سوريا صينية.. في صياغات شرق أوسطية جديدة
بلغ التزاحم الجيوسياسي على أشده بين الصين وأميركا ، إذ أن واشنطن ردّت على رعاية بكين التطبيع السعودي-الإيراني، فإذا بالولايات المتحدة تُقرّر الإنخراط في عملية التقريب بين السعودية وإسرائيل.
و إذا بالصين تفتح ذراعيها للرئيس السوري بشار الأسد، في رسالة تحدٍ لإدارة الرئيس الأميركي جو بايدن التي قرّرت أن تستكمل “اتفاقات ابراهام” التي صاغها دونالد ترامب، مدعومة بممر تجاري “كبير” يمتد من الهند إلى الخليج وإسرائيل فاليونان وباقي أوروبا، أما الصين فلا تبدأ من فراغ ، يمكنها البناء على انجاز التطبيع السعودي-الإيراني والشراكات التجارية الواسعة التي أبرمتها نهاية العام الماضي مع دول الخليج في قمم الرياض، ولديها “طريق الحرير الجديدة” التي تُشكّل إحدى سياقات “مبادرة الحزام والطريق” الأوسع نطاقاً باستثمار يبلغ تريليون دولار.
و استخدمت الصين حق النقض (“الفيتو”) ثماني مرات في مجلس الأمن لإسقاط مشاريع قرارات ضد دمشق. لكن برغم ذلك، حاذرت الشركات الصينية الإستثمار في سوريا بسبب العقوبات الأميركية. الآن، ثمة نقطة تحول في العلاقات الصينية-السورية.
لا تستعجل واشنطن وطهران حرق المراحل. وهما في مرحلة اختبار الثقة، مع بقاء الاحتمالات مفتوحة على التصعيد وعلى المرونة في مناطق الإشتباك بين الجانبين، من لبنان إلى سوريا والعراق واليمن “الشراكة الاستراتيجية” التي وردت في الاعلان المشترك عقب اللقاء بين الرئيسين شي جين بينغ وبشار الأسد في مدينة هانغجو، قد تحمل أبعاداً سياسية أكثر منها تجارية. في عام 2004 كانت الزيارة الأولى للرئيس السوري بشار الأسد لبكين. عامذاك كانت دمشق تتعرض لضغوط كبيرة من إدارة الرئيس جورج دبليو بوش الذي كان غزا العراق في عام 2003.
الزيارة الحالية، يحيط بها “قانون قيصر” الذي هوى بالإقتصاد السوري إلى الحضيض، ودفع إلى انبعاث حركات احتجاج جديدة، ولو بقيت مقتصرة على السويداء بشكل أساسي. فهل تغامر الصين بمد اليد لانتشال سوريا، وهي تُدرك تماماً أن سيف العقوبات الأميركي سيطاول أي شركة صينية تُقرّر الدخول إلى الأراضي السورية؟ هذا يتوقف إلى حد كبير، على نهج التحدي الذي يتبناه الرئيس شي جين بينغ. فالعقوبات الأميركية لم تحل دون استيراد الصين للنفط الإيراني والتوقيع على معاهدة استراتيجية مع طهران لمدة 25 عاماً.
ويتاع كاتب المقالة ان وزارة الخزانة الأميركية ترد على ذلك بعقوبات منتظمة على الشركات الصينية التي تتعامل مع إيران. وروسيا، هي الأخرى خاضعة لأقسى عقوبات أميركية على الإطلاق. لكن ذلك لم يمنع الصين من توسيع علاقاتها التجارية مع موسكو. والأسواق الصينية هي بديل الأسواق الأوروبية لصادرات روسيا من الطاقة. والرئيس فلاديمير بوتين يحزم حقائبه استعداداً لزيارة بكين الشهر المقبل، بعدما كان “صديقه القديم” شي جين بينغ زار موسكو في آذار/مارس الماضي، متجاهلاً كل التحذيرات الأميركية في ما يمكن أن تعنيه هذه الزيارة في زمن الحرب الروسية-الأوكرانية. المثالان الإيراني والروسي، يشيران إلى أن العقوبات الأميركية قد لا تمنع الصين من المجازفة في أن تكون شريكاً أساسياً في إعادة إعمار سوريا. وورد في الإعلان المشترك أن بكين مستعدة لدعم سوريا “في جهود إعادة الإعمار”. وهذا مؤشر إلى وجود إرادة سياسية في بكين للمضي في توسيع نفوذها في الشرق الأوسط، وإصراراً على الاضطلاع بدور سياسي موازٍ لدورها الإقتصادي المتصاعد.
