الله معك ، يا حكيم
هنادي زرقه:
بهذه الجملة ودّع أهالي جبلة طبيبيهما فايز عطّاف وزوجته هالة سعيد. خاطباهما بصيغة المفرد لا لأنّهم يميّزون بينهما، بل لأنهم يوحّدون ويطابقون، ولا تقلّ محبتهم لهالة عن محبّتهم لفايز. احتشد البشر على الشرفات وفوق الأرصفة يلوّحون ويولولون. كان يكفي أن يرحل فايز عطّاف وهالة سعيد ليكون ما حصل أعنف زلزال تتعرض له المدينة على الرغم من جميع الزلازل الرهيبة التي عاشتها سوريا وتعيشها في هذه الفترة. لم يحظَ بجنازتهما رئيس أو ملك, فالناس لم تنس اليد البيضاء التي امتدت إليهم طوال عقود, وأتت الجنازة مهيبة تليق بالمحبة التي أغدقاها على هذه المدينة وسواها. لم يكونا مجرد طبيبين ألمعيين. وبالنسبة إليّ، لم يكونا مجرد صديقين رائعين. كانا "ظاهرة" بكل ما للكلمة من معنى.
كان ذلك في عام 1997, كنت طالبة جامعية وأعمل في معرض للكتاب في بهو المتحف الوطني في اللاذقية, حين دخل شاب في الثلاثينيات من عمره برفقة فتاة صغيرة لا تتجاوز الثلاث سنوات إلى الجناح الذي أعمل فيه، وراح يتمعّن وينتقي, له ولصغيرته. لم أستطع أن أزيح بصري عنهما, لأعلم بعد ذلك أنّه الطبيب فايز عطّاف الذي سبق له أن أنقذ حياة كثيرين في جبلة إثر حادث القطار الذي صدم حافلة عمومية على أطراف المدينة, وذاع اسمه لمهارته وسرعة إدارته للموقف الحرج وإنسانيته المفرطة. وسوف أعلم بعد ذلك أيضاً سبب وجود صغيرته معه بمفردهما, إذ كانت زوجته في فرنسا تكمل اختصاصها في الأمراض العصبية, وسوف تعود لتكون أول طبيبة مختصة بمرضي الزهايمر وباركنسون, الأمر الذي سيجعلها لاحقاً أهم شخص في حياتي لسنوات طويلة.
ولد فايز عطّاف في عام 1962, وهو العام نفسه الذي ولدت فيه هالة سعيد. وكانا من أسرتين كادحتين لا تهتمّان بشيء قدر اهتمامهما بتعليم أولادهما. وسوف أتعرّف على والد هالة، العامل في مبنى المحافظة في اللاذقية، وعلى والدتها السيدة أمينة، ربّة المنزل اللذين لم يخرج من بيتهما المستأجَر سوى الأطباء والأساتذة الجامعيين والمهندسين اللامعين. وسوف أعلم أيضاً عن أخت لهالة قضت شابة وتركت وراءها ثلاثة أطفال, لم يتجاوز أصغرهم الشهرين, تعهدتهم والدتها بالرعاية ليصبحوا ثلاثة أطباء أيضاً، حتى بتنا أمام بيت يكاد لا يماثله أي بيت سوري آخر في رفعة تعليمه وتفوّق أبنائه. وسوف أتعرّف أيضاً على والدة فايز التي يتعلّق بها، حياة السوسي، وتربيتها عائلة كبيرة تخرَّج منها الأطباء والجامعيون.
كانا من بيئتين فقيرتين لا رهان لهما سوى التعليم. وجعلتهما ميولهما الماركسية ينحازان إلى الفقراء, في تناغم من دون تكلّف أو كثير نقاش, كأنهما آلتان موسيقيتان تعزفان في انسجام عصّي على التقليد موسيقاهما الخاصة المتفردة.
