فواز حداد.. النار تشتعل في بيتنا
نهاية العام الماضي صُنفت رواية «المترجم الخائن» لمؤلفها فواز حداد ضمن لائحة الروايات الست المرشحة للفوز بجائزة بوكر للرواية العربية عام 2009، وفيها تابع الروائي السوري استكمال ملامح مشروعه الأدبي المعني بتقديم شهادة صادقة على عصر ينّضح بأسباب التسلط والفساد وهدر الكرامة الإنسانية على كل الصعد والمستويات.
مع الروائي السوري فواز حداد كان لنا الحوار التالي: يلاحظ المتتبع لنتاجك الروائي أنك تكتب وفق مشروع أدبي متكامل، إحدى مسوغاته الأساسية تعرية أسباب الفساد وامتهان الحقوق والكرامة الإنسانية، فهل هو أمر مدروس، أم أنها مجرد مصادفات؟
يعتقد الكاتب أنها مجرد مصادفات في البداية، بعد حين يشعر أنه لا مصادفات، بل يكتب وفق مخطط لا يخلو من بعض الغموض لكنه لا يفتقر إلى الوضوح، وربما كان هو نفسه جزءاً من هذا المخطط. يعايش الروائي كتابه زمناً قد يبلغ أحياناً عدة سنوات، هذا الانغماس لا يخضع للمزاج ولا تطيقه نزوة، ثمة ما يتحكم به، بلوغ هدف أو تحقيق غاية، وبالتالي كل كلمة محسوبة عليه في عالم بات يصنع على غرار ما يجري في الخارج، لكن وفقاً لما يتراكب في داخله.
تعرية الفساد وامتهان الحقوق والكرامة الإنسانية، من الموضوعات التي تطرقتُ إليها في رواياتي الأخيرة، إذ لا يمكن تجاهلها في الوقت الحاضر، وهي من الموضوعات الكبرى التي لا تموت في الرواية، لكل عصر أساليبه وتنويعاته في الفساد مهما تخفت وراء المظاهر، قديمة أو جديدة، حضارية أو فجة. الفساد هو العنصر الوحيد المتوارث الذي لا ينقصه الابتكار، ولا تمس جوهره عوامل التقدم، لأنه يتقدم ويتطور معها.
تلعب ثنائية الضحية والجلاد دوراً مؤسساً في إطار مشروعك الروائي، ويتقمص البطل عادة الضحية التي غالباً ما تعكس صوت المثقف أو المبدع، «المترجم الخائن» على خلاف روايتك الجديدة التي جعلت من المثقف والمبدع أداة من أدوات القهر الفكري، ورمزاً من رموز العسف والانحطاط الخلقي، فما هو سر هذه النقلة المضادة؟
اعتقد أنني أحاول التركيز على مسألة البطل في عصرنا، إنه رجل عادي يخرج من جموع البشر، مسحوق نوعاً ما، هذا العصر لا يسمح له إلا أن يكون إنساناً مغلوباً على أمره. هل بوسعه أن يثبت العكس؟ أقصد لا أن يقاوم فحسب، وهذا ما أعمل عليه وأعتقد به، بل أن يجترح شيئاً ما، أي أن يبتكر أسلوباً أو طريقة ما للتأكيد على وجوده وما يريده. هل ينجح في الدفاع عن نفسه، والإبقاء على هدفه؟ بالمناسبة هذا الإنسان لا يمتلك قدرات خارقة، كما أنه ليس مثالياً، لديه عيوبه ونقائصه، لكنه لا يرغب في ترك مقاديره للسلطة ولا للمجتمع.
في روايتي «المترجم الخائن» ثمة التفاتة إلى دوائر المثقفين، المروع فيها، أنهم لا يشذون عن بعض المجتمعات الأخرى، التي لا تهتم كثيراً بأولويات القيم والمتطلبات الثقافية، فيمارسون الأساليب نفسها، والأكثر سخرية أنهم يمارسون نقائصهم تحت غطاء أخلاقي، فيستغلون المثل والمبادئ في الكذب والاختلاق والادعاء. لهذا نرى الانحطاط لدى المثقف مضاعفاً، لأنه يستعين بمفردات مثالية لقمع الآخرين، وربما القضاء عليهم.
إذاً لا سر في هذه النقلة، مجرد أنني أتابع عملي في الكتابة، لكن هذه المرة ما جعل الأمر مؤلماً وشاقاً، أن النار تشتعل في بيتنا.
