(ملف) مصير حزب العدالة والتنمية ومستقبل العلاقات التركية السورية (1)
الجمل: لم تظهر أي معلومات جديدة حول التطورات الجارية في مسار عريضة النائب العام التركي عوزيوريك التي طالبت بحظر حزب العدالة والتنمية من العمل ومنع زعمائه وقادته من ممارسة أي نشاط سياسي، والسبب في عدم ظهور التسريبات هو السرية المطلقة المفروضة من قبل المحكمة الدستورية التركية العليا على تطور الإجراءات القضائية، إضافةً إلى أهمية القضية لجهة احتمالات تداعياتها الخطيرة على أمن تركيا.
* المسرح التركي وتقلبات ما بعد الحرب الباردة:
لعبت تركيا دوراً كبيراً في فترة الحرب الباردة بين الغرب والشرق، وكانت من الوسائل الهامة في يد الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها في مواجهة الاتحاد السوفييتي، وبعد انهيار الأخير دار خلاف كبير داخل البنتاغون بين أنصار التصعيد وأنصار التهدئة، وكان محور الخلاف يتمثل في الآتي:
• أنصار التصعيد: طالبوا بزيادة نفقات التسليح ونشر القواعد والقوات الأمريكية في سائر أنحاء العالم من أجل الحسم النهائي لصعود أمريكا وسيطرتها على العالم، وكان هذا المعسكر بزعامة ديك تشيني (وزير الدفاع الأمريكي في إدارة بوش الأب).
• أنصار التهدئة: طالبوا بالحد من نفقات التسليح و"العسكرة"، لأن تفوق أمريكا العسكري ما زال قائماً فلا بد من التركيز لإنفاذ عملية العولمة وإعطائها زخماً كبيراً بما يتيح لأمريكا فرض سيطرتها الاقتصادية على العالم، ولاحقاً يمكن العودة مرة أخرى إلى تعزيز القدرات العسكرية.
كان أنصار التصعيد من صقور الجمهوريين يسيطرون على البنتاغون بزعامة تشيني ومساعده آنذاك بول وولفوفيتز، أما أنصار التهدئة فكانوا يسيطرون على مجلس الأمن القومي والكونغرس، وقد انتصر وقتها أنصار التهدئة. لكن الصراع بين التيارين انعكس بشكل واضح على العلاقات الأمريكية – التركية، ولم يعد بإمكان الأتراك الحصول على المزيد من المساعدات الأمريكية التي كانوا يحصلون عليها ضمن مخصصات ميزانية الدفاع الأمريكية وتمويل القواعد الأمريكية الموجودة في تركيا. وأدى انخفاض حجم المساعدات إلى زيادة ضغوط الأزمة الاقتصادية في تركيا، والتي ترتب عليها ارتفاع معدلات التضخم والبطالة وتزايد الهجرة الخارجية إلى أوروبا وانخفاض سعر العملة. وبالمقابل، وعلى خلفية الهجرة التركية إلى أوروبا تصاعدت في الأوساط الأوروبية مشاعر العداء والعنصرية ضد المهاجرين الأتراك، وبدأت الدول الأوروبية الغربية تنظم حملات الترحيل الواسعة للمهاجرين وتمارس القيود المشددة في منح تأشيرات الدخول للأتراك.
تصاعد الأزمة الاقتصادية والقمع الإثنو-ثقافي الأوروبي ضد الأتراك دفع الرأي العام التركي إلى إدراك مدى عمق أزمة الهوية التركية.
* خارطة الصراع التركي الداخلي: التشكيل وإعادة التشكيل:
تتقاسم خارطة الصراع الداخلي التركي أربعة تيارات إثنو-ثقافية رئيسية: الكمالية – العلمانية، الطورانية – القومية، الإسلامية – الدينية، الكردية – الانفصالية. وعلى هذا الأساس تشكلت الأحزاب والقوى السياسية التركية، التي يمكن تصنيفها ضمن هذه التوجهات بسبب تطابقها وانسجامها مع معظمها. وبرغم التنوع والتعددية الموجودة في تركيا فقد شكل الدستور الكمالي – العلماني حاجزاً قوياً في مواجهة النزعات الإسلامية – الدينية والطورانية – القومية والكردية – الانفصالية. هذا الحاجز اكتسب قوة أكبر بسبب استناده إلى "الجيش"، وعلى هذا النحو ترتب على ذلك صراع مذهبي وصل إلى مرحلة المواجهة واستخدام العنف بين المذهبية الكمالية –العلمانية التي يعتمدها الجيش والمذهبيات الثلاثة الأخرى.
