محمد منصور يمتدح الملا ويعطيه الحق الحصري بتسويق دمشق دراميا
تفاعلت قضية مسلسلات البيئة الدمشقية التراثية في موسم رمضان الحالي... على نحو غريب ويدعو للدهشة. فبعد أن كان المخرج بسام الملا (متعهد) هذه البيئة في مسلسلاته الناجحة والذائعة الصيت جماهيرياً والتي كان آخرها (باب الحارة) بجزأين، عرض الأول منهما في موسم رمضان الماضي، والثاني يعرض هذا الموسم... وبعد أن كانت طريقة بسام الملا المتقنة في تقديم وتقديس الماضي... مثيرة لسخرية بعض زملائه المخرجين وانتقادهم له بأنه يقدم البيئة معقمّة، وبطريقة سياحية ليس فيها أي فكر اجتماعي حقيقي... برز في الآونة الأخيرة مجموعة مسلسلات كان همها استلهام هذه البيئة بالصيغة الفلوكلورية ذاتها التي يقدمها الملا في أعماله.
وتحول التوجه المثير للانتقاد إلى موجة إنتاجية رائجة... دفعت مخرجاً تقدمياً، كان يطيب له أن يسخر من هذه الأعمال، وأن يعلن استخفافه بتقاليد البيئة الدمشقية هو هيثم حقي للهاث وراء هذه النوعية، مرة من خلال قبول التصدي لإخراج مسلسل (أيام سوق ساروجة) قبل أن يدب خلافاً بينه وبين الكاتب وتستبدله الشركة المنتجة بمخرج آخر ثم يتعثر تنفيذ العمل... ومرة أخرى حين أنتج كمنتج منفذ مسلسل بعنوان (الحصرم الشامي) لصالح قناة أوربت، وعهد بإخراجه لسيف الدين السبيعي... الذي ما أن بدأ بتصوير أولى المشاهد حتى أخذ يطلق تصريحات عنترية يعوزها الذكاء عن تقديم الصورة الحقيقية لدمشق... وليس الصورة المصطنعة التي يقدمها بسام الملا... على حد زعمه!
وفي الإطار نفسه اتجه المخرج هشام شربتجي لإخراج واحد من مسلسلات هذه الموجة هو (جرن الشاويش) الذي كتبته سلمى اللحام، التي سبق أن قدمت لبسام الملا مسلسل (ليالي الصالحية) المأخوذ عن مسلسل إذاعي كانت قد قدمته في إذاعة دمشق... وبعد النجاح الجماهيري للعمل التلفزيوني المذكور... عرضت الكاتبة على بسام الملا تقديم جزء ثاني من العمل فلم يتحمس... فتقدمت به إلى شركة (الشرق)، وأرضت غرور صاحبها نبيل طعمة، (الذي سبق أن رأيناه كمنتج يضع إكليل الزهور على ضريح الشاعر نزار قباني في ختام المسلسل المسيء الذي أنتجه عنه)، وسمحت الكاتبة لطعمة هنا بان يضع اسمه في شارة (جرن الشاويش) على اعتبار أنه صاحب الفكرة والإعداد، ليكون ذلك دافعاً لتبني العمل وإظهاره إلى النور على ما يبدو!
وفي النتيجة كنا في هذا الموسم أمام ثلاث مسلسلات تتحدث عن البيئة الدمشقية في القرون الماضية دفعة واحدة... أما (الحصرم الشامي) فهو مأخوذ عن كتاب (حوادث دمشق اليومية) الذي يرصد الحياة الاجتماعية في دمشق في منتصف القرن الثامن عشر، وهو من تأليف أحمد البديري الحلاق، الذي كان يعمل بالفعل في مهنة الحلاقة... وقد دوّن أحداث عصره بأسلوب عامي بسيط لم يخل من مبالغة وشطط، وخلا من الدقة التاريخية... الأمر الذي جنح به نحو تفسيرات خاصة، ربما تنتمي إلى نوع من رواية القصص الشعبية أكثر منها التأريخ الدقيق.
وقد كتب سيناريو هذا المسلسل وحواره الكاتب فؤاد حميرة... إلا أن لجنة الرقابة على المشاهدة في التلفزيون السوري رفضت عرضه بحجة انه يسيء لتاريخ الدمشقيين... ورغم أن بعضهم استنكر هذا الرفض أو التحفظ، وأخذ يتحدث عن دور الفن في تصوير الواقع الذي يجد هوى لدى صناع هذا النوع من الأعمال... إلا أن كثيرين اعتبروا أن الرغبة في تقديم عمل عن البيئة الدمشقية، أو أي بيئة شعبية أخرى، ينبغي أن تنطلق من النظر إلى هذه البيئة بشيء من الحب والإيمان بقيمها الاجتماعية، لا ازدرائها والتعامل معها كنموذج من نماذج التخلف وصوره، من دون فهم طبيعة الزمن والقيم التي تحكمها وتصنع عالمها، وتحرك شخوصها... وبالتالي إسقاط رؤيتنا المعاصرة على زمن ماض ومختلف!
