آخر أوراق جون بولتون ضد سورية
الجمل: ترتبط أزمة ملف علاقات دمشق – واشنطن بأزمة ملف السياسة الخارجية الأمريكية إزاء الشرق الأوسط، وتحديداً عملية صنع قرار هذه السياسة، أما عملية اتخاذ القرار فلا تشكل سوى الجانب الثانوي الذي يلعب دوراً تكميلياً طالما أن البيئة السياسية المتعلقة بعملية صنع القرار واقعة بالكامل تحت قبضة "الأيادي الخفية" بما لا يتيح أي قدر من حرية الحركة وهامش المناورة لمتخذي القرار الرسمي والذي هو في النهاية من يجلس على كرسي البيت الأبيض الأمريكي.
* علاقات دمشق – واشنطن: خيارات إدارة بوش في عامها المتبقي:
تقوم مذهبية الحزب الجمهوري الأمريكي في السياسة الخارجية على تمجيد مبدأ "التدخل" بكافة الوسائل السياسية والاقتصادية والأمنية والعسكرية واستخدام الـ"ذرائع" اللازمة لتبرير التدخل باعتباره يهدف إلى حماية المصالح الأمريكية.
واجه الحزب الجمهوري أزمة كبيرة بعد فوز الديمقراطيين بقيادة بيل كلينتون بدورتين رئاسيتين، وعلى خلفية كتاب المفكر اليهودي الأمريكي ألان بلوم الذي حمل عنوان «انغلاق القفل الأمريكي»، برزت "صحوة" جمهورية تنادي بإحياء "الريغانية" (نسبة إلى الرئيس رونالد ريغان) باعتبارها المخرج الحقيقي لأزمة أمريكا، واستطاعت جماعة المحافظين الجدد الإمساك بزمام المبادرة والسيطرة عن طريق استنساخ الريغانية ضمن صيغة جديدة أطلق عليها اليهودي الأمريكي إيليوت إبراهام آنذاك تسمية "الريغانية الجديدة". ومن يتفحص أجندة الريغانية الجديدة يكتشف أنها تمثل أعلى مراحل السياسة الخارجية الإسرائيلية.
وبعد نجاح حملة التسويق لـ"مشروع القرن الأمريكي" الجديد، باعتباره مفتاح الحل الذهبي لإشكالية "انغلاق القفل الأمريكي" التي روج لها ألان بلوم، فقد بدا واضحاً أن الحزب الجمهوري الأمريكي قد انقسم إلى تيارين:
• تيار المحافظين "التقليديين" بزعامة جورج بوش الأب، وجيمس بيكر، وزبيغنيو بريجنسكي.
• تيار المحافظين "الجدد": بزعامة ديك تشيني وجورج بوش الابن ورامسفيلد ونخبة اليهود الأمريكيين ذوي النزعات الليكودية.
وبفوز جورج بوش الابن بالانتخابات الرئاسية، انخرطت السياسة الخارجية الأمريكية في تنفيذ أجندة "الريغانية الجديدة" ولكن بشكل منخفض الشدة، خاصة وأن الديمقراطيين، برغم خسارتهم للبيت الأبيض، فقد كانوا ما يزالون يحتفظون بوجودهم الفاعل والمؤثر في الكونغرس الأمريكي، ولكن بعد أحداث الحادي عشر من أيلول واكتساح الجمهوريين لمقاعد الكونغرس الأمريكي، ترتب على ذلك أن أصبح:
• الكونغرس الأمريكي يمثل نسخة من الكنيست الإسرائيلي أيام سيطرة الليكود.
• استولى اليهود الأمريكيون التابعون للوبي الإسرائيلي وجماعة المحافظين الجدد على المناصب الحساسة في الخارجية الأمريكية والبنتاغون والبيت الأبيض.
وعلى هذه الخلفية تحول نموذج السياسة الخارجية الريغانية المنخفضة الشدة إلى نموذج السياسة الخارجية الريغانية المرتفعة الشدة.