وهذا ما يفهم من استقبال الصين للأسد حالياً، وقبلها استقبالها الرئيس الإيراني ابراهيم رئيسي في شباط/فبراير، ومن ثم استضافتها الرئيس الفلسطيني محمود عباس في حزيران/يونيو الماضي، وتوجيه دعوة لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. كيف تتعامل أميركا مع الاندفاعة الصينية نحو الشرق الأوسط؟
ليس صحيحاً أن الولايات المتحدة غادرت المنطقة نهائياً بعد انعدام حاجتها تقريباً إلى نفط الخليج، وانتقال التركيز على مواجهة الصعود الصيني في المحيطين الهادىء والهندي. لكن بعد اتفاق بكين للتطبيع بين السعودية وإيران، عاودت واشنطن تعزيز قواتها بحراً وجواً وهي تتشبث بوجودها في العراق وسوريا، وتخطط لحراسة الملاحة التجارية في مضيق هرمز. تعزيز الوجود العسكري الأميركي ترافق مع اطلاق المساعي الأميركية للتطبيع بين السعودية واسرائيل. كما دبت الحرارة فجأة في العلاقات بين جو بايدن وبنيامين نتنياهو، وخفّف الرئيس الأميركي كثيراً من اعتراضاته على تعديلات رئيس الوزراء الإسرائيلي القضائية، وها هو يعطي الأولوية الآن “لدمج” الدولة العبرية بالمنطقة. ويدرس البيت الأبيض بجدية التوقيع على اتفاقين دفاعيين مع كل من السعودية وإسرائيل، ويعمل على تذليل الاعتراضات من داخل الكونغرس ومن المتشددين في إسرائيل على تزويد الرياض بمفاعل نووي للاستخدام السلمي. تجدر الاشارة هنا إلى أن الصين كانت عرضت الشهر الماضي على السعودية تزويدها بمفاعل نووي، ومن دون الشروط المسبقة التي يرفقها الأميركيون لتلبية الطلب السعودي في هذا المجال. حضور الصين الإقتصادي، يوفر لها القوة السياسية اللازمة لتعزيز نفوذها وتعويض بعضٍ من الغياب الروسي. وعلاوة على ذلك، يفتح الاحتضان الصيني للدول المعاقبة أميركياً، ومن بينها سوريا، شكلاً جديداً من أشكال الصراع بين أكبر قوتين اقتصاديتين في العالم محاصرة النفوذ الصيني الناشىء في الشرق الأوسط، تحمل الولايات المتحدة على عدم قطع الأمل بالتوصل إلى تفاهم نووي مع إيران، وإلا كيف يمكن تفسير اتفاق تبادل السجناء والإفراج عن ستة مليارات دولار من الودائع الإيرانية المجمدة في كوريا الجنوبية، وتبطيء طهران عملية تخصيب اليورانيوم بنسبة نقاء 60 في المئة، فضلاً عن الرفض الأميركي للالحاح الإسرائيلي باللجوء إلى القوة لمنع طهران من حيازة سلاح نووي. إقرأ على موقع 180 ما بعد “إنتصار” طالبان.. داعش يتمسك بقتال “العدو البعيد” والوسطاء أنفسهم في ملف تبادل السجناء والإفراج الجزئي عن الودائع، لا ينفون بالمرة احتمال التوصل إلى تفاهم نووي بين أميركا وإيران. وكما بات معلوماً فمن شأن هذه الخطوة أن تفتح آفاقاً للتفاهم على حل الكثير من أزمات المنطقة الساخنة.
وهنا يفرض سؤال نفسه: هل كانت زيارة الوفد الحوثي للرياض بعد اتفاق تبادل السجناء محض صدفة أم أن الاتفاق ساهم في الدفع نحو تنشيط الاتصالات المباشرة بين الرياض والحوثيين تمهيداً للولوج إلى جوهر المسائل المختلف عليها بين الجانبين؟ وهل يمكن أن يؤدي الحوار بين المملكة العربية السعودية والحوثيين إلى نسخة لبنانية (حزب الله ـ المملكة)؟ لا تستعجل واشنطن وطهران حرق المراحل. وهما في مرحلة اختبار الثقة، مع بقاء الاحتمالات مفتوحة على التصعيد وعلى المرونة في مناطق الإشتباك بين الجانبين، من لبنان إلى سوريا والعراق واليمن. يحدث ذلك تحت عنوان التنافس الأميركي-الصيني على الشرق الأوسط، وإن كانت الصين غير حاضرة عسكرياً في المنطقة، فإن حضورها الإقتصادي، يوفر لها القوة السياسية اللازمة لتعزيز نفوذها وتعويض بعضٍ من الغياب الروسي. وعلاوة على ذلك، يفتح الاحتضان الصيني للدول المعاقبة أميركياً، ومن بينها سوريا، شكلاً جديداً من أشكال الصراع بين أكبر قوتين اقتصاديتين في العالم.
180 بوست
إضافة تعليق جديد