ملح هذا البحر.. فيلم "فلسطيني" روائي يقرع أجراس العودة
على أصوات هدير بحر يافا وأمواجه المتلاطمة متداخلة مع موسيقى أغنية يا بحرية للفنان مارسيل خليفة بدأت أولى مشاهد فيلم ملح هذا البحر للمخرجة الفلسطينية آن ماري جاسر الذي يروي حكاية بدأت منذ ستين عاما حكاية اللاجئين الفلسطينيين الذين باتوا مشتتين في كل مكان بعد تهجيرهم من بيوتهم سواء في الداخل أو في الخارج.
يبدأ فيلم "ملح هذا البحر" الذي يشارك في مسابقة الأفلام العربية الروائيةالطويلة في مهرجان القاهرة السينمائي بصور فوتوغرافية عن رحيل الفلسطينيين في العام 1948 وتهجيرهم، صور عن النكبة وهي بداية أحزان الفلسطينيين التي توارثوها جيلا بعد جيل ثم صور لمراكب الصيد الصغيرة في بحر يافا التي رحل فيها الفلسطينيون منهم جد بطلة الفيلم ثريا التي قامت بدورها الممثلة الفلسطينية سهير حماد.
ملح هذا البحر صرخة سينمائية لحق العودة، الحلم الذي يطارد اللاجئين الفلسطينيين في كل مكان، هو صرخة ألم وأمل في الوقت ذاته بعيداّ عن طاولات المفاوضات والخطابات، هو احياء لذكريات أوشكت على النسيان ذكريات بدأت من بحر يافا البحر الذي يحمل عنوان هذا الفيلم.
اختيار مثل هذا العنوان الموحي للفيلم ملح هذا البحر لم يأت من فراغ حيث أشارت كاتبة السيناريو ومخرجته الفلسطينية آن ماري جاسر إلى أنها اختارت البحر الأبيض المتوسط كعنوان للفيلم لأنه يعني الكثير بالنسبة للفلسطينيين فهم كانوا يعيشون على ضفافه ويحبونه وفي العام 1948 عند حدوث النكبة كان البحر آخر ما رآه الفلسطينيون المهاجرين على الزوارق من يافا فهم محرومين منه ولم يروه منذ تلك اللحظة لافتة إلى أن الأمر لا يختلف بالنسة للاجئين في الداخل فهم يعيشون على البحر بس ممنوع يروحوا إحنا بنحب البحر وبنكرهه بنفس الوقت.
الشاطئ اليافاوي القديم الذي تغوص أمواجه بالذكريات كان نقطة بداية حكاية المخرجة آن ماري جاسر حكاية الفيلم الذي يروي قصة الفتاة الفلسطينية ثريا المولودة في بروكلين بنيويورك، والتي تحمل جواز سفر أمريكي وتقرر العودة إلى فلسطين للاقامة في بلدها أرض أجدادها لتسترد بعض من حقوق عائلتها التي ضاعت في العام 1948 بعد تهجيرهم إلى لبنان ومن ثمة إلى أمريكا.
لكن بمجرد وصول ثريا إلى المطار حاملة جوازا أمريكيا تكتشف معنى الحواجز والاغلاق ومعنى أن تكون فلسطين الغربة الأبدية وبأنه لا قيمة لجواز السفر الذي تحمله من خلال الذل الذي تتعرض له عبر التفتيش الدقيق لحقائبها وجسدها وطرح الأسئلة المتكررة والمستفزة في كل خطوة تخطيها من أين أنت؟ لماذا انت هنا؟.
إلا أن الذل والاستفزاز الذي تعرضت له ثريا لم يقلل من فرحتها التي بدت واضحة على ملامحها العربية لدى مغادرتها المطار في طريقها لمنطقة رام الله المنطقة التي يسمح لها بدخولها فقط.
يثير الفيلم الكثير من القضايا المرتبطة بالواقع الفلسطيني وتعقيداته اليومية كصعوبة التنقل والحواجز الاسرائيلية والجدار العازل من خلال توغل الكاميرا في تصوير مشاهد حياتية يومية من معاناة الشعب الفلسطيني فالفيلم واقعي يصور الحياة المأساوية التي يعيشها الفلسطينيون والتحدي والاصرار على حق العودة.