اختارا أن تكون عيادتيهما في قلب المدينة, قرب الكراج، حيث يسهل الوصول إليهما من جميع أطراف المدينة ومن الريف. ومع أنّ العيادتين كانتا في طابق مرتفع من المبنى، فإنَّ المرضى كانوا يملؤون الدرج والممر المؤدّي إلى العيادة, ليس لأنهما من أمهر الاختصاصيين فحسب, بل لأنّ جميع المعدمين كانوا على ثقة أنّ هذين الطبيبين لن يتقاضيا منهما أيّ مقابل, بل سيدفعان ثمن الأدوية ونفقات العمل الجراحي إذا ما لزم الأمر.
كان فايز وهالة جمعية إغاثة قبل أن تُعرَف مثل هذه الجمعيات وقبل حوادث سوريا الدامية الأخيرة. ولطالما حاول هؤلاء الفقراء ردّ الجميل لهذين الطبيبين, بطريقة المقايضة البدائية: طب وكرم إنساني تقابله خضار ورقية أو بيض أو عسل أو زيت وزيتون, أو فاكهة, أو ربما قليل من الفطائر المحشوة بالسلق, أو طعام مطبوخ, أو سطل لبن أو حليب, هدايا بسيطة يتحدث فايز وهالة عنها بفرح عارم ويقتسمونها مع أصدقائهم.
عُرِف فايز بثقافته الواسعة المتنوعة، قارئاً نهماً للفكر عموماً والفكر الماركسي على وجه الخصوص، مع تركيز على الفكر الديني ونقده. كما كان متابعاً لأهم المجلات في العالم العربي، ومتابعاً مدققاً للمسلسلات التلفزيونية ومستمعاً جيداً للموسيقى. كان مولعاً بأم كلثوم, في حين كانت هالة مولعة بالشيخ إمام. وأزعمُ أنّ فايز كان من أهم قراء الرواية في سوريا, ولو توفر له الوقت لكان من أهم من كتبوا في النقد الروائي. مع أنه كان مدهشاً في استغلال الوقت, يقرأ في استراحة بين عمليتين جراحيتين ويحمل معه الكتب في السيارة أينما ذهب, ويبدأ صباحه بتصفح الجرائد والمواقع الالكترونية, إلى جانب متابعته المدهشة آخر المستجدات في عالم الطب.
من يعرف هالة عن قرب, يعرف مدى تواضعها, هي الأستاذة المساعدة في كلية الطب, رئيسة شعبة الأمراض العصبية في جامعة تشرين, تنزل إلى السوق وتنتقي حوائجها بنفسه، من الطعام إلى آخر الحوائج. تلقي التحية على الجميع فيردونها بمحبة قلّ نظيرها. قالت لي: "أحب هذه المدينة, فيها أمهر الصناعيين وأطيب الناس". كانت هالة امرأة ذات شخصية نادرة, طبيبة حاسمة وصلبة وفي الوقت نفسه امرأة حنونة أشد الحنان ومتعاطفة بطريقة مغايرة لطريقة جميع النساء اللواتي عرفتهنّ. امرأة قوية ومستقلة بالفعل من دون ادّعاء. تستيقظ في الصباح الباكر كي تعدّ محاضراتها وتعدّ الطعام لأسرتها, وفي أوقات امتحانات ولديها تغلق عيادتها لأنها "أمُّ" في المقام الأول، كما كانت تردد أمامي, لكنها تبقى على اتصال دائم بمرضاها وطلابها, حتى إننا أحصينا لها ذات مرة عدد الاتصالات الواردة في يوم واحد من تلك الأيام، فكان 87 مكالمة.
لم يكن لدى هالة سيارة خاصة شأن كثير من المدرسين ومحدثي النعمة, بل كانت تستقل وسائط النقل العمومي في ذهابها إلى الجامعة, ولا تجد حرجاً في اقتناء ثيابها من متاجر الثياب الأوربية المستعملة. وسوف تدهشك في أناقتها وترتيبها, وحتى في طريقة العلاج المنهجية التي تتبعها.
أسّس فايز عطّاف وثلة من أصدقائه فرعاً لجمعية العاديات في مدينة جبلة. اهتمت هذه الجمعية بالأنشطة الثقافية والآثار, ورعت مهرجاناً دُعي "مهرجان جبلة الثقافي" استضاف خيرة مثقفي ومفكري العالم العربي وشعرائه وموسيقييه, من أمثال جورج قرم وعباس بيضون وقاسم حداد ومحمد علي شمس الدين وعزمي بشارة وسماح إدريس وعبد المنعم رمضان وعبد الله ابراهيم ونصير شما وخالد الهبر, كما دعم كثيراً من الشعراء الشباب والمسرحيين في سوريا.
