سورية بين معسكر "المثاليين" ومعسكر "الواقعيين" في الإدارة الأمريكية
الجمل: لخص الكاتب الصحفي شبنغلر نقلاً عن المحلل الأمريكي إنشت إل مينكين، أزمة سياسة إدارة بوش المتعلقة بالشرق الأوسط قائلاً بأنها تعاني من الانفتاح إزاء المسارين الخاطئ والصحيح في وقت واحد. وتعكس هذه الظاهرة مدى الانقسام الكبير داخل إدارة بوش فيما يتعلق باعتبارات عملية صنع واتخاذ القرار الشرق أوسطي.
* سوريا وأزمة السياسة الخارجية الأمريكية: العامل الإسرائيلي:
تناقلت وسائل الإعلام تصريحات الرئيس بوش الأخيرة التي علق فيها على عملية اغتيال العميد اللبناني فرانسوا الحاج، والتي حذر فيها سوريا مطالباً بعدم تدخلها في لبنان.
ما تزال المعلومات غير متاحة حول هوية من يقف خلف عملية اغتيال الحاج، وعلى غير العادة لم تُتَهم سوريا على غرار ما كان عليه الحال في عمليات الاغتيال الثمانية السابقة، ولكن صحيفة هاآرتس الإسرائيلية أشارت إلى أن المرجح أن تكون إحدى الجماعات المسلحة على غرار تنظيم القاعدة هي من يقف خلف الاغتيال وذلك انتقاماً من دور الجنرال فرانسوا الحاج في العملية العسكرية التي نفذها الجيش اللبناني في الصيف الماضي ضد المسلحين –جماعة فتح الإسلام- الذين كانوا يتمركزون في مخيم نهر البارد في شمال لبنان.
وبرغم ذلك، حاولت الصحيفة الإسرائيلية الزج باسم سوريا عندما أشار التقرير إلى التساؤل حول إمكانية أن يكون هذا الأمر بمثابة تحذير سوري للجيش اللبناني من مغبة اصطفافه إلى جانب الولايات المتحدة وأن يقبل بوجود أنشطة مسلحة أخرى كالتي تقوم بها جماعة حزب الله اللبناني؟
* لبنان – العراق: إشكالية المماثلة في الإدراك الأمريكي:
يقوم إدراك الإدارة الأمريكية لظاهرة الاضطراب وعدم الاستقرار في لبنان بأن سبب حدوثها هو سوريا وإيران، وينطبق الإدراك ذاته على حالة عدم الاستقرار والاضطراب السائدة في العراق. وعلى هذه الخلفية الافتراضية تنظر الإدارة الأمريكية إلى:
• سوريا باعتبارها "الفاعل الرئيسي" في لبنان و"الفاعل الثانوي" في العراق.
• إيران باعتبارها "الفاعل الرئيسي" في العراق، و"الفاعل الثانوي" قي لبنان.
ولمواجهة ذلك عمدت الإدارة الأمريكية إلى:
• الضغط على سوريا بالعقوبات وملف المحكمة الدولية وعرقلة مفاوضات السلام السورية – الإسرائيلية.
• الضغط على إيران بالعقوبات وملف البرنامج النووي الإيراني وحشد الأساطيل العسكرية.
بكلمات أخرى، شنت الإدارة الأمريكية خلال الأعوام الثلاثة الماضية "حرباً باردة" مرتفعة الشدة ضد سوريا وإيران.
* "المأزق" الأمريكي في سوريا، و"المأزق" الأمريكي في إيران:
يقول خبراء السياسة الخارجية بان زخم الخلافات في عملية صنع القرار في السياسة الخارجية الأمريكية، قد دفع إلى بروز الخلافات في عملية اتخاذ القرار فيها، وتشير معطيات خطاب السياسة الخارجية الأمريكية إلى تصاعد المواجهة بين معسكر "المثاليين" ومعسكر "الواقعيين". بكلمات أخرى:
• معسكر "المثاليين": ويحاول هذا المعسكر تنفيذ فرضية "يوتوبيا" إسرائيل المتعلقة بـ"الشرق الأوسط الكبير" وذلك عن طريق القيام بعمليات نشر الديمقراطية وتغيير الأنظمة السياسية. وكان طبيعياً أن تمثل هاتان العمليتان الأهداف الرئيسية للسياسة الخارجية الأمريكية إزاء سوريا وإيران وبلدان الشرق الأوسط الأخرى الرافضة للهيمنة الأمريكية والمشروع الإسرائيلي، وكان طبيعياً أيضاً أن تكون عناصر اللوبي الإسرائيلي من اليهود الأمريكيين مثل وولفوفيتز وإيليوت إبراهام وأتباع المسيحية الصهيونية مثل ديك تشيني وجون بولتون من الناشطين الذين يدفعون توجهات السياسة الخارجية الأمريكية إزاء سوريا وإيران لكي تمضي في هذا الاتجاه، وكان ما حدث في العراق بمثابة الخطوة الأولى التي يجب أن تعقبها الخطوة السورية والخطوة الإيرانية.
