الاسلام بين جمود وجحود
قد يذهب الظن بالبعض إلى أن التمييز بين إسلام إصلاحي وإسلام تقليدي من البدع التي ظهرت في السنوات الأخيرة وأن مبتدعيها باحثون متأثرون بأفكار غربية. والحقيقة أن هذا التمييز كان مطروحاً بقوة منذ أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ولا نعني بالتميز هنا مجرد الدعوة إلى الاجتهاد في الجزئيات، وإنما نعني الوعي بأن هناك فكراً وسلوكاً دينيين قد أصبحا عبئاً على الإسلام والمسلمين وأنهما لا يستدعيان مجرد التأسف والحسرة بل ينبغي أن يقاوما بقوة الفكر والنقض وأن تصبح المناضلة ضدهما جزءاً من البرنامج الإصلاحي من أجل تقدم المجتمعات الإسلامية.
ولعل أبرز مثال على قدم هذا الوعي العبارة الشهيرة التي أطلقها شكيب أرسلان (1869- 1946) عندما قال: «لقد أضاع الإسلام جاحد وجامد». فقد سوّى بين الأمرين، أي الجحود بمعنى التنكر التام للهوية الثقافية، والجمود بمعنى الإبقاء على هذه الهوية في وضع ساكن ورفض ملاءمتها لتطورات العصر المعرفية والاجتماعية. لقد أطلق هذه العبارة في رسالة «لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟» الصادرة سنة 1930، وكانت الضغوط الأجنبية آنذاك أقوى بكثير مما عليه اليوم، وكان شكيب أرسلان من المناضلين من أجل تحرير المجتمعات من الحمايات الأجنبية، لكن ذلك لم يمنعه من أن يرى الأمر ويصفه على حقيقته، فالبقاء على الجمود والتقليد يزيد المجتمعات ضعفاً ولا يزيدها قوة ويعمق انهيارها أمام الضغوط الأجنبية ولا يحصنها منها. فلا يصح أن يطرح بالإصلاح جانباً باسم المقاومة لأن الإصلاح هو المقاومة الحقيقية وهو السبيل للقوة والمنعة.
أجل، لقد كان جواب شكيب أرسلان عن السؤال الذي طرحه على نفسه في العنوان متردداً، فجانب منه طغت فيه رؤية ماضوية للقوة، فأطال في الحديث عن الجهاد بالنفس والمال وأساء تقدير أهمية العلم ودوره في رقي المجتمعات وسكت عن قضايا أساسية مثل المواطنة ووضع غير المسلمين في مجتمعات ذات غالبية مسلمة. ولئن كان هذا الجزء هو الطاغي فإن جواب أرسلان قد تطرق أيضاً إلى المظاهر الحديثة للقوة فتحدث عن تأسيس المصارف العربية الأولى وأشاد بدور طلعت حرب (1876-1941) في هذا المجال وذكر طلائع المهندسين والمعماريين في الشام. ولا ننسى أن أرسلان قد كتب رسالة «لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟» مباشرة بعد زيارته للأندلس وحرقته لضياع تراث المسلمين فيها وأن بداية الثلاثينات من القرن قد شهدت بداية الصحوة الفلسطينية وأحداث طرابلس (ليبيا) وقضية الظهير البربري في شمال أفريقيا. إلا أن ما يظل صالحاً في جواب أرسلان هو هذا الاتهام القوي للجمود باسم الإسلام بأنه سبب ضياع الإسلام وتخلف المسلمين وأنه لا يقل خطراً عن الجحود حتى لو افترضنا من أصحابه حسن النية وصدق الطوية. وبذلك يكون أرسلان قد واصل اتجاهاً بدأ منذ القرن التاسع عشر لا يجعل قضية الجمود فرعاً بل يجعلها مكمن الداء وأصل العلل، وقد حمل لواء هذا الاتجاه قبله أعلام كبار أمثال عبدالقادر الجزائري وخير الدين التونسي ورفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده.
فالإسلام الإصلاحي الذي ينشد التميّز الواضح والجريء عن الإسلام التقليدي هو مطلب متجذر في النهضة العربية منذ انطلاقها ولا يمكن لهذه النهضة أن تتحقق إلا عندما تصبح قضية الإصلاح الديني على رأس قائمة الأولويات في كل المجتمعات ولدى كل القوى والأطراف التي تعمل صادقة على تخليص مجتمعاتها من قيود التخلف والانحطاط.
محمد الحداد
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد