لماذا عاد التصعيد بين أنقرة ودمشق؟
في كلمته أمام القمة العربية، قال الرئيس السوري بشار الأسد في معرض تقييمه للأخطار التي تحيق بالأمة العربية: “خطر الفكر العثماني التوسعي المطعم بفكر إخواني منحرف”.. كان التصريح مفاجئاً واحتلَّ العناوين، لأنه جاء من خارج سياق اللقاءات السورية التركية المتكررة التي احتضنتها موسكو وتوجها لقاء وزيري خارجية البلدين.
في اليوم نفسه، كان الرئيس التركي رجب طيب إردوغان يصرح في لقاء تلفزيوني أن بلاده ستحتفظ بقوات في شمال سوريا، وذلك في إطار سعيها لحماية نفسها من الحركات الإرهابية، والمقصود هنا المنظمات العسكرية والسياسية الكردية، لأن المنظمات الموسومة بالإرهاب دولياً، وعلى رأسها جبهة النصرة، تحظى بدعم واحتضان تركي.
تعددت السيناريوهات التي حاولت تفسير هذا التبدل في مواقف البلدين. البعض فسر موقف إردوغان بأنه مرتبط بالانتخابات الرئاسية التي يواجه في دورها الثاني المرشح كمال كليجدار أوغلو المتحالف مع حزب الشعوب الديمقراطية الكردي.
لذلك، لجأ إردوغان إلى رفع وتيرة الخطاب ضد الكرد في محاولة لحث اليمين القومي التركي على الإقبال على صناديق الاقتراع، وخصوصاً أن التوقعات تشير إلى احتمال فتور حماس أنصار اليمين القومي بعد نتائج الانتخابات البرلمانية التي ضمنت سيطرة التحالف الحاكم على أغلبية برلمانية مريحة.
موقف الرئيس الأسد ينسجم مع ما سبق أن صرح به أكثر من مرة خلال زيارته الأخيرة إلى موسكو عن علاقة بلاده مع تركيا. أكد الرئيس الأسد حينها أن سوريا جاهزة لتطوير العلاقات والذهاب بها إلى أبعد نقطة ممكنة في حال كان الطرف التركي جدياً ومستعداً لحل المشكلات العالقة. أما إذا كان الأمر يتعلق بمناورات انتخابية، فإن سوريا غير معنية بإضاعة الوقت في محادثات غير مجدية.
لذلك، يمكن تفسير موقف الأسد المتشدد تجاه تركيا بأنه رد سوري على تغيير لغة خطاب الرئيس إردوغان، وهو رد يتضمن التأكيد على الرغبة السورية في العمل الجاد للوصول إلى حلول للمشكلات المعقدة بين البلدين.
قد يتعلق الأمر بما يتجاوز العلاقات الثنائية السورية – التركية. شهدت القمة العربية حدثاً لا يقل إثارة عن حضور الرئيس السوري، وهو حضور الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلنسكي الذي ألقى كلمة في القمة. كان حضور زيلنسكي رسالة واضحة من الولايات المتحدة لجميع الذين راهنوا على ابتعاد السعودية عن المعسكر الأميركي.
تقول هذه الرسالة إن اختلاف الموقف السياسي في قضية إنتاج النفط محصور في الزاوية الاقتصادية الضيقة، وإن دعوة الرئيس الأسد إلى القمة مرتبطة بالظروف الاقتصادية نفسها، لكن على المستوى الإقليمي. أما التحالف السياسي التاريخي بين الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية، فهو متين ومتماسك.
في السياق نفسه، يمكن أن تكون تصريحات الرئيس إردوغان عن بقاء قواته في شمال سوريا مرتبطة بضغوط أميركية أو على الأقل بمحاولة تحييد الولايات المتحدة وإعلامها خلال الفترة المتبقية حتى الجولة الثانية من الانتخابات.
ومن المعلوم للجميع أن الدول الغربية بقيادة الولايات المتحدة شنت حملة إعلامية قاسية على الرئيس إردوغان خلال الحملة الانتخابية، متهمة إياه بأنه ديكتاتور، وبأنه يضر بمصالح تركيا وعلاقاتها مع حلفائها.
هنا، لا يمكن إلا ملاحظة تغير لهجة الإعلام الغربي في الحديث عن إردوغان، فمعظم وسائل الإعلام الغربية يتحدث اليوم عن فوزه الحتمي، وعن إضاعة المعارضة التركية الفرصة لإحداث التغيير.
يمكن هنا أن نقرأ خطاب الرئيس الأسد على أنه رد من المحور السوري – الروسي على الضغوط الأميركية، فقد افتتح الرئيس الأسد كلمته بالهجوم على الغرب عندما تحدث عن: “فرصة تبدل الوضع في العالم نتيجة هيمنة الغرب المجرد من المبادئ والأخلاق والأصدقاء والشركاء”، وأكد ضرورة “إعادة التموضع” بما يتفق مع مصالح الأمة بعيداً من التدخلات الخارجية، والمقصود طبعاً الولايات المتحدة والدول الغربية.
وإذا كان إردوغان “يغازل” الغرب والولايات المتحدة من خلال الحديث عن بقاء القوات التركية في سوريا، فإن الأسد يؤكد أن سوريا ماضية في التمسك بالثوابت التي حددتها للحوار مع أي طرف، المتمثلة بانسحاب القوات الأجنبية ووقف دعم التنظيمات الإرهابية.
يمكن أيضاً الحديث عن إظهار سوريا استقلالية خطابها السياسي من دون الإخلال بوحدة المحور الذي تشكل ضلعاً مهماً فيه؛ فمن الواضح أن روسيا تدعم بقاء الرئيس إردوغان في الحكم، وترى فيه طرفاً مهماً في معادلة وسط أوروبا، وتدرك أن تغيير الموقف التركي من روسيا والالتزام بالعقوبات الغربية سوف يؤدي إلى تفاقم الأزمة الأوكرانية وتوسيع نطاقها إلى درجة لا ترغب فيها روسيا نفسها.
رغم ذلك، أظهرت سوريا موقفاً حاداً من تركيا بصرف النظر عن شخصية الرئيس؛ فهي لا ترى في طروحات كمال كليجدار أوغلو حلاً لأزمة العلاقات بين البلدين، بل لعلها تفاقم الأزمة بانحيازه إلى الموقف الغربي في الأزمة الأوكرانية، وحديثه عن إعادة اللاجئين السوريين خلال 6 أشهر إلى سنتين، ما يعني عملياً طرد هؤلاء اللاجئين والتسبب بأزمة اقتصادية – إنسانية وإلقائها على عاتق الدولة السورية المنهكة أصلاً.
من المبكر جداً الحديث عن وصول التصعيد بين دمشق وأنقرة حد الأزمة، وخصوصاً أن الرئيس إردوغان أعلن التزامه العلاقات الجيدة مع روسيا، وعدم موافقته على فرض عقوبات عليها، لكن الدلائل تشير إلى أن سوريا المدعومة عربياً بعد قمة جدة لن تقبل بحلول وسط أو تسويف تركي لأهداف داخلية تركية.
بعد 28 أيار/مايو، ستنحو العلاقات السورية – التركية منحى أكثر جدية وحدة، سواء عبر اتفاق شامل يضع حلولاً واضحة لجميع المشكلات ضمن إطار زمني متفق عليه أو مواجهة على الأرض في إطار جهود الدولة السورية لتحرير كامل الأراضي السورية.
الميادين
إضافة تعليق جديد