انتقل فايز وهالة إلى البيت الذي دكّه الزلزال في عام 2006, وهو في المنطقة التي, إذا جاز التعبير, تفصل ديمغرافياً طائفتي المدينة, قريباً من الكورنيش البحري, كأنهما اختارا أن يكونا في القلب من كلّ شيء. لم يكن أثاث بيتهما فخماً, كانا يردّدان على الدوام: ما معنى أن يكون لديك طقم كنبات فخم؟ بماذا ينفع؟ كانت المكتبة هي الشيء الوحيد الفخم في هذا البيت, كتب متناثرة في كل مكان, وفي غرفة كل من ولديهما كتب تخصه وحده, ولوحات جميلة تزين الجدران وصور لهما ولأبنائهما, كان ما يميّز هذا البيت شعورك بالحياة والدفء والأمان.
لم يكن فايز وهالة مقتنعين بالطريقة السائدة لتوزيع الثروة. ولطالما ردّد فايز على مسامعي: "كيف يمكن أن أتقاضى مبالغ ضخمة عن ساعة عمل واحدة في حين أنّ المدرّس أو الصناعيّ المهنيّ يتقاضى أقل مني بعشرة أضعاف عن ساعة العمل نفسها؟" وانطلاقاً من هذه الفكرة التي آمنا بها، هو وزوجته، خصّصا مرتّبات شهرية لعدد كبير من العائلات المحتاجة وطلبة الجامعات من دون أن يعلنا عن ذلك. وكان فايز يصرف مرتبات إضافية للممرضين والمستخدمين في المشفى الخاص الذي يعمل به قائلاً: "إن رواتبهم متدنية جداً, وهذا غير عادل البتة".
لا يستطيع فايز عطّاف النوم إذا تعب مريض له بعد إجراء عملية جراحية. وكثيراً ما أطلق لحيته, حتى إذا ما تجاوز مريضه مرحلة الخطر عاد إلى حلاقة ذقنه. كانا يزوران مرضاهما في البيوت ولا يتقاضيان أيّ نقود لقاء ذلك, على الرغم من أزمة المحروقات التي عانت منها سوريا.
تغلغل فايز في حياة مدينة جبلة, فكان يعرف عائلاتها جميعاً. يعرف أسرارهم وحكاياتهم. كان صديق الجميع, ولطالما قال لي: "سوف أكتب رواية هذه المدينة يوماً ما", لكن الموت غدر بنا قبل أن يغدر به. وتمتع فايز وهالة بقدرتهما على الاحتفاظ بالأصدقاء, فكانا لا يهملان أحداً, بل يواظبان على السؤال عن الجميع وتدبّر الوقت لزيارة أصدقائهما أو الاحتفاء بهم, كما كانا شديدي الارتباط بعائلتيهما, وداعمين كبيرين لأهلهما في شيخوختهم, ولأصدقائهما في محنهم.
لم يستخدم فايز عطّاف ياء المتكلم في حديثه ولو مرة واحدة أمامي, فكان يقول: "أنا ذاهب إلى العيادة أو البيت أو الأرض أو السيارة, أكره ياء المتكلم, أكره فكرة التملك". ومن يعرفه جيداً, يعرف أنه لم يجمع ثروة ولم يهتم بذلك على الإطلاق. وعلى الجانب نفسه، كان فايز وهالة حضاريين بكل ما تحويه هذه الكلمة من معنى, فقد يقاطع فايز شخصاً لمجرد أنه ألقى منديلاً ورقياً في الشارع. كان يردد دوماً: "هذه الشوارع هي بيوتنا أيضاً وصورتنا".
لم يتدخّل فايز وهالة بخيارات ولديهما في الدراسة, فاختارت سارة أن تدرس الأدب الانجليزي وأبدعت فيه, فغدت مدرّسة في الجامعة, أما رام فاختار أن يدرس الطب البشري, ورام وسارة لا يقلّان إنسانية وأخلاقاً عن والديهما.
