البصرة بعد البريطانيين
مع انسحاب البريطانيين الشامل من المحافظات التي كانوا يتولون المسؤولية الامنية فيها في جنوب العراق، للتمركز في قاعدة عسكرية قرب البصرة، تتجه الأنظار الان صوب مرحلة ما بعد الاحتلال، وخاصة في محافظة البصرة التي تعقب العاصمة بغداد في أهميتها الاستراتيجية والامنية. وفي مشهد يتشح بفوضى أمنية محبطة، وبتناحر عنيف على النفوذ، وبتغلغل إيراني، تناولت صحيفة «كريستيان ساينس مونيتور» الاميركية مستقبل البصرة، قبل يومين، متوقعة الاسوأ لهذه المحافظة الغنية بالسكان والنفط.
انطلاقا من انتشار النفوذ الايراني في البصرة، أنذر تقرير الصحيفة الاميركية بأن ما سيحل بهذه المحافظة هو صورة مصغرة لما سيلحق بالعراق ككل، بعد أي انسحاب أميركي مماثل. وأشار إلى نزاع عنيف على النفوذ يهيمن على المحافظة بين الاحزاب والميليشيات الشيعية، والعصابات الاجرامية. حتى أن الحديث يسري في المدينة، وفق تقرير الصحيفة، عن خلايا نائمة لكن متأهبة ومدربة من إيران.
وتدل هذه الحالة، وفق الصحيفة، على أن العنف في العراق ليس طائفياً، أو طائفياً فقط، أو ناجماً عن نشاطات «المتمردين»، بل أنه أيضاً «وليد منافسة سياسية وقبلية راسخة، وتهافت عنيف على السلطة».
وفي جولة في شوارع المدينة، لحظ مراسل «كريستيان ساينس مونيتور» أن الملصقات المناصرة لرجال ميليشيات «جيش المهدي» التابعة للتيار الصدري، والذين استشهدوا وهم يقاتلون الجنود البريطانيين، تملأ الجدران. حتى أن ثمة أحياء تحمل أسماء بعضهم. وكان آلاف المسلحين طافوا في وسط المدينة ملوحين بملصقات مقتدى الصدر، في ما أسموه «تظاهرة النصر» في الثامن من أيلول الحالي بعد خروج القوات البريطانية من المدينة.
وصنفت الصحيفة التيار الصدري بأنه القوة الاعظم بين الفصائل الشيعية المتناحرة في البصرة، مشيرة إلى أن تعداد مقاتليه في البصرة وحدها يصل إلى 17 ألف مقاتل، يتوزعون على 40 وحدة عسكرية، ويأتمرون بقائد محلي هو منتصر المالكي، ويسيطرون على العديد من وحدات الشرطة العراقية المؤلفة من 14.500 شرطي في البصرة، وعلى مستشفيات المحافظة، والمدارس والجامعات والمرافئ والمنتجات النفطية وشركات توزيع الكهرباء، وفق ما أكد باحث عراقي للصحيفة.
ونقلت الصحيفة عن قائد في «جيش المهدي» في البصرة تأكيده أن ميليشياته تملك صواريخ بعيدة المدى تتجاوز المسافة الفاصلة بين قواعدها في البصرة والقاعدة الجوية حيث تتمركز القوات البريطانية المنسحبة من البصرة، خارج المحافظة، إضافة إلى مخزون كبير من الاسلحة التي تعود إلى النظام السابق «والتي ستكفينا من الان وإلى الابد». لكن «جيش المهدي» كان تعهد للحكومة العراقية بعدم التعرض للقوات البريطانية أثناء انسحابها، بشرط الافراج عن 26 معتقلاً من مقاتليه.
وقال باحث عراقي من أهالي البصرة للصحيفة إن العلاقة مع إيران، التي يتهم الاميركيون «جيش المهدي» بها، هي في الواقع موجودة، وتشمل التسليح والتموين الغذائي لـ«مجموعات خاصة» في «جيش المهدي»، والذي يعاد بيعه مرات في الاسواق العراقية من أجل شراء الاسلحة من أسواق السلاح الخاصة بـ»جيش المهدي».
وقال الباحث الذي يعيش في البصرة إن «التيار (الصدري) هو في الاساس دولة داخل دولة في البصرة، دولة قادرة على مواجهة الاحتلال»، مضيفاً «لا أحد يجرؤ على قول كلمة، ولا أحد يعرف فعلاً من يسيطر على التيار».
فيما ينكر التيار الصدري ارتباطه بإيران، فإن المجلس الاعلى الاسلامي ولد في ايران إبان العهد الصدامي، وتلقى جناحه العسكري «فيلق بدر» التدريب من قبل إيرانيين. وقد انتشر مقاتلو «فيلق بدر» بين قوات الشرطة العراقية، وفقاً للتعيينات التي أقرتها وزارة الداخلية العراقية بعد الغزو، وتولوا مناصب رفيعة في مناطق وسط وجنوب العراق.