بالنسبة لسوريا، فقد كانت واشنطن خلال مرحلة نموذج الريغانية الجديدة المنخفضة الشدة تحتفظ بعلاقات دبلوماسية معها، وكان كبار المسؤولين الأمريكيين يزورون دمشق للتشاور والتفاهم أو لممارسة الضغوط بين الحين والآخر، أما في مرحلة نموذج الريغانية الجديدة المرتفعة الشدة، فقد قطعت واشنطن، وبشكل متعمد يستند على الذرائع الواهية، كل الخيوط التي تربط مفاصل علاقات واشنطن – دمشق.
يتبنى المحافظون الجدد مبدأ "التدخل" ولكن من منظور التعامل مع الأمر الواقع، أما المحافظون الجدد فيرفضون التعامل مع الأمر الواقع ويحاولون استخدام "نظرية المؤامرة" من أجل تغيير معطيات الواقع القائم على النحو الذي يجعله يقبل التشكيل على غرار النموذج المثالي "الليكودي".
* خبرة دمشق في التعامل مع الريغانية الجديدة مرتفعة الشدة:
حققت الريغانية الجديدة نجاحاً محدوداً في بعض مناطق العالم، وبالذات في شرق أوروبا ومنطقة الشرق الأوسط، وتتمثل هذه النجاحات المحدودة في نشر القوات والقواعد العسكرية الأمريكية في هذه المناطق على النحو الذي أدى إلى:
• غزو واحتلال أفغانستان والعراق بالقوة العسكرية ووضعهما تحت الاحتلال المعلن.
• إخضاع السعودية ودول الخليج العربي للاحتلال غير المعلن، عن طريق الوجود العسكري الأمريكي الذي استطاع السيطرة على أمنها السياسي والعسكري وكسر إرادتها الوطنية.
• الاستسلام "شبه المعلن" لنظام حسني مبارك والعاهل الأردني والعاهل المغربي عن طريق الانخراط والاندماج الكامل غير المشروط ضمن أجندة السياسة الخارجية الأمريكية الريغانية الجديدة في مرحلتيها المنخفضة الشدة والمرتفعة الشدة.
ولكن، في حالة دمشق، فقد كان حظ الريغانية الجديدة عاثراً، وبرغم نجاح البيت الأبيض، والخارجية الأمريكية والبنتاغون، ووكالة المخابرات المركزية الأمريكية في القيام بترتيب وتهيئة المسرح الإقليمي المحيط بسوريا، فإن ما تم الحصول عليه كان معاكساً لكل توقعات خبراء معهد المسعى الأمريكي، ومعهد واشنطن، ومشروع القرن الأمريكي الجديد ومؤسسة الدفاع عن الديمقراطية:
• لم ينجح مخطط مؤسسة الدفاع عن الديمقراطية الذي أشرفت عليه اليهودية الأمريكية باولا دوبريانيسكي وإيليوت إبراهام نائب مستشار الأمن القومي الأمريكي في نقل "عدوى" الثورات الملونة إلى سوريا عن طريق دعم جماعات "المجتمع المدني" على غرار ما حدث في جورجيا وأوكرانيا وغيرها.
• لم ينجح مخطط سلسلة الاغتيالات السياسية التي أشرف عليها الموساد الإسرائيلي ومكتب ديك تشيني ووكالة المخابرات الأمريكية بمساعدة جماعات المافيا الروسية – الإسرائيلية على تنفيذها في لبنان.
• لم ينجح نموذج دينيس روس خبير معهد واشنطن ومبعوث السلام الأمريكي السابق، في عزل سوريا عن طريق تجميع تحالف "المعتدلين العرب".
• لم تنجح محاولات البنتاغون والبيت الأبيض ووكالة المخابرات الأمريكية في ابتزاز سوريا عن طريق ملف الأزمة العراقية.
• لم تنجح المناورات العسكرية المكثفة للقوات الإسرائيلية في الجولان المحتل في جعل سوريا ترتجف رعباً، بحيث يسهل ابتزازها.