• معسكر "الواقعيين": ويحاول هذا المعسكر فرض سياسة خارجية أمريكية تتعامل مع معطيات الواقع بما يعزز قدرة الولايات المتحدة في السيطرة على تطورات الأحداث والوقائع الجارية، وذلك عن طريق تنفيذ فرضية "ميزان القوى" في منطقة الشرق الأوسط، لجهة توظيف عملية الردع كأساس للاستقرار وتوجيه الأحداث بما يحقق حماية المصالح الأمريكية وضمان تفوق إسرائيل. وقد عارض أنصار هذا المعسكر توجهات السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط الهادفة إلى فرض نشر الديمقراطية واستخدام القوة في استهداف أنظمة سوريا وإيران. إن أنصار هذا الاتجاه هم من مسؤولي الإدارة الأمريكية غير اليهود وغير المنتمين إلى المسيحية الصهيونية مثل كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأمريكية وروبرت غيتز وزير الدفاع الأمريكي إضافة إلى الزعماء الديمقراطيين في الكونغرس الأمريكي.
* السياسة الخارجية الأمريكية الشرق أوسطية، إلى أين؟
السياسة الخارجية، أي سياسة خارجية، هي ظاهرة سيكولوجية تعكس نوايا ومقاصد وأداء الدولة في البنية السياسة الدولية الإقليمية والخارجية وذلك من أجل حماية وصيانة وتطوير المصالح والقيم والمثل العليا الخاصة بالدولة. وتأسيساً على ذلك، فإن اتجاه السياسة الخارجية الأمريكية الشرق أوسطية يمكن الإشارة إليه بالاستناد إلى الآتي:
• مؤشر التصريحات: فقد خفت حدة التصريحات الأمريكية المعادية لسوريا وإيران.
• مؤشر الأفعال: وجهت الإدارة الأمريكية الدعوة إلى سوريا لحضور مؤتمر أنابوليس، إضافة إلى التفاهمات والمشاورات السورية – الأمريكية سواء حول موضوع العراق (اللقاءات مع دول الجوار العراقي) أو التفاهمات غير المباشرة حول الملف اللبناني. أما بالنسبة لإيران فهناك تفاهم أمريكي – إيراني حول الملف النووي بدأ منذ فترة طويلة وما زال مستمراً في المنطقة الخضراء في بغداد.
القراءة المتأنية في "حدث" حضور سوريا إلى مؤتمر أنابوليس و"حدث" صدور التقرير الاستخباري الأمريكي المتعلق بـ"تخمين" القدرات النووية الإيرانية تشير إلى الآتي:
• انخفاض وتراجع "أسهم" معسكر المثاليين وانخفاض تأثيرهم على توجهات السياسة الخارجية الأمريكية الشرق أوسطية.
• صعود وتزايد "أسهم" معسكر الواقعيين وتزايد تأثيرهم على توجهات السياسة الخارجية الأمريكية الشرق أوسطية.
حالياً، تؤكد المعلومات الواردة من العاصمة الأمريكية هذه التكهنات والاستنتاجات، ومن أبرز الملاحظات والشواهد المؤيدة لذلك نشير إلى الآتي:
• انتقادات السفير الأمريكي السابق جون بولتون الشديدة اللهجة وبطريقة غير مسبوقة لـ:
* الإدارة الأمريكية ووصفها بالجبن وعدم الشجاعة والإقدام وذلك من خلال تصريحاته التي أوردتها صحيفة التايمز البريطانية.
* المخابرات الأمريكية بوصفه لتقريرها الأخير المتعلق بتخمين القدرات النووية الإيرانية بأنه يهدف إلى إحداث الفتنة والانقلاب داخل الإدارة الأمريكية.
• اليهودي الأمريكي بودوريتز (أحد أبرز زعماء المحافظين الجدد) والذي أعلن المرشح الجمهوري الرئاسي الموالي لإسرائيل رود غولياني بأنه سوف يعينه في منصب مستشار الأمن القومي في حال فوزه بالرئاسة الأمريكية في الانتخابات القادمة. نشر بودوريتز مقالاً في مجلة كومينتري التابعة لجماعة المحافظين الجدد بعنوان "شكوك سوداء حول تخمين المخابرات الأمريكية"، وقد تناقلت وسائل الإعلام ووكالات الأنباء والصحف الإلكترونية العالمية مقاله الذي حاول فيه التشكيك في مصداقية تقارير المخابرات الأمريكية إزاء إيران وبقية منطقة الشرق الأوسط، كما اتهم المخابرات الأمريكية بأنه تسعى إلى تضليل إدارة بوش.
كانت جماعة المحافظين الجدد المتمركزة في الإدارة الأمريكية وتحديداً في مكتب نائب الرئيس الأمريكي ديك تشيني ومجلس الأمن القومي تتوقع أن يكون الـ"تخمين" الاستخباري إيجابياً إزاء دفع الإدارة الأمريكية باتجاه تنفيذ الضربة العسكرية ضد إيران، وتقول المعلومات بأن جماعة المحافظين الجدد بزعامة ديك تشيني وغيره من أنصار الخيار العسكري كانوا قد رتبوا وأعدوا العدة لكي يكون مفعول هذا التقرير على البيت الأبيض بنفس مفعول التقرير الاستخباري السابق الذي أشار إلى خطر أسلحة الدمار الشامل العراقية وأدى إلى دفع الإدارة الأمريكية إلى خيار الحرب القيام بغزو واحتلال العراق. ولكن، عندما بدأت بعض التسريبات المتعلقة بمضمون التقرير وتخميناته النهائية تصل إلى مسامع ديك تشيني، ولما كان من غير الممكن التدخل لتفادي صدور التقرير الذي اشتركت في إعداده 16 وكالة مخابرات أمريكية، فقد كانت صدمة تشيني كبيرة حيث أصيب حينها بنوبة قلبية كادت أن تقضي على حياته، وتقول المعلومات بأن تشيني مازال حتى الآن رافضاً حتى مجرد قراءة محتويات التقرير.
كذلك تشير المعلومات إلى أن نكسة جماعة المحافظين الجدد وديك تشيني التي حدثت بسبب هذا التقرير لم تكن الأولى بل سبقتها نكسة أخرى لا تقل كارثية بالنسبة للإسرائيليين وزعماء جماعة المحافظين الجدد، وهي إفادات أجهزة المخابرات الأمريكية التي رفضت التقارير الاستخبارية الإسرائيلية التي حاولت التسويق لمزاعم البرنامج النووي السوري، وتشير الوقائع والتقارير بأن حملة بناء الذرائع ضد سوريا التي تزعمها اللوبي الإسرائيلي والتي تصاعدت بشكل سريع بحيث انتقلت من المرحلة الأولى إلى المرحلة الثانية ثم الثالثة خلال بضعة أسابيع، كانت الحملة الأكثر أهمية بالنسبة لإسرائيل واللوبي الإسرائيلي لأنها كانت الوسيلة الرئيسية لدمج دائرة الاستهداف الإسرائيلي ضد إيران ودائرة الاستهداف الإسرائيلي ضد سوريا ضمن دائرة استهداف واحدة سورية – إيرانية، ولكن رفض المخابرات الأمريكية للمعلومات الإسرائيلية ولمعلومات جماعة المحافظين الجدد ضد سوريا قد أدى إلى تمزيق نسيج الخطة وتقويض عمودها الفقري، ثم جاء التقرير الأخير ليقضي على ما تبقى من مزاعم معسكر "المثاليين" في السياسة الخارجية الأمريكية الشرق أوسطية إزاء سوريا وإيران.
الجمل: قسم الدراسات والترجمة
إضافة تعليق جديد