حين بدأت حوادث ما دعي "الربيع العربي", شهد الشارع الذي يسكنا فيه إطلاق نار كثيف من القناصات المنصوبة على أسطح البنايات, وكثيراً ما قضى فايز وهالة وأولادهما الليل في الحمام والممرات. كان انحياز فايز وهالة واضحاً منذ البداية, "نحن إلى جانب الضحايا من أي طرف كانوا, فجميعهم سوريون".
حين وقعت تفجيرات مدينة جبلة في أيار عام 2016, كانت انفجارات متزامنة في كراج الانطلاق وفي مشفى جبلة الحكومي وقرب المشفى الخاص الذي يعمل فيه فايز. أصيب كثير من الناس بالهلع وهم يتساءلون ما مصير الدكتور فايز, هل هو بخير؟ سوف يخبرني فيما بعد عن الأشلاء في الممرات والناس التي قضت حرقاً في هذا التفجير, وسوف يتابع مرضاه في مشافي أخرى ومدن أخرى, ويهتم بهم بعد العمليات بأشهر مادياً ونفسياً بصحبة زوجته.
كانت عيادتهما من الشواهد التي يمكنك أن تسبر المزاج العام للمدينة من خلالها. في هاتين العيادتين سوف تجد سكان الريف والمدينة، ومرضى ومراجعين من جميع الطبقات والمهن والطوائف. ولسوف يخبرني فايز كيف تغير الناس منذ 2011 حتى الآن, وكيف بدأت تلك الحواجز التي انتصبت بين الطوائف تتحلل وتذوب أمام أزمات الفقر والوقود والمواصلات, وكيف عاد الناس يتشاركون الهموم ذاتها.
تعاون فايز عطّاف وهالة سعيد منذ عام 2011 وحتى لحظة رحيلهما مع "جمعية أبناء المحبة" التي كانت تديرها الراحلة مها جديد. أنقذوا هناك كثيراً من الضحايا, ولم يتقاضيا أيّ أجر لقاء ذلك, بل إنهما, في كثير من الأحيان، كانا يدفعان.
في آخر حديث مطوَّل بيننا, أخبرني فايز إنه وهالة زارا مريضة أرمنية لهما في كسب, ولم يكن هناك سوى هذه العائلة التي تقطن قرب المقبرة الأرمنية, قال لي: "لا شك أنهم يحرسون قبور موتاهم, ومن دون وعي يؤكدون انتماءهم إلى هذا المكان. لن أغادر هذه البلاد, هذه البلاد لي ولأصدقائي وأولادي, سوف أحرس مقابرها, لن أترك هذه البلاد لأحد, إذا ما غادرنا جميعاً من سيبقى؟"
لم يرث فايز وهالة من والديهما سوى الأخلاق وكرم النفس والسمعة الحسنة ولن يورثا ولديهما غير ذلك الذكر الطيب والأخلاق الرائعة.
كان فايز قد عاد لقراءة الكتاب المقدس منذ أشهر قليلة. ولطالما كان معجباً بالمسيح الذي افتدى البشرية. لا أعلم الآن، وقد رحل، لِمَ تتردد في رأسي أغنية "أنا الأم الحزينة وما من يعزيها", فتحضر صورة فايز وهالة في رأسي "فليكن موت ابنك حياة لطالبيها".
يرحل فايز وهالة, فأتذكر أنامل فايز التي خاطت جروح المدينة في السابق ووحدّتها في رحيله, ضحكة هالة وردّها على كل من يطلب منها شيئاً: "من عيوني". وأرى صور الذين حاولوا نزع الأنقاض عن بيتهم من جميع طوائف المدينة، من الريف والمدينة, بيتهما الذي ذهب لكنه غدا جسراً يعبر عليه الأهلون بعضهم تجاه بعض. عشرون ثانية كانت تلك التي خطفتهما, لكن البشرية تحتاج إلى مئة عام كي تنجب من يدانيهما.
إضافة تعليق جديد