أرادت ثريا ببساطة أن تعود إلى بلدها فلسطين وأن تعيش فيها وتسترد الجنيهات القليلة التي تركها جدها في أحد بنوك يافا بعد مغادرته في العام 1948 لكنها تصطدم بالواقع المرير حين تذهب إلى البنك ويخبرونها بأن فلوس جدها لم يعد لها وجود ومن الصعب استردادها.
في المشهد هذا تتعرف ثريا على الشاب عماد الذي قام بدوره الشاب الفلسطيني صالح البكري، شخصية عماد كأي شاب فلسطيني يعيش في الداخل يحلم بالخروج من فلسطين من القمع والضغط والسجن الذي يعيش فيه يحلم بالذهاب إلى كندا بعد حصوله على التأشيرة ليعيش بأمان بعيدا عن البنادق والدبابات الاسرائيلية.
عماد من قرية صغيرة تدعى الدوايمة تقع في يافا وهي البلد الذي حدثت فيه مذبحة الدوايمة وهجرها اهلها في العام 1948 والفيلم مهدى إليها ، وعماد لا يختلف كثيرا عن ثريا فهو لم يصل إلى البحر منذ 17 عاما بالرغم من أنه بقربه لأنه ممنوع من مغادرة منطقة رام الله للذهاب إلى يافا.
الفرق بين عماد وثريا بأن عماد لاجئ يعيش في الداخل وثريا تعيش في الخارج لكن لديهما حلم واحد العودة إلى يافا ورؤية البحر ومثلما تسرب عماد وثريا ودخلا يافا خلسة، جميع المشاهد المصورة في الفيلم تمت هكذا أيضا فلو عرف الكيان الصهيوني بذلك لما سمح بالتصوير ولما أنجز الفيلم.
فالصعوبات التي واجهت الفيلم متعددة فهو فيلم ليس كباقي الأفلام فهو يتناول قضية حساسة ومهمة ليس فقط للفلسطينيين بل للعالم بأكمله هذا ما أكدته المخرجة آن ماري جاسر في حديثها حيث أشارت إلى أن قضية العودة هي خط أحمروطرحها سينمائيا ليس بالأمر السهل لأنه يناقش مشاكل اللاجئين الفلسطينيين وحقهم في العودة إلى وطنهم هذا لافتة إلى أن الصعوبات شملت صعوبات مادية تمثلت في الحصول على الدعم والصعوبات التقنية من ناحية تصوير الفيلم في فلسطين والذهاب إلى يافا.
دخول آن ماري جاسر إلى فلسطين وتصويرها فيه وانجازها للفيلم يعد اسطوريا خصوصا بعد منعها أكثر من مرة للعودة إلى هناك لكن المخرجة الفلسطينية التي تعيش الآن في الأردن استبعدت أن يكون عدم حصولها على تأشيرة للرجوع إلى فلسطين مرتبطا بالفيلم موضحة ذلك هناك عدد كبير مثلي "فلسطينيون" يحملون جوازات سفر أجنبية لا تعطيهم اسرائيل "فيزا" وهذا ليس جديدا ببساطة لأنني فلسطينية ولا يريدوننا أن نعود هذا كل ما في الأمر.
ما حدث مع مخرجة الفيلم ملح هذا البحر آن ماري جاسر التي تحمل جوازا أمريكيا لا يختلف كثيرا عما حدث مع بطلة الفيلم ثريا الشخصية الفلسطينية الموجودة داخل كل فلسطيني لاجيء يحلم بالعودة.
ولم يخل الفيلم أيضا من الرمزية فالمشهد الذي تحاول فيه ثريا استرداد نقود جدها من خلال شرح وجهة نظرها لمدير البنك هذا حقي، ويرد عليها بأن المصاري راحت والبلاد راحت.. كل اشي راح ما هي إلا اشارات على ضياع الحق والأرض تغلفه الحسرة.
إلا أن ثريا ترفض ذلك بقوة وتقنع عماد الشاب الفلسطيني الذي تعرفت عليه وتتوطد علاقتهما فيما بعد بالسطو على البنك واسترداد حقها المتمثل في نقود جدها الذي تركها.
ما يؤخذ بالقوة يسترد بالقوة هذا ما فعلته ثريا مع عماد وصديقه حين تقرر سرقة أموال جدها من البنك بعد فشلها في الحصول على حقها وهي رموز تدل على امكانية استعادة الحق.