بكلمات أخرى، فإن هذه المذهبيات يمكن وصفها بأنها تمثل المنظومة الإثنو-ثقافية الموجودة في تركيا، وإن كانت مختلفة التوجهات، وعلى هذه الخلفية تصادمت مذهبية الجيش العلمانية مع المذهبية الكردية في جنوب شرق تركيا، ومع الإسلامية في سائر أنحاء تركيا، ثم بدرجة أقل مع الطورانية المنتشرة. هذا، وكان من أبرز محفزات الصدام:
• حظر الدستور التركي إقامة أي كيان كردي يتمتع بالاستقلالية داخل أو خارج تركيا.
• حظر الدستور التركي أي توجهات دينية أو قومية خارج الإطار العلماني.
• اعتماد الدستور التركي على المؤسسة العسكرية حاميةً للعلمانية، وحقها في التدخل في حال ثبوت أن العلمانية تواجه المخاطر.
• اعتماد الدستور التركي للوضع الاستقلالي للمحكمة الدستورية العليا باعتبارها المصدر الوحيد لتفسير الدستور والمرجعية القانونية العليا للسلطة التشريعية والتنفيذية.
* ديناميكيات الانقلاب في الساحة السياسية التركية:
تفادت الحركات والقوى السياسية التركية بمختلف توجهاتها إشكالية الصدام مع الدستور الكمالي العلماني، وعملت على تكييف أوضاعها وتوجهاتها المذهبية بما يجعلها تتعايش مع الإطار الدولتي التركي الكمالي العلماني. وتشير معطيات الخبرة التاريخية إلى السوابق التالية:
• تدخلت المحكمة الدستورية العليا وأغلقت مكاتب الحزب الديمقراطي في عام 1994م، وحزب الرفاه في عام 1998م، وحزب الفضيلة عام 2001م.
• تدخل الجيش التركي في السياسة خلال أعوام 1960-1971م، 1980م، 1997م.
نلاحظ أن ديناميكيات تدخل المؤسسة العسكرية في السياسة كانت دائماً أكثر ارتباطاً وتلازماً مع ديناميكيات تدخل المحكمة الدستورية العليا، وهذا التلازم الديناميكي ليس بالضرورة أن يكون حدوثه متزامناً مع اعتبارات حماية العلمانية. وكان طبيعياً أن تلجأ القوى السياسية التركية العلمانية لاستخدام علمانية الدستور سلاحاً في محاولة القضاء على خصومها الآخرين الذين كانوا يلجؤون للدفاع عن طريق التكيف والانسجام مع الإطار الدستور العلماني طالما أن التمادي سيعرضهم للصدام مع المؤسسة العسكرية.
* حزب العدالة والتنمية وأزمة الخطة «ب»:
عندما تم حل حزب «الرفاه» الإسلامي، لجأت عناصره إلى الخطة «ب» التي أدت إلى إقامة حزب «الفضيلة» والذي بدوره عندما تم حله لجأت عناصره إلى الخطة نفسها بإقامة حزب «العدالة والتنمية»، والآن يواجه الحزب سيناريو الحل فهل ستلجأ عناصره إلى الخطة نفسها من جديد بما يترتب عليه قيام حزب جديد باسم جديد؟ أم ستلجأ إلى خطة «ب» جديدة تختلف عن سابقتها، لأن التوقعات تقول بأن الكماليين قد رتبوا الأمر جيداً بما يؤدي إلى عدم قيام حزب إسلامي تركي جديد على غرار نموذج «الرفاه» و«الفضيلة» و«العدالة والتنمية» التي ينظر إليها الكماليون باعتبارها شيئاً واحداً بمسميات وشخصيات مختلفة.
أشارت بعض التسريبات التركية إلى ثنائي حزب العدالة والتنمية عبد الله غول – رجب طيب أردوغان قد رتبا الخطة «ب» الجديدة التي قد يضطر الحزب لتطبيقها إذا قررت المحكمة الدستورية إدانته وحل الحزب. ولكن أردوغان نفى وجود أي فكرة أو مساعي بواسطة قيادة الحزب لإقامة حزب جديد.
