية حول رؤيتهم للسماء والغيب وهي أمور صرح القرآن بأنها علم حصري لله وحق أزلي له لا ينبغي لأحد غيره، لكن انشغال البشرية بالغيب تسبب في تخلفهم ولم يدركوا المعنى الحقيقي من الدين وهو تهذيب النفس والضمير والسلوك كمقدمة لتهذيب الواقع على الأرض.
لكن رجال الدين لم ينتبهوا لذلك وقدموا المسألة بشكل معكوس فاهتموا بالخلافات الغيبية واللغوية والمذهبية وبالغوا في التضخيم منها وتكفير الناس بناء عليها في وقت أهملوا الواقع تماما، حيث كان الشعب يموت بالملايين في الأوبئة والمجاعات بينما فقهاء المذاهب الأربعة يكفرون أنفسهم حول التوسل والصفات الخبرية والموقف من أهل الكتاب والشيعة..
هنا محمد علي لم يشأ إدخال رجال الدين في متاهة أخرى بين الفلاسفة وعلماء اللاهوت المسيحي ونقد الأديان الذي ميز فترة التنوير الأوروبية المتأخرة، بل رأى أن تنمية الواقع المادي سوف يقنع رجال الدين المسلمين بضرورة التغيير وأن ما يعرفوه من كتب الفقه والكلام ينبغي أن تُحدث وفقا لواقع جديد، وبرأيي أن أوروبا تقدمت بهذه الطريقة أيضا، حيث حين نقلوا عن علماء حضارة المسلمين لم ينقلوا تصوراتهم وجدلياتهم عن علم الكلام الإسلامي في المقابل ولا خلافات المذاهب الأربعة بل نقلوا منجزاتهم في الطب والموسيقى والفلك والسياسة كترجمة كتاب القانون لابن سينا مثلا وإحصاء العلوم للفارابي ومؤلفات "جابر ابن أفلح" في الفلك والرياضيات، وأعمال ابن الهيثم في الفيزياء وغيرها..فما فعله الباشا الألباني هنا كان عن وعي بطريقة تقدم الأوروبيين المادية بالأساس وعفا نفسه عن الجدل الفارغ والعبثي بين علماء اللاهوت والفقه الذين لن يفضي سوى إلى مزيد من التكفير والتعصب والانشقاقات..
وأختم هذا الفصل بجواب سؤال وردني على الماسينجر وهو سر كراهية الجماعات لمحمد علي باشا، وجوابي أنني في الواقع لم ألمس هذه الكراهية منهم بشكل واسع أو حاد لكنه نقد واعتراض على أحداث بعينها أجملها في خمسة أسباب من أجلها يكره المتدينون المتعصبون حكم الباشا الألباني تحديدا دونا عن بقية أبناءه:
السبب الأول: أن الرجل قضى على الدولة السعودية الأولى وهي دولة دينية وهابية كانت تغزو الناس وتنهب القبائل والشعوب باسم الدين، وتقتل كل من يخالفها دينيا وسياسيا دون أي تردد بدعوى الكفر والبدعة، وهذه الدولة كانت ولا تزال مثالا يحتذى به عند التكفيريين وسيرة محمد علي سيئة لديهم لهذا السبب بالذات كسبب أول ومهم..
الثاني: أن الرجل قضى على المماليك الذين كانوا يحكمون مصرا بناء على تاريخصهم النضالي ضد الصليبيين والمغول، فالمملوك كان يعتز بأسلافه ويقدم نفسه على أنه امتداد لسيف الدين قطر وبيبرس البندقداري وغيرهم، ولهؤلاء حظوة نفسية عند الجماعات لمركزيتهم في (الجهاد الديني ) ضد الكفار والأعداء وفقا لتصورهم..
الثالث: أنه قضى على سيطرة ونفوذ رجال الدين والأزهر في حكم مصر، فقد جاء محمد علي بمباركة شيوخ الأزهر ونقابة الأشراف لكنه انتقم منهم بالنفي والقمع والتهديد كي لا يعطلوه عن مشروعه القومي في تحديث الدولة ونقلها لمصاف الدول الأوروبية المتطورة..
الرابع والأخير: أن الباشا الألباني رغم أصوله غير المصرية لكن نظام حكمه كان (قوميا مصريا) فهو الذي أنشأ الجيش المصري والبحرية المصرية والمدارس المصرية، بينما الجماعات ترى هذه القومية من علامات الجاهلية التي ثار عليها سيد قطب في الحقبة الناصرية، وهذا ملمح هام تشترك فيه حقبة عبدالناصر مع أسرة محمد علي أن كلاهما كانا قوميان مصريان برغم الخلاف الأيدلوجي الحاد بينهم وثورة الناصريين على حكم الأسرة العلوية بالعموم..
الخامس: ثورته على الدولة العثمانية وحروبه ضدها ومحاولته للاستقلال عنها، والدولة العثمانية كانت ولا تزال هي (حلم الخلافة) عند الجماعات الذي تآمر عليه الماسونيون والعلمانيون والقوميون..إلخ، لذلك فهم يكفرون تلك الحركات جميعا لدورهم السياسي في إسقاط حكم الخلافة، ومحمد علي ولأنه اتعظ من تجارب من سبقوه لم يشأ خوض هذه المغامرة ضد العثمانيين إلا بالسيطرة على رجال الدين في مصر..
ولتوضيح السبب الأخير فالتاريخ يحكي أن انقلاب "محمد بك أبو الدهب" على علي بك الكبير سببه الأول والأساسي تكفير قاضي الآستانة لعلي بك الكبير وأنه كان مرتدا زنديقا بخروجه على دولة الخلافة ومحاربته للباب العالي ومحاولته للاستقلال بمصر عن تركيا، ويبدو أن محمد بك أبو الدهب كان سطحيا ساذجا من ناحية الفكر والدين مع براعته في العسكرية والحروب والقيادة، لكن عقله لم يستوعب كيف أنه صار كافرا هو الآخر لسمعه وطاعته أمير مصر، فقرر الانقلاب على أميره حتى قتله وأنهى أول وأشهر محاولة مصرية للاستقلال عن الدولة العثمانية قبل محمد علي، وبالطبع الباشا الألباني أخذ ما حدث لعلي بك الكبير في الحسبان، حيث رأى ذلك في صباه رأي العين فقرر بدهائه أن يداهن العثمانيين ويدجنهم كي لا يكونوا ضده ، فلو أصبحوا على الحياد كان بها، وهو ما تحقق بالفعل، حيث اتخذت الدولة العثمانية موقف الحياد من كل إصلاحات محمد علي الداخلية، وبالخصوص موقفه من رجال الدين والأزهر..ولم يفطن العثمانيون أنهم وقعوا ضحية لجهلهم وأن محمد علي كان يقمع رجال الدين كي يخرج عليهم هم وبالتالي سلاح الكفر والردة لن يكون فعالا..
الجزء الثاني
الجزء الأول https://d9.aljaml.com/node/186919
إضافة تعليق جديد