وتبلغ دراما فيلم ملح هذا البحر ذروتها حين تذهب ثريا لزيارة بيت جدها في يافا الذي تسكنه اسرائيلية حين تبدي ثريا استعدادها بأن تسمح للاسرائيلية بالبقاء لكنها تريد اعترافا منها بأنه كان لأهلها وسرق منها والنتيجة كانت بأن الاسرائيلية طلبت لها الشرطة.
الثورة التي أصابت البطلة ثريا في هذا المشهد مقابل الهدوء الذي اتسمت به الاسرائيلية التي تعيش في بيتها اظهرت الفتاة الاسرائيلية بمنتهى الرقة في تعاملها وتصرفها وهذا فيه نوع من "الفنتازيا" يتناقض مع الواقع ومغزى الفيلم لكن بطلة الفيلم ثريا الفنانة الفلسطينية سهير حماد علقت على ذلك بقولها بأن مشكلة اللاجئين الفلسطينيين هي فنتازيا بحد ذاتها ولا تستطيع الحكم من هو الفائز ولمن البيت.
وليس غريبا على بطلة الفيلم الممثلة سهير حماد أن تقول هذا فهي من اللاجئين الفلسطينيين ولدت وترعرت في أمريكا وتحمل الجواز الأمريكي فهي تشاطر ثريا الفتاة التي قامت بدورها الكثير من الأحاسيس والأحلام مشيرة بقولها ثريا هي كل واحد منا، هي كل فلسطينية.
لذلك كان أداؤها صادقا في التمثيل وبدا ذلك واضحا في المشهد الذي أجبرت فيه الدورية الاسرائيلية عماد على خلع ملابسه كافة أمامها وكانت نظراتها الممتزجة بالصمت كافية للتعبير عن مدى القهرالتي أحست به.
"البحر من أمامكم والعدو من خلفكم" بهذه العبارات استقبلت البطلة ثريا بحر يافا، الذي لم تره في حياتها، لدى وصولها هي وصديقها عماد إلى يافا "أراضي 1948" أما عماد فالبحر يعني له الكثير بعد فراق دام 17 عاما إلا أن أحاسيسه كانت اقوى لدى وصوله إلى قريته الدوايمة التي تغيرت ملامحها واسمها لكنه يقرر هو وثريا المكوث في أحد البيوت المهجورة في قرية الدوايمة التي يصر على أنها بيته حين يعلق على حائطها المهجور عبارة بيتي العزيز.
لكن فرحتهما لم تكتمل ببيتهما حين توقفهما دورية للشرطة الاسرائيلية وتمسك بهما على أثر أنهما تسللا إلى داخل أراضي يافا من غير أن يمتلكا تصريحا أمنيا بذلك لتنتهي قصة عماد وثريا هناك بأخذ الشرطة الاسرائيلية لعماد وترحيل ثريا إلى المطار لأن فترة اقامتها كانت قد انتهت.
وكما بدأ الفيلم بسؤال البطلة ثريا من أين أنت لماذا أتيت إلى هنا؟ انتهى الفيلم بذلك لكن اختلفت اجابات ثريا أنا فلسطينية بدلا من بروكلين أما معي جواز فلسطيني في اشارة إلى الجواز الأمريكي الذي تحمله. فالعبارات تحمل سخرية وتهكم واضح بأن جوازات السفر لا تدل على الهوية والانتماء وما هي إلا ورقة للعبور.
الفلسطينية آن ماري جاسر نجحت في قرع أجراس العودة في أول فيلم روائي طويل لها جرى عرضه في مهرجان "كان" السينمائي لهذا العام، وتم ترشيحه للتنافس على ترشيحات جوائز الأوسكار كأفضل فيلم أجنبي.
تعد آن ماري جاسر أحد أبرز وجوه السينما الفلسطينية المستقلة تعمل في السينما منذ العام 1994 ككاتبة ومحررة ومخرجة لعديد من الأفلام التي حازت على العديد من الجوائز ومن أفلامها "ما بعد أوسلو" و"بعض فتات للعصافير" و"كأننا عشرين مستحيل" الذي نالت عنه جائزة أحسن فيلم قصير في مهرجان مانهايم 2004، وجائزة معهد العالم العربي بباريس كأفضل فيلم قصير 2004.
نسرين منصور
المصدر: العرب أون لاين
إضافة تعليق جديد