* أبرز التوقعات:
أولاً: بالنسبة لحزب العادلة والتنمية:
• أسوأ سيناريو: وهو حل الحزب وحظر قادته عن العمل السياسي.
• سيناريو الوسط: إدانة الحزب وفرض بعض العقوبات المالية وبعض القيود على توجهاته وإلزامه بمراجعة بعض القرارات التي سبق أن أصدرها.
• أفضل سيناريو: صدور قرار المحكمة ببراءة الحزب من اتهامات المدعي العام.
ثانياً: بالنسبة للأحزاب الكمالية العلمانية:
• أسوأ سيناريو: وهو براءة حزب العادلة والتنمية.
• سيناريو الوسط: إدانة الحزب وفرض بعض العقوبات المالية وبعض القيود على توجهاته وإلزامه بمراجعة بعض القرارات التي سبق أن أصدرها.
• أفضل سيناريو: إدانة الحزب وحظر نشاطه ومنع قيادته من العمل السياسي وتقديم زعمائه البارزين للمحاكمة بتهمة انتهاك الدستور التركي.
* مستقبل تركيا على ضوء السيناريوهات المتوقعة:
حدوث السيناريو الأفضل بالنسبة لحزب العدالة والتنمية سيؤدي إلى تعزيز موقف الحكومة التركية الحالي ودفعها للعمل بوتائر أكبر في عملية إدماج تركيا ضمن بيئتها الشرق أوسطية، وسينعكس ذلك على العلاقات التركية – الإسرائيلية والتركية – الأمريكية. وداخلياً، سيترتب على هذا السيناريو إضعاف الحركات العلمانية على النحو الذي قد يدفعها إلى محاولة اللجوء إلى "نظرية المؤامرة" والتحريض على سيناريو الانقلاب العسكري.
حدوث السيناريو الأسوأ بالنسبة للحزب سيترتب عليه استئصاله من الساحة السياسية التركية ومن ثم ستتوالى السيناريوهات ذات التأثير الكارثي على أمن واستقرار تركيا بسبب القاعدة الشعبية العريضة التي يملكها حزب العدالة والتنمية التي ستتحرك لمقاومة القرار، وفي هذه الحالة قد تحدث المواجهة في الشارع التركي مع المؤسسة العسكرية وإذا تصاعدت هذه المواجهة وأخذت طابعاً دموياً مكثفاً فإن احتمالات حدوث الانقسام داخل الجيش قد تصبح واردة، لأنه لم يحدث أن تصادمت المذهبية العسكرية مع المذهبية القيمية الاجتماعية وكان النصر حليف المذهبية العسكرية. بكلمات أخرى، مهما كانت صرامة المذهبية العسكرية فإن انحياز الجنود والعناصر في نهاية الأمر سيكون لصالح المذهبية القيمية الاجتماعية فتركيا بلد إسلامي شرق أوسطي لا يمكن أن نتصور أن تحدث فيه القطيعة الكاملة بين مذهبية قاعدة المؤسسة العسكرية والمذهبية القيمية الاجتماعية.
أما بالنسبة لسيناريو الوسط وهو الأكثر احتمالاً كما يرى كثير من المحللين، فإننا نلاحظ:
• سيناريو مشترك بين الحزب من جهة وخصومه العلمانيين من جهة أخرى.
• سيناريو يفتح المجال أمام المزيد من الصراع الديمقراطي والقيمي في الشارع التركي.
• سيناريو يتيح للمؤسسة العسكرية التركية تأجيل عملية انقضاضها المتوقع على الحكومة.
• سيناريو يتيح لحزب العدالة والتنمية ترتيب قواعد اللعبة وإدارة الصراع.
حتى الآن، لا نلاحظ تدخلاً واضحاً بواسطة الأطراف الثالثة (الخارجية)، ولكن ما هو واضح يتمثل في وجود الآتي:
• أطراف ثالثة تستخدم أساليب الحرب الباردة ضد حزب العدالة والتنمية وهي أمريكا وإسرائيل.
• أطراف ثالثة تسعى للتهدئة مع الحزب وأبرزها الحركات الكردية التي سوف تتعرض للمزيد من البطش على يد العلمانيين الأتراك خاصةً وأن كل التحليلات تقول بأن صعود العلمانية في أنقرة معناه قيام الجيش بعملية استئصال واسعة للأكراد في مناطق شمال العراق وجنوب شرق تركيا، وسيكون ذلك مصحوباً بتواطؤ وتعاون أمريكي – إسرائيلي خاصةً وأن تل أبيب وواشنطن سوف لن تترددا في دعم أنقرة بقوة هذه المرة وعدم إتاحة الفرصة لأي صعود إسلامي سياسي جديد في تركيا.