رسمتَ فسيفساء حادة الألوان عن الوسط الثقافي بكل رموزه المتخاذلة والمستزلمة والمأجورة، وجعلته محكوماً بسلطة ثقافية لا تقل سوءاً عن أية سلطة قمعية أخرى، فهي قادرة على التهميش والإقصاء والنفي والتجويع، وفي إطار هذه اللوحة كان الجميع مداناً، أقله من الناحية الأخلاقية، إن لم يكن على مستوى السلوك، ولكن ألا تعتقد أن في تلك الإدانة الجماعية قليلاً من التجني؟
لقد تعرضت إلى الجانب السيئ من الجسم الثقافي، ولسوء الحظ، كان جانباً لا يستهان بحجمه وإمكاناته، ولا عجب، المتسلقون عادة يتصدرون الواجهة. هذا ما نلاحظه بوضوح في بلداننا العربية، عندما تعتمد الحياة الثقافية على الشللية، والنفوذ السلطوي للمؤسسات الثقافية، لذلك من الطبيعي أن يكون التدني الثقافي مصحوباً بقبضة حديدية.
الأمر الذي لا يعمل له المتنفذون حساباً له، هو ما يوقعونه من أذى على زملاء لهم، لم تتوفر لهم صلات وعلاقات تحميهم منهم على الأقل. إيذاء يوصلهم إلى اليأس من مهنة لا تدر مالاً، مع أن كل ما يطمحون إليه بعض التقدير المعنوي.
المسألة تتعدى الغبن إلى الإلغاء، وكأن الآخرين لا يستحقون شيئاً سوى العزل، هذه الأنانية المفرطة تمارس بكل تعنت. البشر عموماً قساة، وإذا صادف أن بعضهم مثقفون، فما الذي يمنع من أن يكونوا أكثر قسوة من أشباههم؟! وإذا كانت الرواية تحمل شبهة الإدانة الجماعية ودون أن تقصده، فلأن هناك الكثير ممن هضمت حقوقهم.
كيف نشأت وتبلورت ملامح البطل حامد سليم، ذلك المترجم المبدع والخائن للنص الأصلي في ذات الآن، الذي حورب في لقمة عيشه، فاضطر لأن يختبئ تحت أسماء وهمية، ويقدم تنازلات أوصلته إلى حدود الانفصام النفسي إلى عدد من الشخصيات المتصارعة في داخله؟
عندما يقول الكاتب ما لا يريد قوله، ويفعل ما لا يريد فعله، ويفكر بما لا يرغب في التفكير به، ويضطر إلى الاهتمام بما هو خارج اهتماماته. ترى ما الذي يحدث له؟! ألن ينقلب هذا الإنسان إلى شخص آخر، ألا يحس أن شخصيته تنتزع منه؟! ترى ما الذي يبقى من شخصيته الحقيقية؟ هذه سلسلة، حلقة تقود إلى حلقة، ودائماً إلى المزيد من التدهور، والانقسام والتفتت.
وإذا أراد الانسجام مع من حوله، والبقاء على قيد الحركة، فلن يبقى منه سوى موزع أدوار، ومنسق يعمل على ترتيب ظهور شخصياته واختفائها، والإشراف على نشاطاتها، لئلا يحصل تداخل فيما بينها. هل هذه فانتازيا؟ نعم، لكنها تكثيف للواقع.
إذا كانت دمشق هي الحاضنة المكانية لتفاصيل الرّدة الثقافية، فإن ملامح الرّدة لم تطل المثقفين السوريين فقط، بل شملت أقرانهم من العراقيين والفلسطينيين عبر نماذج تعيش في دمشق، فهل قصدت تعميم مسارات الانهيار، أم هو الالتزام بالصورة الواقعية للمشهد؟
دمشق أنموذج من الممكن تعميمه على المنطقة العربية، مع الفوارق طبعاً من ناحية خصائص المشكلات الثقافية المحلية لكل بلد على حدة، لكننا عموماً نرزح تحت الانهيار ذاته، ما يشكل بانوراما عامة.
بالنسبة لسوريا، انعكس الصراع الفلسطيني والمأساة العراقية على المشهد الثقافي وكانا فاعلين ومشاركين فيه، طوال عقود لاسيما خلال السنوات الأخيرة، وكانت له آثاره على الجميع؛ هذه تعتبر الخلفية المباشرة. أما الخلفية الأبعد والأهم أيضاً، فهي سقوط الاتحاد السوفييتي وتفكك الكتلة الاشتراكية وانهيار جدار برلين، ومعهم تداعي منظومة فكرية، كانت الحامل للثقافة طوال عقود. هذا الانهيار دفع بعض المثقفين نحو القفز إلى الجهة المعاكسة تماماً. فلنتصور عندئذ التبريرات الفكرية التي ابتدعت لتفسير هذا التحول الدراماتيكي!!
تقنية العودة إلى الماضي التي اتبعتها، جعلت الحاضنة الزمنية في «المترجم الخائن» تمتد على قرابة الثلاثة عقود الأخيرة، فلماذا جعلت سقوط المثقفين يرتبط بأزمنة الحروب: الاجتياح الإسرائيلي لبيروت والغزو الأميركي للعراق؟
العودة إلى الماضي كانت ضرورية، لنرصد تأثيرها على الوسط الثقافي خلال زمن شهد متغيرات كثيرة في فترة قصيرة نسبياً، ولنرى كيف جاراها بعض المثقفين، واستفادوا منها.
