سعاد جروس :«السر والشخابيط واللخابيط»
الجمل ـ سعاد جروس : لا نعرف ما الذي أعمى بصيرة «عربسات» لتقوم بتهديد القنوات العربية المتعاقدة معها, بوقف بثها اذا استمرت بتقديم برامج «سحر وشعوذة», علماً أنها قنوات هي بالأساس متخصصة بالغيبيات المغيبة للعقل, واكبت ولوج العرب في الألف الثالثة بعد الميلاد, تلبية لحاجات التطوير والتحديث والنهوض الحضاري ليس لمعرفة ما يجري في العالم, وإنما لفهم ما يجري على أرضهم وحولهم وداخل منازلهم, بعد أن ضربت الآلة الحربية العالمية عميقاً في بطن الأمة وفتتتها تفتيتاً وذرتها أشلاء للريح تعبث بها ذات اليمن وذات اليسار, فلا يدري أهلها إلى أي مآل سيؤولون؟
جاءت هذه القنوات رحمة من غياهب سياسات التفريغ والتسخيف التي انتهجتها الأنظمة العربية على مدى عدة أجيال, لتكشف وتملأ الخواء الفكري الذي يصيب مجتمعات خاب رجاؤها بالتقدم والتقدمية, ووجدت نفسها تحث الخطى إلى الخلف لا تلوي على شيء, ترجو السحرة والمشعوذين التوسط بينهم وبين الجان لكشف المستور وفك المربوط. في زمن يفكر فيه مواطنو بوش من العلماء باحتلال المريخ بعد انتهاء جيوشهم من احتلال الأرض, يتسمر شبابنا ونساؤنا أمام الشاشة ليسمعوا ويخشعوا لما يخبرهم به شيخ روحاني بما يهمس به «السر» في أذنه. والسر اسم الجني الذي يحادثه سراً ويكشف المستقبل, مذللاً المجهول ليأتي بالمأمول ويجمع شمل «العين بنت الفاء » على «الراء ابن الميم» بوصفة سحرية لا تخيب, فالشيخ استحضر «السر» على الهواء مباشرة وبما لا يدع مجالاً للشك والتشكيك, فأتاه «السر» يختال ضاحكاً غير مرئي يبلغ بوجود بشارة حلوة للمتصلة الصابرة «العين» وقال انها تحتاج إلى وكيل طيار, سيتبرع الشيخ بتطييره من غرفته الخاصة, كما سيمن على مشاهديه بجائزة يفوز بها المتصل المميز وهي حجاب مكتوب بالمسك والزعفران, يخلص من الحمى والسخونة وكل وجع بالعروق والأطراف والرأس ويحل كل المشكلات!!
ماذا يوجد بعد أفضل من قنوات كهذه تبيع الأمل للبؤساء خائبي الرجاء؟ ترى لو تم فعلاً وقف بث هذه الفضائيات, هل تضمن حكوماتنا العربية الحكيمة إيجاد بدائل لإحياء الأمل, وهي العاجزة عن حل مشكلات باتت بفضل «حكمتها» قائمة ودائمة ومستديمة في واقع لامنطقي تعيشه مجتمعاتنا العربية, للأسف لم يعد يفيد فيه إلا الشعوذة وتجارة الأوهام,على الأقل كمخدر, إن لم ينفع لا يضر؟
وعلينا أن لا نتعجب من الإقبال على تلك القنوات, والاستجابة لتجريب الوصفات العجائبية المدهشة. إذا لم يفعلوا ذلك ماذا سيفعلون؟ هل يستسلمون لليأس؟ كل ما حولنا يدفع إلى الجنون, وحسب القول الدارج «إذا جن أهلك,عقلك لا ينفعك». لذلك حين يتهافت مواطنون سوريون لرؤية شجرة عملاقة كبرت بين ليلة وضحاها في إحدى المقابر, علينا ألا نستغرب, فهذا ما جناه علي أبي وما جنيت على أحد.
سوء التعليم يؤدي إلى قلة الوعي التي ترد الظواهر الطبيعية إلى أسباب غيبية, فنبتة الآغاف الشوكية التي ظهرت في أكثر من مقبرة وحديقة في سوريا, هذا العام بسبب حالة طقس هيأت ظروف النمو المفاجئ لهذه النبتة بما تجاوز سبعة أمتار, جعل الناس يظنون أن تحتها يرقد أولياء صالحون قادرون على فعل المعجزات, ومن قلة بشائر الخير صرنا نرجوها من المقابر!! لا تلوموهم, معهم حق, فحكومات كهذه وسياسات تعليمية كهذه تدفع إلى الاعتقاد بأن الحلول لكل المشاكل كامنة تحت الأرض أو وراء الغيم, حيث لا حكومة ولا هيئة للتخطيط ولا أخبار تعلمنا بما لا نعلم ولا نفهم. على سبيل المثال, ما نشر عن نتائج دراسات الفقر التي أنجزتها هيئة تخطيط الدولة بالتعاون مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي والمكتب المركزي للإحصاء كتراجع مؤشرات عدالة توزيع الدخل من العام 1997 وحتى 2004 من 34% إلى 37% وهذا التراجع هو مؤشر سلبي, حيث قالت مسؤولة في هذا البرنامج إنه على الرغم من تناقص عدد الفقراء إلا أن مؤشر عدالة التوزيع هو زيادة الفجوة بين إنفاق الفقراء والأغنياء!!
فقسماً بشجرة الآغاف والولي الراقد تحتها, لم نفهم شيئاً, كيف يتناقص الفقراء وتتراجع مؤشرات عدالة توزيع الدخل؟ ترى ألا يستحق الأمر الاتصال مع الشيخ الروحاني ليتوسط لنا عند «السر» لتفسير ما لا يفسر من أحاجي حكومتنا, والتي وردنا منها أيضا تباهي وزير الاتصالات والتقانة دام عزه خلال المؤتمر الوطني الأول للحكومة الإلكترونية في سوريا بعدد المراحل المتطورة التي قطعتها سوريا في مجال التقانة والذي شهد «تطوراً مذهلاً على مستوى العالم»!! في الوقت الذي يقر فيه بغياب البنية التحية من خلال إشارته في الكلمة ذاتها إلى ضرورة وجودها قبل التفكير بأي حكومة إلكترونية!! وفي الوقت الذي يفكر فيه بابتكار طريقة لتقييد المواقع الالكترونية وربطها بوزارته, على الرغم من استحالة ذلك علمياً وعالمياًً!! لكن من يدري, ربما يستعين بحجاب المسك والزعفران للوصول إلى الطريقة المنشودة في جعل المستخدمين السوريين للانترنت رهن قراراته. وبدورنا كمستخدمين لن نتخلف عن الاستعانة بالـ«السر» لكشف سر «التطور المذهل» في تأخر وصول كل رسائل «الايميل» في مزود الخدمة الوطني لأيام عدة أحياناً, ما عدا إعلانات الفياغرا التي لا تنقطع ولا تتأخر!!
لذا وبكل فخر, نحن بأمس الحاجة إلى فضائيات الشعوذة. وبالتالي على العربسات أن تشجع البدع والخزعبلات لتُعين وزراء الاتصالات والتقانة والتخطيط والتنمية بالتنقيط والتشحيط ليس في بلادنا وحسب, بل في جميع البلاد العربية على إنجاز خططهم الخمسية والعشرية والألفية... على وقع أجمل أغاني الساعة «شخبط شخابيط لخبط لخابيط مسك الألوان ورسم عالحيط».
بالاتفاق مع الكفاح العربي
إضافة تعليق جديد