• أطراف ثالثة تسعى للمناورة والالتفاف على كل من حكومة حزب العدالة والتنمية وحكومة القوى السياسية التي قد تصعد إلى السلطة إذا صدر قرار بحل الحزب، ويتمثل هذا الطرف الثالث في دول الاتحاد الأوروبي التي اتخذت موقفاً ذرائعياً يتيح لها المماطلة في ضم تركيا إلى الاتحاد. بكلمات أخرى، أعلن الأوروبيون عن رفضهم لفكرة حل حزب العدالة والتنمية باعتبارها تتنافى مع التقاليد الديمقراطية، وبالتالي:
* في حالة حل الحزب سينظر الاتحاد الأوروبي إلى تركيا باعتبارها بلداً غير ديمقراطي، وبالتأكيد سيضر ذلك كثيراً بل ويعرقل مشروع انضمام الأخيرة إلى الاتحاد.
* في حالة عدم حل الحزب ستستمر الذرائع الأوروبية الحالية في عرقلة المشروع والقائمة على التخوف من توجهات تركيا الإسلامية.
• أطراف ثالثة تتعامل مع الأزمة على طريقة "لننتظر ونرى"، وتتمثل في روسيا ودول آسيا الوسطى، وحالياً تخطط روسيا لاحتواء الجميع في تركيا ليس عن طريق التعاون مع أحد الأطراف وإنما عن طريق إستراتيجية الإغراء بالانفتاح والتعاون مع تركيا في منطقة آسيا الوسطى والقفقاس وعن طريق تعزيز التعاون النفطي – الاقتصادي بين تركيا وهذه المنطقة. هذا، وتجد الفكرة الروسية قبول كافة الأطراف التركية خاصةً الطورانيين – القوميين الذين ينظرون إلى شعوب آسيا الوسطى والقفقاس باعتبارها تمثل امتداداً إثنو-ثقافياً للمجال الجيوسياسي التركي، ويشاركهم الإسلاميون وجهة نظرهم هذه باعتبار هذه المناطق تندرج في القوام الإسلامي الآسيوي. أما العلمانيون فيرون في الفكرة الروسية مخرجاً من الأزمات الاقتصادية والاعتماد على المعونات الأمريكية إضافةً إلى أن قيام تركيا بدور "الكازية" التي تزود أوروبا بالنفط والغاز هو في حد ذاته سيتيح لتركيا فرض إرادتها على بلدان الاتحاد الأوروبي.
تقول معطيات العلم الاستراتيجي بأن الفرص عندما تأتي تكون دائماً محفوفة بالمخاطر، وبالتالي فإن مجرد ظهور اسم روسيا كمنافس لأمريكا وإسرائيل في الساحة التركية فإن ثمة تصعيداً خطيراً سينشأ في الصراع على تركيا، وسيكون أمام الولايات المتحدة وإسرائيل إما خنق تركيا ودفعها باتجاه هاوية الفوضى الخلاقة، وهو أمر سيؤدي لفقدان تركيا وضياعها من دائرة النفوذ الأمريكي لأن أغلبية الرأي العام التركي تساند توجهات حكومة حزب العدالة والتنمية، أما الخيار الثاني فسيكون تقديم المزيد من الحوافز والدعم والقبول باستمرار الحزب الذي إن استمر فسيواصل مشروع إبعاد تركيا عن النفوذ الأمريكي – الإسرائيلي وسيترتب على ذلك ضياع تركيا وخروجها من دائرة هذا النفوذ.
من الواضح حالياً أن الإستراتيجية الأمريكية إزاء تركيا أصبحت تواجه أزمة المثل القائل أن «كل الطرق تؤدي إلى روما» طالما أن أغلبية الأتراك يعملون على غرار المثل القائل «لابد من صنعاء وإن طال السفر»، ويبدو المعنى واضحاً لو قلنا بأن روما هي "مفارقة تركيا لأمريكا وإسرائيل" وصنعاء هي "عودة تركيا إلى بيئتها الشرق أوسطية".
الجمل: قسم الدراسات والترجمة
إضافة تعليق جديد