• لم تنجح القرارات الدولية 1559 و1701 وغيرها في دفع سوريا إلى القيام بدور في محاصرة القوى الوطنية اللبنانية والتدخل في الشأن اللبناني بناءً على الطلب الأمريكي "غير المعلن" الذي أوصله بالوكالة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي والذي طالب دمشق بانتهاك القرار الدولي 1559 والتدخل عن طريق الضغط على قوى 8 آذار للموافقة على شروط قوى 14 آذار.
* سيناريو دمشق القادم: كم بقي من عمر الريغانية الجديدة؟
بقي عام، أو فلنقل بضع عام من عمر الريغانية الجديدة، والتي سيكون صعباً على واشنطن تمديد عمرها إلا إذا حدثت "المعجزة التلمودية" وفاز المرشح الجمهوري رود غيولياني بالرئاسة الأمريكية، علماً بأنه قد دخل بالفعل مرحلة العد التنازلي لجهة عدم الحصول على تزكية الحزب الجمهوري نفسه، ومع بداية الجولات التمهيدية، بدا غيولياني فاقداً للأمل في التأهل قبل انتهاء الجولات الأولى. وحالياً يحاول اللوبي الإسرائيلي التحول باتجاه المرشح الجمهوري ماكيت أملاً في القيام بالتأثير عليه خلال الفترة القادمة ليصبح نسخة جديدة من غيولياني أو بوش.
* سوريا وآخر "أوراق" جون بولتون:
رمت جماعة المحافظين الجدد وعناصر اللوبي الإسرائيلي بكل ثقلها خلف مخطط البرنامج النووي السوري واستخدامه كذريعة يتم توظيفها من أجل استهداف سوريا خاصة وأنهم يعتقدون تمام الاعتقاد بأن "دمشق" قد أصبحت ضمن دائرة مرمى البندقية الريغانية الجديدة.
حملة اللوبي الإسرائيلي في مسار بناء وتصعيد الذرائع تدرجت في مراحلها الأولى والثانية والثالثة وتوقفت عند المرحلة الرابعة بسبب العديد من العوامل غير المواتية حيث لم تستطع هذه الحملة المضي قدماً، وبرغم ذلك، فإن ثمة محاولة جديدة يقوم بها جون بولتون وهذه المرة باستخدام معطيات نظرية الاقتراب غير المباشر التي أسس لها المفكر العسكري الاستراتيجي ليدل هارت.
لم يتحدث بولتون عن سوريا وإنما بدأ من بيونغ يانغ عاصمة كوريا الشمالية، عن طريق مطالبة الإدارة الأمريكية باتخاذ الإجراءات العملية الحاسمة ضدها لأنها كما يقول بولتون:
• لم تلتزم باحترام المفاوضات السداسية.
• لم تلتزم بتنفيذ اتفاقياتها مع الإدارة الأمريكية.
• استمرت سراً في أنشطة برنامجها النووي.
• التمادي في نشر برامج تطوير القدرات النووية عن طريق مساعدة سوريا وإيران في بناء البرامج النووية.
برغم البعد الجغرافي الكبير بين دمشق وبيونغ يانغ، فإن جماعة المحافظين الجدد واللوبي الإسرائيلي قد استفادت من معطيات ظاهرة العولمة وقامت بتطبيقها ضمن نموذج عولمة الاستهدافات، بحيث يتم ربط المشاكل المتباعدة في مشكلة واحدة، بما يؤدي إلى توحيد الاستهدافات المختلفة ضمن استهداف واحد تتم عملية التصدي له ضمن "ضربة استباقية واحدة"، وهكذا، على هذه الصورة، إذا بحثنا عن دمشق في أوراق بيونغ يانغ لوجدنا أن جماعة المحافظين الجدد واللوبي الإسرائيلي قد قاموا بوصفها بعناية فائقة وضمن برمجة دقيقة هادفة إلى الضغط على بيونغ يانغ بما يؤدي إلى قبولها بعقد صفقة مع واشنطن تعترف بموجبها بأنها:
• اتفقت مع دمشق على تطوير البرنامج النووي السوري.
• أرسلت الخبراء النوويين إلى دمشق.
• أرسلت المعدات والأجهزة اللازمة إلى دمشق.
