مستقبل النزعة الاستقلالية في السياسة الفرنسية والصراع مع واشنطن (1)
الجمل: تحليل الأداء السلوكي للسياسة الخارجية الفرنسية خلال فترة ما بعد اتفاق الدوحة الذي جمع الفرقاء اللبنانيين بدأ يشير إلى المزيد من المعطيات الدالة لجهة أن مسار هذه السياسة بدأ يأخذ اتجاهاً مفارقاً لمسار السياسة الخارجية الأمريكية، وبعد ذلك لم ينحصر الأمر في ملفات الشرق الأوسط وإنما برزت ظاهرة مفارقة السياسة الخارجية الفرنسية للسياسة الخارجية الأمريكية بوضوح أكبر إزاء أزمة الحرب الروسية – الجورجية وإزاء بعض القضايا الأخرى المرتبطة بملفات علاقات عبر الأطلنطي وعلى وجه الخصوص الجوانب المتعلقة بالمواقف إزاء أزمة الملف النووي الإيراني وملفات الاستهداف الأمريكي لروسيا والصين إضافةً إلى الملف الليبي، وتقول التسريبات بأن السياسة الخارجية الفرنسية ما زالت تمضي قدماً في الاتجاهات المفارقة للسياسة الأمريكية إزاء ملفات إقليم دارفور وبعض القضايا الإفريقية الأخرى.
* السياسة الخارجية الفرنسية: معطيات خبرة النزعة الاستقلالية:
ألحقت ألمانيا النازية الخراب والدمار بالقارة الأوروبية وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية كان واضحاً أن نتائج هذه الحرب ستلعب دوراً في تشكيل البيئة السياسية الأوروبية على نحو مغاير للبيئة السياسية التي كانت سائدة في فترة ما قبل اندلاع الحرب في عام 1939م وكان من أبرز الملامح الجديدة صعود تأثير العامل الأمريكي على أوروبا الغربية بحيث استطاعت واشنطن أن تضع بلدان أوروبا الغربية تحت مظلة الهيمنة الأمريكية عن طريق:
• الوسائل الاقتصادية: وتضمنت مشروع مارشال الذي ضخت بموجبه واشنطن تدفقات رأس المال المباشرة وغير المباشرة لإعادة إعمار أوروبا.
• الوسائل العسكرية: وتضمنت التوقيع على معاهدة حلف شمال الأطلسي التي أسست لقيام حلف الناتو بقيادة أمريكا.
• الوسائل السياسية: وتضمنت توحيد مجرى التوجهات السياسية الداخلية والخارجية للبلدان الأوروبية الغربية وفق النمط الليبرالي الرأسمالي.
• الوسائل الدبلوماسية: وتضمنت قيام تحالف دبلوماسي أوروبي – غربي أمريكي يعمل ضمن جهد رئيس مشترك يهدف إلى عزل ومحاصرة الاتحاد السوفيتي وحلفائه في الكتلة الشرقية الاشتراكية.
• الوسائل الإيديولوجية – المذهبية: تضمنت الترويج لمذهبيات المجتمع المفتوح والتسويق لمفهوم الخطر الشيوعي الذي يهدد أوروبا والعالم الحر.
برغم الاستقرار والانتعاش الذي ترافق مع عودة صعود أوروبا فإن نزعة المركزية الأوروبية لم تبرح مكانها وظل الزعماء الأوروبيون وعلى وجه الخصوص الزعيم الفرنسي شارل ديغول أكثر رفضاً للهيمنة الأمريكية وقد سعى الجنرال ديغول حثيثاً من أجل تحويل فرنسا إلى القيام بدور القوى العظمى الأوروبية التي تقف على قدم المساواة مع الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتي بما يترتب عليه تحويل نظام القطبية الثنائية إلى ثلاثية.
لاحت الفرصة أمام ديغول عندما نجحت فرنسا في التحول إلى قوة نووية وعندها قاد الجنرال ديغول والدبلوماسية الفرنسية نشاطاً محموماً لإقناع الأوروبيين بعدم الحاجة إلى البقاء ضمن إطار الحماية النووية الأمريكية طالما أن فرنسا أصبحت قوة نووية.
لم تجد فرنسا التأييد الكافي وعلى وجه الخصوص من جانب بريطانيا التي بدا واضحاً أنها لعبت آنذاك دور حصان طروادة الأمريكي وقد أدى ذلك إلى غضب ديغول وكانت النتيجة انسحاب فرنسا من اتفاقية حلف الناتو العسكرية مفضلاً البقاء ضمن اتفاقية حلف الناتو السياسية.
عندما انهار الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية لاحت الفرصة الثانية للفرنسيين للتخلص من الهيمنة الأمريكية وهذه المرة وجدت فرنسا الدعم الكبير من ألمانيا وبعض الدول الأوروبية والحركات السياسية في أوروبا المناهضة مثل حركة الخضر والأحزاب اليسارية وكانت حجة الدبلوماسية الفرنسية تقول بأنه طالما أن الاتحاد السوفيتي والكتلة الاشتراكية الشرقية وحلف وارسو قد انتهت فإن أوروبا الغربية ليست بحاجة إلى الوجود العسكري النووي الأمريكي المكثف، لأن الخطر الشيوعي وخطر التوسع السوفيتي قد انتهى وقد وجد التوجه الفرنسي نحو الاستقلالية الأوروبية دعماً ألمانياً كبيراً، ولكن الولايات المتحدة كانت بالمرصاد فاستخدمت أزمة يوغوسلافيا للقضاء على تلك النزعة وقد استطاعت حينها بريطانيا القيام بدور حصان طروادة الأمريكي مرة أخرى، وقادت المزاعم القائلة بأن حاجة أوروبا إلى القوة الأمريكية تمثل ضرورة لا غنى عنها والمخاطر التي تحدق بالأمن الأوروبي ليست في الاتحاد السوفيتي وحلفائه وإنما في المشاكل والأزمات التي ستنشأ في مناطق شرق أوروبا والبلقان، التي لو لم تستعن أوروبا بالقوة الأمريكية لإخمادها فإن الأمن الأوروبي سيتعرض للمزيد من المخاطر والتحديات الجديدة.
