الحب في زمن المازوت
الجمل- عبدالله علي: "زلزال فينوغراد" ليس شيئاً أمام الزلزال الذي ضرب أعماق قلبي، عندما رمشت تلك الفتاة بعينيها واهتزت طبقات اللون الأخضر المتدرج فيهما .... عينان من مازوت!!
وهل المازوت أخضر؟
لا أعرف، لكنَّ عينيها تذكرني بلون المازوت.
غداً تنساها كغيرها!!
يا صديقي، الحب الذي يولد في كازية لا يمكن أن ينطفئ أبداً !!
"سالي" فتاة من "جنوب طرطوس" كما عرفتني على نفسها: جنوب طرطوس كأي جنوب آخر تسري فيه روح المقاومة والعناد... نحن عنيدون بما يكفي لنستمر في الحياة رغم كل شيء...
جنوب طرطوس أم جنوب لبنان؟؟
كانت الكازية رغم البرد والظلام كأنها ساحة حرب حقيقية .. طوابير من الجنود المجهولين ينتظرون دورهم لتأمين جرعة إضافية من الدفء المفقود لأولادهم وعائلاتهم. و"سالي" كانت واحدة من هؤلاء الجنود فهي المعيلة لأسرتها المكونة من أم وثلاث أخوات صغيرات. مضى على انتظارها أكثر من ساعة ونصف، تقول سالي: أنا أتلقى رصاص البرد بصدري فداءً لأخواتي الصغيرات أليست هذه شهادة؟ وتابعت بما يشبه الهلوسة: سيرتفع سعر المازوت، وفي بيتنا يعني ذلك أننا سنضطر للتخلي عن أشياء أخرى مقابل توفير المازوت، فليس لدينا مجال لمناورة الحياة واحتياجاتها .. في بيتنا كل شيء بمقدار .. أتعرف معنى ذلك؟ أنا الآن أحمل في جيبي ثمن المازوت وأجرة السيارة، فإذا أضعت عشر ليرات فلن أستطيع العودة إلى البيت إلا إذا رضيت أن أتبهدل من قبل السائق الذي لا يمكن أن يصدق أنني لا أملك عشر ليرات!! وسوف يظن أنني أحتال عليه!! ربما هو محق!! بل إنني لا أمانع أن يظن أنني أحتال عليه فالاحتيال أشرف من العوز لهذه الدرجة. وبالأمس لم تستطع أختي الذهاب إلى المدرسة لأننا لم نكن نملك ثمن حذاء جديد بدل حذائها الذي اهترئ قبل أوانه.. كما قلت لك كل شيء في بيتنا بمقدار.
"الفقر لنا عادة" !!
رمشت سالي بعينيها لتداري بعنادها دمعة كادت أن تتهاوى ضعفاً من بين أجفانها... بينما كنت أنا أعاني من تداعيات الزلزال الذي ضرب أعماق قلبي في هذه اللحظة بسبب الاهتزاز في طبقات اللون الأخضر.
وتسربت كلمة عجلى من بين شفتي أو من بين شغاف قلبي: أحب عينيك ...
هل كان للزلزال الذي حولني إلى أنقاض مبعثرة كل هذه الضوضاء فلم تسمع (سالي) الكلمة التي تسربت مني خلسة، أم أن المازوت المترقرق في عينيها يحتاج إلى أكثر من النار التي التهمت روحي كي يشتعل؟
(سالي) لا تعرف من أسماء المسؤولين إلا اسم مختار قريتهم ... فهي لا تعرف رئيس البلدية ولا المحافظ ولا الوزير ولا رئيس مجلس الوزراء ... وطبيعي أنها لا تعرف اسم نائب رئيس مجلس الوزراء. لذلك فهي تتجاوز كل هؤلاء وتشكو من حظها في الحياة وتتوسل إلى الله أن يلطف بها وبعائلتها.
حظي هكذا !! ... ومن يقنع سالي بأن سياسة الحكومة لها علاقة بارتفاع الأسعار وبأزمة المازوت وليس حظها؟؟ ... هي تعتقد أن الحكومة تتألم وتعاني مثلها في تطبيق سياسة كل شيء بمقدار. المازوت ينضب من أرضنا والحكومة ليس لديها ما يكفي لسد كل حاجات المواطنين ... ليكن الله في عونها!!!
سالي!! هل تظنين أن الحكومة طبقة من السماء تسكنها الملائكة؟؟
ضربت رأسي بيدي، ملائكة؟؟ هل فلتات اللسان تنبأ عن الحقيقة دوماً؟؟
إذا كان للحب ملاك. ففي قصتي فإن الحكومة هي ملاك الحب!! كيف لم أنتبه لذلك؟؟ لولاها ما كانت أزمة المازوت!! ولولاها ما امتدت طوابير المنتظرين ساعات طويلة!! ولولاها ما كتب لي أن أرى سالي في هذه الكازية الرائعة!! ولولاها لم أسمع صوت سالي وهي تشرح لي سياسة "كل شيء بمقدار" !! ولولاها لم يضربني زلزال المازوت!! ولولاها لم يشهد الحب أول ولادة له من رحم الكازية!!
أنساها كغيرها؟؟
لا .. مستحيل !! فملاك الحب باق فوقنا.. وطوابير الانتظار تطول .. وسالي التي تجهل أسماءهم تعرف بحدسها أن هذه الأسماء لا تعني شيئاً .. وأن الحياة تستمر ليس بهم وإنما بسياسة "كل شيء بمقدار" ...
أنساها؟؟
لا تنس أنت أن الحب الذي يولد في كازية لا ينطفئ ابداً.
الجمل
مقالات أخرى للكاتب:
القضاء المصري: حجب المواقع بين الحرية والمسؤولية
متى تعتبر الحكومة السورية مستقيلة أو في حكم المستقيلة؟
المساكنة حل أم مشكلة؟ التكييف القانوني لهذه الظاهرة وآثارها
إشكالية المادة 122 من الدستور السوري والتعديل الوزاري الأخير
إضافة تعليق جديد