غسان رفاعي: أنا مريض بالأمل..
ليس من المألوف أن يجتمع هذا العدد الكبير من الناس في مقهى برجوازي لمشاهدة جنازة عبر شاشة التلفزيون، ومن النادر أن يفقد المشاهدون اتزانهم وأن يطلقوا صيحات هي أقرب الى الشعارات السياسية في غمرة تفاعلهم مع مشاهد الجنازة. لقد فوجئت وأنا في مدينة الدار البيضاء أقرأ الصحف الصباحية في مقهى «كارفور دنفة» باحتشاد عدد كبير من رواد المقهى وهم يحدقون في شاشة التلفزيون يتابعون جنازة الشاعر الكبير محمود درويش في مدينة رام الله وقد بدت عليهم علامات الحزن الشديد وحينما أعلن المذيع أن جماهير المشاركين كانوا يهتفون: «سجل أنا عربي» تملكهم مس من الهيجان وأخذوا يهتفون هم أيضاً: «سجل أنا عربي» وكان تأثري بالغاً إذ شعرت بالفخر والاعتزاز بهؤلاء الناس وهم يتفاعلون مع غياب الشاعر، وهذا دليل على شفافية ثقافية استثنائية. ولم أصدق ان الانتماء الى العروبة صلب الى هذه الدرجة على الرغم من الانشقاقات الطائفية والمذهبية والإثنية التي تفتك بالجسم العربي منذ فترة من الزمن.
ـ 2 ـ
منذ عدة سنوات، أقيم في صالة «إلارستيه» في ضواحي باريس عرس للشعر الفلسطيني امتزج فيه الدم بالوحل، الدمع بالأمل، وكان صوت محمود درويش يجلجل في كل مكان حزيناً واعداً محرضاً، وكان الشبان المشاركون يهتفون: «المجد للحرية، الموت للقتلة» وكنت أشاهد وأتفاعل وأتذكر. وفجأة ارتفع صوت شاب وسيم: «الأرض بتتكلم عربي!» ووقف الجميع يرددون مقاطع من النشيد بحماسة وغضب، ومن حيث لا نتوقع ألقى محمود درويش قصيدته المعروفة: «سجل أنا عربي» وكأنه يخاطب من آخر الدنيا، لعله كان يشعر بأنه في خرائب جنين أو نابلس أو قلقيلية وحوله نساء وشيوخ وأطفال شردتهم العنصرية الاسرائيلية، وقد انفعل الجميع وكأنهم أصيبوا بنوبة من الهذيان، وارتفعت حناجرهم تزمجر: «سجل أنا عربي» في تحدّ وغضب كبيرين.
ـ 3 ـ
في أوائل السبعينيات عقد مؤتمر للأدباء العرب ومهرجان للشعر العربي المعاصر في دمشق، وكنت نائباً لرئيس اتحاد الكتاب العرب المرحوم صدقي إسماعيل، وقد احتدم النقاش قبل انعقاد المؤتمر في المكتب التنفيذي للاتحاد حول «من الشاعر الطليعي؟» وبرز موقفان: موقف يصر على ان الطليعية هي قبل كل شيء «موقف عقائدي تقدمي» ومن هذا المنطلق فإن الشعر الجيد هو الشعر الملتزم بقضية سياسية ومرتبط بمصلحة الجماهير، لا الشعر المحافظ على جمالية المعنى والمبنى وهناك موقف آخر يعرّف الطليعية بأنها «تجربة في حرية التعبير يجتمع لها شرطا الأصالة والجمالية» ويرفض إدخال كل الشعراء في علبة محددة الصفات على أن يكون الفصل للاستحسان الشعبي لا للرضا السلطوي. وكان المنادون بهذا الرأي يطالبون بفتح المهرجان على كل الشعراء الكبار الذين يلتف الناس حولهم، والغلبة في نهاية المطاف ليست لتبني الشعارات الفجة وانما لأصالة الكلمة الجميلة الصادقة. وكانت فرحتنا كبيرة حينما رجحت وجهة النظر الثانية. وفتح الباب على مصراعيه لكل الشعراء الكبار مثل نزار قباني، وبدوي الجبل وعمر أبو ريشة ومحمود درويش. وكلفتني رئاسة الاتحاد الاتصال بهؤلاء الشعراء وإقناعهم بضرورة الاشتراك في المهرجان الذي كان من المقرر ان يقام على مدرج جامعة دمشق.
ـ 4 ـ
سافرت الى بيروت «موطن الشعراء العصاة» في ذلك الحين، واجتمعت بالشاعرين المرحومين نزار قباني وعمر أبو ريشة، ويشهد الله انهما بالغا في إظهار تأثرهما، بل إن نزار المعروف بعشقه لدمشق، ترقرقت الدموع في عينيه ووعد بنظم قصيدة جديدة مهداة الى دمشق بعد طول غياب ووعد المرحوم عمر أبو ريشة بأن يحلق من جديد كالنسر في الأعالي، لكن بقي علي ان أحل مشكلة محمود درويش وقد كان ممنوعاً من دخول سورية لاسباب لم يعد يجهلها أحد، ولم يكن من السهل تذليل العقبات الإدارية ولاسيما ان موعد انعقاد المهرجان والمؤتمر كان وشيكاً وكان لابد من الاستحصال على وثيقة رسمية تسمح بدخول السيارة التي تهرب محمود درويش «بمن وما فيها» وحينما عبرت بنا السيارة الحدود سألني محمود درويش: أريد ان أسألك: هل يعتبر الشعراء في الوطن العربي من فصيلة الـ«من» أو الـ«ما»؟ فقلت ممازحاً: أغلب الظن انهم من فصيلة الـ«ما».