لاحت الفرصة الثالثة خلال الفترة التي سبقت حرب العراق، عندما خاضت الدبلوماسية الفرنسية صراعاً دولياً مريراً ضد الدبلوماسية الأمريكية ولكن بسبب اختيار بريطانيا طوني بلير وإيطاليا برلوسكوني وإسبانيا أثنار السير في ركب الهيمنة الأمريكية فقد ووجهت فرنسا مرة ثالثة بزخم الهيمنة الأمريكية كأمر واقع.
ثم جاءت الأزمة اللبنانية لا لتفرق بين الولايات المتحدة وفرنسا ولكن لتجمعهما هذه المرة ضمن قاطرة واحدة هدفت إلى تسويق العداء لسوريا وإيران وحزب الله وحركة حماس بما أدى إلى انتعاش أسهم دبلوماسية تل أبيب في أروقة الاتحاد الأوروبي وعلى هذه الخلفية صعد نيكولاس ساركوزي إلى قصر الإليزيه، الأمر الذي خلف انطباعاً واسعاً بأن تل أبيب قد أحكمت سيطرتها على قصر الإليزيه وبأن قصر الإليزيه سيقوم بدور حصان طروادة الأمريكي داخل الاتحاد الأوروبي.
هكذا، ظلت توجهات السياسة الخارجية الفرنسية التي تحاول التأكيد على الاستقلالية الأوروبية تجد نفسها في مواجهة دبلوماسية لندن وغيرها من الأطراف الأوروبية التي أدمنت الرهان على سيناريو الوقوف خلف واشنطن.
* دبلوماسية باريس: أبرز التساؤلات الحائرة:
يدرك الفرنسيون جيداً مدى أهمية توفير إمدادات النفط والغاز المستقرة بالنسبة للأمن الفرنسي والأوروبي، وبالمقابل تدرك واشنطن جيداً أن سيطرة الولايات المتحدة على مصادر النفط والغاز ستجعل البلدان الأوروبية لا تملك خيار البقاء ضمن مظلة النفوذ الأمريكي، فهل تملك باريس بديلاً لذلك، وعلى التحركات الفرنسية على خط باريس – طرابلس، وباريس – الجزائر، وباريس – نواكشوط وباريس – الخرطوم، وباريس – دوالا الكاميرونية تهدف جميعها إلى وضع بعض مصادر النفط تحت المظلة الأمنية الفرنسية.
تتمتع فرنسا بميزة الدولة الأوروبية الغربية الوحيدة التي تملك قواعد عسكرية في إفريقية وحالياً تتمركز القواعد الفرنسية في تشاد وإفريقيا الوسطى وجيبوتي والسنغال وتقول المعلومات والتسريبات بأن القوات الفرنسية توجد أيضاً في مالي وجمهورية الكونغو الشعبية والكاميرون، وأشارت التسريبات والمعلومات إلى أن الدول الإفريقية رفضت استضافة مقرات القيادة الأمريكية الإفريقية الجديدة وكانت الدول التي تستضيف القواعد الفرنسية هي الأكثر تشدداً في حث الحكومات الإفريقية على ضرورة عدم استضافة مقرات القيادة الأمريكية فهل كانت فرنسا بشكل من الأشكال وراء الرفض الإفريقي لاستضافة القواعد الأمريكية؟
أما في الشرق الأوسط فقد كان التنافس على أشده بين فرنسا وبريطانيا خلال فترة ما قبل الحرب العالمية الثانية وهذا التنافس تماماً بعد انسحاب النفوذ البريطاني وتراجعه الذي خلق الفراغ الذي تقدمت الولايات المتحدة لملئه في المنطقة، وبرغم ذلك بقي النفوذ الفرنسي في لبنان والمغرب العربي جنباً إلى جنب مع النفوذ الأمريكي والنفوذ السوفيتي. وبعد تراجع النفوذ السوفيتي الذي أعقب الحرب الباردة ظن الجميع أن فرنسا ستتقدم لملء الفراغ وراهن الجميع على مصداقية دبلوماسية فرنسا في الوقوف أمام أمريكا في الأزمة العراقية ولكن خابت التوقعات وتزايدت خيبة الأمل أكثر عندما تحالفت فرنسا مع واشنطن في أزمة الملف اللبناني التي أعقبت اغتيال الحريري، وكان واضحاً أن العامل السوري هو الذي أدى إلى قيام محور واشنطن – باريس في الشرق الأوسط، ولاحقاً بعد دعم سوريا لتوقيع اتفاقية الدوحة كان تأثير العامل السوري كبيراً في التفريق بين أطراف محور دبلوماسية باريس – واشنطن، فهل ستمضي دبلوماسية باريس قدماً في تعزيز الاستقلالية الفرنسية على النحو الذي يؤدي لاحقاً إلى استقلالية الدبلوماسية الأوروبية أم أن دبلوماسية باريس ستتراجع لتعود مرة أخرى لدائرة التبعية لواشنطن خاصة وان الملفات الشرق أوسطية القادمة ستكون أكثر سخونة وتتطلب من الرئيس ساركوزي المزيد من الشجاعة والصبر في المواجهات المتوقع حدوثها على خط دبلوماسية باريس – واشنطن ونافذة علاقات عبر الأطلنطي؟
الجمل: قسم الدراسات والترجمة
إضافة تعليق جديد