• أرسلت المواد النووية اللازمة إلى دمشق.
• تعاونت مع دمشق في تطوير برنامج الصواريخ الحاملة للرؤوس الحربية غير التقليدية.
• إن الموقع الذي استهدفته الغارة الإسرائيلية في 5 أيلول 2007م هو منشأة نووية.
• إن إيران تمثل طرفاً في البرنامج النووي السوري.
ولم يتوقف الأمر على جون بولتون وحده بل إن هناك تحركات "ناعمة" منسجمة تجري حالياً في واشنطن بواسطة عناصر جماعة المحافظين الجدد واللوبي الإسرائيلي وبرغم الخلافات بين هذه التحركات إلا أنها على المستوى الكلي تتميز بـ:
• الارتباط بين بعضها البعض.
• التزامن لجهة التوقيت.
• المساندة المتبادلة لجهة الجهد الرئيسي.
• إعطاء المزيد من الزخم والطاقة لجهة تنشيط حيوية الملف النووي السوري التي يتوجب إخراجها من غرفة الإنعاش.
* قبل ثلاثة أيام نشرت صحيفة نيويورك تايمز تقريراً إخبارياً يقول بأن سوريا أعادت على عجل بناء المنشأة المشتبه بأنها نووية والتي قصفتها الطائرات الإسرائيلية في الساعات الأولى من صبيحة 6 أيلول 2007 الماضي.
* بالأمس نشر الموقع الإلكتروني ديفيس نيوز الاستخباري العسكري الأمريكي تقريراً استخبارياً يقول بأن الرئيس بوش قد أثنى وأكد دعمه للإسرائيليين في قيامهم بتنفيذ الغارة الجوية ضد سوريا وقد وصف بوش الغارة الجوية التي قامت بها الطائرات الإسرائيلية ضد سوريا بأنها تمثل "عملاً وقائياً هاماً" وذلك خلال تفاهماته مع القادة الإسرائيليين خلال زيارته الأخيرة إلى إسرائيل.
* قبل ثلاثة أيام نشرت صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية تحليلاً لجون بولتون يتطرق لبعض الذرائع الجديدة التي تطالب إدارة بوش بالتخلي عن اتفاقها الدبلوماسي مع كوريا الشمالية تحت ذرائع أن كوريا الشمالية هي التي أخلت ببنود الاتفاق، بحيث يفضي ذلك إلى تصعيد المواجهة الأمريكي ضد كوريا الشمالية وقد أعاد نشر مقال بولتون معهد المسعى الأمريكي التابع لجماعة المحافظين الجدد واللوبي الإسرائيلي اليوم على موقعه الإلكتروني.
حتى الآن، ما يزال واضحاً أن جماعة المحافظين الجدد واللوبي الإسرائيلي سوف يواصلون محاولة الدفع من أجل إنجاز بقية مراحل الاستهداف وصولاً إلى وضع سوريا ضمن حلقة الحصار والاستهداف على غرار النموذج الموضوع سلفاً.
مسيرة ملف البرنامج النووي السوري تعود أبرز محطاتها الأولى إلى يوم 15 أيلول 2003م، أي بعد غزو العراق بحوالي 6 أشهر، عندما قام جون بولتون الذي كان يتولى منصب نائب وزير الخارجية الأمريكي لشؤون ضبط التسلح والحد من انتشار الأسلحة النووية بتقديم إفادته أمام لجنة العلاقات الدولية التابعة للكونغرس الأمريكي والتي أدرجتها وزارة الخارجية في موقعها على الإنترنيت تحت عنوان «برامج سوريا الخاصة بتطوير أسلحة الدمار الشامل والصواريخ». وقد تضمن تقرير بولتون الكثير من التوصيفات والنقاط الجديرة بالملاحظة والتي لعبت (لاحقاً) دوراً كبيراً في تهيئة صقور الجمهوريين في الكونغرس الأمريكيون أجل القيام بشيء ما ضد سوريا عاجلاً أم آجلاً.
الجمل: قسم الدراسات والترجمة
إضافة تعليق جديد