وفي البصرة، يسيطر «البدريون» على جميع المنافذ العراقية ـ الايرانية، إضافة إلى جهاز الاستخبارات التابع للشرطة. وقد شهدت المحافظات الجنوبية التي سلمتها القوات البريطانية في وقت سابق إلى السلطات العراقية، مثل المثنى وميسان وذي قار، نزاعات عنيفة بين قوات «جيش المهدي» من جهة وقوات الامن العراقية ـ البدرية من جهة أخرى. وقتل محافظان «بدريان» خلال الشهر الماضي، هما محمد الحسني محافظ المثنى، وجليل حمزة محافظ الديوانية، وسط اتهامات غير رسمية لـ»جيش المهدي».
ونقلت «كريتسيان ساينس مونيتور» عن صحافي عراقي من أهالي البصرة توقعه بأن «تزداد الاغتيالات الثأرية» في مدينته، مضيفاً أن 300 عنصر على الاقل من «فيلق بدر» والاجنحة الاخرى في «المجلس الاعلى الاسلامي» قد تم اغتيالهم منذ مطلع العام الحالي في البصرة وحدها.
إضافة إلى «جيش المهدي» و»فيلق بدر»، أشارت الصحيفة إلى وجود فصائل مسلحة أخرى في البصرة، مثل حزب «ثأر الله» الذي يقول أهالي البصرة إنه إيراني، فيما يصفه أحد صحافييها بأنه «قنبلة موقوتة».
ويتزعم هذا الحزب الضابط العراقي السابق يوسف الموسوي، الذي التقت الصحيفة به، وأوضح لها أن جذور جماعته تعود إلى العام ,1995 وأنها قادت عمليات ضد النظام السابق من قواعد لها في مستنقعات ممتدة على الحدود مع إيران. وأنكر الموسوي وجود أي دعم إيراني لحزبه، معرباً في الوقت عينه عن تأثره بالمرشد الاعلى الإيراني آية الله علي خامنئي، وعن رغبته بتأسيس «ولاية فقيه» في العراق على غرار التجربة الإيرانية، وعن إصراره على مقاومة الاحتلال في جميع أرجاء العراق.
وأنكر الموسوي أيضاً اتهامات خصومه بأنه يتلقى التمويل من خدمات أمنية يقدمها مقاتلوه للتجار الاثرياء في البصرة، مؤكداً أن هذه الاموال «هبات من أعضاء الحزب».
وقد اختار الموسوي أن يتحالف مع ما يعرف في البصرة بـ»البيت الخماسي»، الذي يضم «المجلس الاعلى الاسلامي» و«فيلق بدر»، الذي تحول اسمه مؤخراً إلى «منظمة بدر»، و«شهيد المحراب»، و«حركة سيد الشهداء»، و«حزب الله العراقي». وجميع هؤلاء يرغبون بعزل محافظ البصرة: محمد الوائلي.
ويتهم الوائلي، العضو في حزب «الفضيلة»، بإساءة إدارة الاملاك العامة، والفساد، وباستخدام 15 ألف عنصر من جهاز حماية المنشآت النفطية، الذي يهيمن عليه حزبه في البصرة والمحافظات المجاورة، من أجل سرقة النفط الخام.
ويقول الوائلي إن إيران وحلفاءها في «البيت الخماسي» يرغبون بعزله لأنه حاول التصدي للنفوذ الإيراني، عبر معارضة خطة كانت تهدف إلى ضم البصرة إلى منطقة تشمل تسع محافظات، لتوصيفها «منطقة صديقة لإيران». ونقلت الصحيفة عن الوائلي، الذي يزور بانتظام دول الخليج العربي في رحلات ترويج للاستثمار في العراق، قوله «تنبهت الدول العربية إلى أهدافي الوطنية، ودعمتني».
وأشارت الصحيفة إلى أن الوائلي نفسه حمل السلاح للدفاع عن نفسه، واصفة باسهاب عتاد عناصر حمايته، ولباسهم المدني.
ونقلت الصحيفة عن عضو مجلس المحافظة عن «حركة سيد الشهداء» قاسم محمد، قوله «الايرانيون متلهفون للعمل معنا، فيما العرب غائبون ولا ينفكون يصنفوننا على أننا امتداد لإيران. لا حقيقة في ذلك».
كل هذه التعقيدات تواجه ثاني أكبر المدن العراقية، والتي شهدت الانسحاب الشامل لثاني أهم دولة من دول التحالف المحتلة للعراق، ليس لمجرد كونها محافظة استراتيجية فحسب، بل لأنها، خاصة، انها من خلال صادرات النفط عبرها توفر 90 في المئة من مداخيل بغداد.
وتشهد البصرة أعمال عنف لا يمكن التغاضي عنها في وضح النهار، ما يشير بأصابع الاتهام إلى فساد في جهاز الشرطة في المحافظة. حتى أن الصحيفة نقلت عن طبيب في البصرة أن مسؤولاً في المحافظة نصح أطباءها بتوظيف حراس أمن خاصين بهم، بعد تظاهر هؤلاء لاغتيال زميلين لهما. كما أشار الطبيب إلى مؤشرات على تورط عناصر من الشرطة في عمليات اختطاف.
بدوره، قال المحلل في «مركز الدراسات الدفاعية» في بريطانيا، مارتن نافياس، إن البريطانيين «سمحوا لمختلف الجماعات المتنافسة بإحكام هيمنتها في البصرة، فيما كانت السيطرة البريطانية ضعيفة وهامشية للغاية».
المصدر: السفير (نقلا عن «كريستيان ساينس مونيتور»)
إضافة تعليق جديد