الاجتياح الإسرائيلي لبيروت والغزو الأميركي للعراق شكلا لحظات مفصلية في هذا التاريخ، ليس على أرض الواقع فقط، بل وفي الثقافة بمختلف تشعباتها. فالأدب الذي أخذ قضية المقاومة على عاتقه وانتصر لها، تخلى عنها عندما انهزمت حسب اعتقادهم، مع أنهم بنوا شهرتهم وأمجادهم عليها. كذلك الموقف من السياسات الأميركية، كانت الدعوة إلى تفهمها، وليس التمرغ في أحضانها. نحن نعيش في حالة حرب مستمرة، والمؤلم أن هناك من يستفيد من هذه الحالة سلباً وإيجاباً.
لقد اخترت دوماً أن تحرر نصك من غموض اللغة والتباساتها، حتى أنك تقول على لسان المترجم الخائن: «إياك والانصياع لوهم يقيس عمق الفكر بغموض التعبير»، كما اخترت لرواياتك الثلاث الأخيرة أن تُسرد بواسطة الراوي الخارجي، وأن تكون ذات أحجام كبيرة، وهذا نهج يخالف ما يُعرف بالكتابة الجديدة التي يراها البعض ماثلة في الاختزال والغموض والسارد الداخلي، فهل تضع نفسك في خانة الكتّاب الكلاسيكيين، أم ماذا؟
المؤسف أن بعض الكتاب يظنون بمجرد كتابة بعض الروايات أنهم ابتدعوا جديداً. إن الاختزال والغموض والسارد الداخلي، ليست من اختراع ما يدعى بالرواية الجديدة، هذه التقنيات موجودة منذ عقود طويلة، وأصبحت من الأدوات الشائعة في الكتابة الروائية.
كذلك من السخرية أن يوجد من يتكلم عن الأحجام، وكأن الرواية تقاس جودتها وتحصل على براءة الاختراع كلما قل عدد صفحاتها، وهذا لا علاقة له بالكثافة والإيجاز. هناك روايات صغيرة الحجم تُعد من عيون الأدب العالمي، وهناك أيضاً الروايات الكبرى (الحرب والسلام، البحث عن الزمن المفقود، عوليس....) شقت للرواية تياراتها الرئيسة.
كما أنني لست ضد الغموض بالمطلق، وإنما في الاتكاء عليه دون مسوغ، لإضفاء الأهمية على ما نكتبه. أتحرى الدقة في التعبير، وهذا أكثر ما يؤرقني، وأؤكد على المعنى، ليس المعنى فقط بل والتباساته أيضاً.
كثيراً ما تُختلق تمايزات غير حقيقية، من جراء الافتقار إلى المعرفة. بالنسبة إليَّ، ليست لدي أوهام حول الرواية، لدي أسئلة كثيرة، وأعرف أن الرواية الجيدة، هي استعمال التقنيات الروائية بدراية وعدم إهدارها كيفما اتفق، هذا من الناحية الحرفية. أما من ناحية المضمون فلابد من قول شيء، وإذا لم يكن، فلا مبرر للرواية أصلاً.
عادة أضع نفسي، في خانة الكتاب الكلاسيكيين، دون التقيد بالقواعد الكلاسيكية نفسها، وأجتهد في خرقها، عندما تستلزم الرواية ذلك.
ما الذي عناه إليك ترشيح «المترجم الخائن» لجائزة بوكر للرواية العربية؟
روايتي هذه أسوة بغيرها من روايات القائمة القصيرة، لفتت أنظار اللجنة المُحكمة، وهو أمر أسعدني، وجعلني أحس بأنني نجحت في مخاطبة الآخرين على النحو الذي أرغب فيه، وأن هناك من أصغى إلي.
فواز حداد في سطور
* وُلد الروائي السوري فواز حداد في دمشق.
* نال إجازة في الحقوق من الجامعة السورية.
* تنقل بين الأعمال التجارية والصيدلة إلى أن تفرغ للأدب تماماً بعد صدور روايته الأولى «موزاييك» عن دار الأهالي عام 1991.
* بعدها أصدر رواية «تياترو» عام 1994 والمجموعة القصصية «الرسالة الأخيرة» في نفس العام، ثم رواية «صورة الروائي» عام 1988 وبعد ثلاث سنوات أصدر روايتيه «الولد الجاهل» و«الضغينة والهوى» وفي عام 2004 «مرسال الغرام»، ثم «مشهد عابر» وفي العام الماضي «المترجم الخائن» وقد صدرت رواياته الثلاث الأخيرة عن دار الريس.
تهامة الجندي
المصدر: [جريدة البيان
إضافة تعليق جديد