ـ 5 ـ
لم يشهد مدرج جامعة دمشق تجمعاً حاشداً صاخباً كالتجمع الذي شهده في ذلك اليوم الدافئ من شهر نيسان 1971، كان الناس يملؤون الصالة الضيقة، ويتدلون من الشرفات، ويتدافعون من كل المنافذ، ويسدون الطرق الى الجامعة، ويعششون في الأشجار المحيطة، كان عرساً حقيقياً للكلمة، للشعر، للحرية، من قال إن أيام عكاظ قد ولّْت الى غير رجعة، شعبنا الكبير مازال يطرب للقول الصادق الجميل!.
ہ وكنت أقدم شعراءنا الكبار: بدوي الجبل، مهدي الجواهري، نزار قباني، عمر أبو ريشة، وكان الجمهور يستقبلهم بعاصفة من التصفيق والهتاف، وكأن هناك زلزالاً يعصف بالصالة وبالطرقات المؤدية الى مدرج الجامعة. لقد اختلطت الأجيال والأساليب: التراث مع الحداثة، الشعر العمودي مع شعر التفعيلة، المحافظة مع الثورة، في تناسق فوضوي ساحر.
ہ وأتى دور محمود درويش، فتقدم من المنبر، بادي الاضطراب والخجل، اذ لم يكن يتوقع ان يقف أمام كل هذه الجموع الحاشدة، وما كدت أقدمه الى الجمهور بتواضع حتى وقف الحضور، وأخذ يصفق بحماسة غير مألوفة، وبدأ محمود درويش يلقي بعض قصائده بصوت منخفض، شديد الانفعال.
وفجأة ارتفع صوت من الصالة:
ـ «يا محمود اقرأ لنا» «سجل أنا عربي!».
وامتقع لون محمود، وتوقف عن الإلقاء، وبدا وكأنه فقد توازنه، ووقفت آنسة جميلة في عمر الزهور، وأعادت طلبها:
ـ «يا محمود أرجوك اقرأ لنا» «سجل أنا عربي»!».
وصمت محمود وقال:
ـ «لا أحفظها!»
وارتفع صوت الآنسة:
ـ «إنها معي، أرجوك اقرأها بصوتك!»
وازداد انفعال محمود، واختنق صوته، وبدأت دموعه تسيل على وجهه، وقال بارتباك:
ـ «لا أستطيع، لا أستطيع، كان للقصيدة معنى حينما كنت في الأراضي المحتلة، كانت تحدياً، إشهار هوية، طلقة رصاصة في وجه المحتلين، أما هنا في دمشق، عاصمة العرب، فليس لها معنى. لمن أتوجه بهذا النداء الصارخ، أنا بين أهلي، أنا بين اخوتي، نعم ليسمع العالم كله: سجل أنا عربي!»
وعلا الهتاف في الصالة، وفي الباحة، وفي الشوارع المحيطة، صاخباً، عالياً، مزمجراً:
ـ «سجل، سجل أنا عربي!».
ـ 6 ـ
اجتمعت مع محمود درويش في باريس بعد طول غياب، فتذكرنا قصة تهريبه من بيروت الى دمشق للمشاركة في مهرجان الشعر الذي اقيم على مدرج جامعة دمشق.
قال لي «محمود» وهو يودعني امام معهد العالم العربي:
«لعلي كنت مخطئا؟ أشعر اليوم، بأنه يجب على كل عربي، وعلى امتداد الوطن العربي ان يهتف: «سجل أنا عربي» يخالجني شعور مبهم بأن الهوية العربية مهددة، جغرافيا وتاريخيا!»
وعانقني بود، واستمر يتحدث، وكأنه يخاطب نفسه:
«ولكن الانسان حتى وهو غارق في اليأس والآلام، قادر على ان يغني للفجر، الأشجار الزيتون لأزهار اللوز ، إن نظم قصيدة حب تحت الاحتلال والارهاب هو شكل من أشكال المقاومة، إن الشعر هو النور الذي يبدد الظلام، صدقني، الأمل المتفائل هو المرض الذي لا يمكن معالجته لدى الفلسطيني، إنه انتصار على الهزيمة والقهر والموت. لقد اخترت ان أكون مريضا بالأمل، الشعر سريع العطب، وهذا ما يعطيه القوة مثله مثل العشب الاخضر، يبدو العشب هشا، ولكن يكفي أن تصب عليه قليلا من الماء، وأن تعرضه لاشعة الشمس، حتى يعود الى تفتحه وطزاجته..»
د. غسان رفاعي
المصدر: تشرين
إضافة تعليق جديد