وأما (جرن الشاويش) فما تزال الفضائية السورية تواظب على عرضه، وقد أظهرت الحلقات الأولى أنه مصنوع من بقايا مائدة مسلسل (ليالي الصالحية)، وما رمي من قشور وفضلات وعظام... لكن بممثلين جلهم من الكومبارس وممثلي الدرجة الثالثة والرابعة باستثناء ستة من الممثلين النجوم... فقد تحولت شخصية المعلم عمر بالمواصفات المثالية نفسها، إلى (المعلم عاشور) أما شخصية الحلاق المغرم بتعدد الزيجات والتي أداها الفنان سليم كلاس... فقد ظهرت هنا بأداء الفنان عبد الهادي الصباغ... وسوى ذلك من التقاطعات الواضحة!
وقد كانت فضيحة الأداء التمثيلي في هذا العمل، قيام الفنان باسل خياط (وهو ممثل موهوب) بتقليد الأداء الصوتي للفنان خالد تاجا الذي اشتهر بأداء شخصية (أبو عبدو) في مسلسل بسام الملا الشهير (أيام شامية) ومحاولة انتحال طبقة صوته بطريقة مثيرة للشفقة، وتسجل ضد العمل بالتأكيد!
أما على صعيد الشكل والأداء الفني والإخراجي... فـ (جرن الشاويش) يقدم البيئة الشامية ذاتها بأجوائها المكانية، وتيماتها الموسيقية التراثية، وبعض ملابسها... إلا أن المشكلة تكمن في الجدية، وفي الصرامة في ضبط التفاصيل، وفي الاهتمام ببناء الشخصيات، وفي صياغة العلاقات وفق قانون اجتماعي له سطوة شديدة تجعل منه مبرراً درامياً مقنعاً على صعيد تبرير السلوكيات وطريقة اشتعال المشكلات!
باختصار (جرن الشاويش) يقلد اتجاه من دون أن يتملك أصالة الإضافة لهذا الاتجاه... وهو بالضبط كمن يقوم بتقليد أداء الصلاة، دون أن يتملك إيمان المصلين!
ويبقى النموذج الأصل (باب الحارة) فأنا لا أعتبره شخصياً بلا ملاحظات نقدية، أو أنه خال من المشكلات الدرامية... وأنا أعرف أنه أنتج لأنه قابل للتسويق سلفاً وليس خاسراً تجارياً، لكن ما يدفعني لاحترامه حقاً، هو أنه مصنوع بإيمان بقيم البيئة، باحترام للقواعد التي تحكمها في ذلك الزمن الذي مضى... بأمانة للزمان والمكان ولملامح الناس البسطاء الذين يتملكون قيماً بطولية مثيرة للإعجاب ومحفزة على التسامي في هذا الزمن الرديء، الذي صارت فيه المروءة تهوراً، والتمسك بالشرف رجعية!
وأريد أن أقول: ليس صحيحاً أن كل شخصيات (باب الحارة) نقية ومثالية وخيرة... كما يريد بعض الذين أزعجهم المسلسل... فهناك شخصيات شريرة، وهناك شخصيات حاقدة، وهناك شخصيات كيدية تحيك المؤامرات... وهناك طبائع انفعالية متطرفة مثيرة للشفقة... وهناك مجتمع إنساني تتنازعه مشاعر الغيرة وحب الثراء والاستئثار. أما إذا كانت المشكلة أن دمشق تبدو في مسلسلات بسام الملا جميلة ونظيفة ومنظمة وقادرة على صياغة قانونها الاجتماعي الصارم القائم على التكافل الاجتماعي الحقيقي... فهذه المشكلة تبقى في نفوس أولئك الذي يعادون هذه البيئة لأنهم غير قادرين على احترام الاختلاف، وعلى التعامل بديمقراطية مع مفاهيم أناس لا يشبهونهم، ولا يماثلونهم في رؤاهم التحررية والتقدمية.
أولئك الذين يحترمون طقوس المعابد البوذية ويعتبرونها ثراء واختلافاً... لكنهم ينظرون بدونية إلى قيم الحارة الدمشقية ويعتبرونها تخلفاً، حتى لو أصبحت جزءا من ماض لا يزاحم عالمهم الغارق في الانتهازية والتنظير والتقلب بين الاتجاهات والميول وركوب الموجات السائدة.. وحسب الطلب
شكراً لبسام الملا... ليس لأنه ختم الفن وقدم عملا لا يأتيه الباطل من أمامه أو خلفه... بل لأنه كان صادقاً فيما يقدم، شجاعاً في الدفاع عن البيئة التي أحب... مخلصاً في استلهامها بروح استذكارية مذهلة، تستعيد أدق التفاصيل، وتقف عندها باحترام فني وإنتاجي لا تنازل فيه... إلى الدرجة التي جعلت من كانوا يسخرون منه، يلهثون الآن لاستثمار نجاحاته في تكريس هذا النوع من الأعمال.
وشكراً أيضا... لكل مخرج آخر يقدم عملاً متقناً عن بيئة دمشق العريقة، متحرراً من العقد والأفكار والأحكام المسبقة، والرغبة في الاستثمار التجاري وحسب، دون أي هدف فني!
محمد منصور
المصدر: القدس العربي
إضافة تعليق جديد