الرقابة الداخلية في سوريا بين الواقع والمرتجى
تعتبر الرقابة الداخلية بمختلف فروعها وتصنيفاتها الإدارية والمالية، من أهم عناصر الإدارة الحديثة لأي بلد أو مجتمع يسعى لتطوير موارده واستثمار إمكاناته المادية والبشرية بالصورة الأفضل والأمثل، وبما يضمن حسن سير وتنفيذ الخطط والبرامج العملية الموضوعة والمعتمدة من قبل هيئات وإدارات هذا المجتمع من أجل تحقيق هدف التنمية البشرية الأساس والمتمثل في بناء إنسان صحيح ومعافى، وقادر على التخطيط والإبداع وتحقيق النتائج المرجوة منه على طريق الإثمار الحضاري المادي لبلده ومجتمعه.
وإذا ما أردنا أن نكون أكثر تخصصاً في تحديد معنى دقيق للرقابة، يمكن القول بأن العملية الرقابية هي سلسلة الأعمال القانونية (من خطة تنظيمية ووسائل تنسيق ومقاييس ومعايير) المتبعة في أي ملف أو مشروع بهدف حماية أصوله وضبط ومراجعة البيانات المحاسبية وغير المحاسبية، والتأكد من دقتها ومدى الاعتماد عليها، وزيادة الكفاية الإنتاجية، وتشجيع العاملين على التمسك بالسياسات الإدارية القانونية الموضوعة من قبل الإدارات العليا.
طبعاً، بدأ الاهتمام ببناء أسس ومقومات الرقابة منذ أمد بعيد، حيث رأينا في تاريخنا العربي نشوء دواوين خاصة بالمحاسبة والمراقبة لضمان حسن تنفيذ عمل الدولة بكافة مؤسساتها ومواقعها الإدارية والإنتاجية..
وفي بلدنا سوريا الذي دخلت إليه أسس ومقومات نظم الإدارة الحديثة منذ زمن غير بعيد، توجد لدينا هيئة عامة للرقابة والتفتيش، كما يوجد جهاز مركزي للرقابة المالية، يعملان تحت إشراف السلطة التنفيذية (رئاسة مجلس الوزراء) من أجل متابعة ومراقبة عمل مختلف إدارات ومؤسسات وأجهزة الحكومة، وملاحقة سلوكيات موظفيها الإدارية والإنتاجية.
ولا شك بأن قيادة الدولة واكبت عمل هذا الجهاز الرقابي الإداري والمالي التفتيشي منذ بداية نشوئه، ووضعت ثقتها وثقة الشعب فيه، من خلال دعمه مادياً ومعنوياً، وتأمين ظروف ومتطلبات نجاحه في تحقيق الغاية المرجوة منه وهي أن يسهم بفعالية في تحسين أداء الموظفين، وزيادة فرص إنجاح خطط التنمية الموضوعة من قبل السلطة التنفيذية.
ولا يزال هذا الدعم من أعلى قيادات الدولة –التي يقف على رأسها السيد الرئيس بشار الأسد- مستمراً ومتواصلاً آخذاً صوراً وأشكالاً متعددة تتركز وتنطلق أساساً من موضوعة تطوير وتحديث موضوع الرقابة الإدارية والمالية لكي تواكب متطلبات التنمية وتطوير مختلف أوجه وفعاليات البناء المجتمعي (فرد-إدارة-بيئة-معيشة-معاش-احتياجات-..الخ)..
وقد لاحظنا في الآونة الأخيرة إعادة طرح موضوع الرقابة الداخلية (الإدارية والمالية) على بساط البحث السياسي والإعلامي، بعد تعيين مدير عام جديد لها، واجتماع رئيس الوزراء المهندس ناجي عطري بكوادر وعناصر الهيئة العامة للرقابة والتفتيش، وتأكيده خلال الاجتماع المذكور على الأهمية القصوى للعمل الرقابي في سوريا، الذي ينتظر منه –كما قال- مكافحة الفساد وتجفيف منابعه، ورفع مستوى الفاعلية الإنتاجية عبر تشجيع ودعم المبادرات الإدارية، وإشاعة مبدأ تحمل المسؤولية، وخلق حالة من الثقة التي تدفع إلى تطوير آلية العمل وتوفير الخدمات للمواطنين. داعياً إلى (ومؤكداً على) دعم العملية الرقابية والتفتيشية من دون حدود، وتأمين كل متطلباتها ومستلزماتها..
إلى هنا، والكلام جميل وينم عن عقلية إدارية متطورة، وهو يدل أيضاً على أن هناك -وبكل تأكيد- قراراً سياسياً موجوداً ومتخذاً منذ زمن طويل بأهمية هذا الجهاز الرقابي، وضرورة دعمه بالكامل، وتوفير مناخات تطويره وسبل نجاحه، مما شكل -ويشكل باستمرار- الحماية الأساسية والسند الحقيقي له..
ولكن المشكلة ليست هنا، وإنما هي في عدم تنفيذ وتجسيد بعض قرارات الدعم على أرض الواقع، الأمر الذي ساعد على تحويل العمل الرقابي إلى ما يشبه العمل الوظيفي الروتيني العادي، بحيث بتنا نرى في بعض دوائر الرقابة السلبيات والعقبات والعراقيل ذاتها التي نراها ونشاهدها ونعاينها في أية مؤسسة أو دائرة حكومية أخرى، في الوقت الذي يجب أن يكون عمل الجهات الرقابية –المولجة حماية القانون وضمان تنفيذه- قدوةً وأسوةً لغيرها من مؤسسات وإدارات الدولة في دقة العمل وسرعة إنجاز الملفات، وحسن تنفيذ المهام وتحقيق الغايات والأهداف الموكولة إليها.
طبعاً لا شك بأن هناك مشاكل وصعوبات مادية وإدارية بالغة تعاني منها العملية الرقابية في سوريا، ولابد من تشخيصها بدقة وعناية، ومواجهتها بصدق وشفافية وجرأة، من أجل اعتماد حلول جدية وموضوعية سريعة لها، بما يخدم تطوير وتفعيل دور الرقابة، وسرعة إنجازها لأعمالها ومهامها، وتحقيق العدل في مجمل الملفات التي تقوم بمعالجتها، والحرص الأكيد أولاً وأخيراً على حسن سير العمل، بما فيه حسن استخدام الموارد المتاحة (وعلى رأسها حسن اختيار الأفراد للوظائف التي يشغلونها)، ومراقبة أصول المؤسسات والمنشآت بهدف حمايتها من أي تلاعب أو اختلاس أو سوء استخدام، إضافةً إلى ضرورة وعي العمال لأعمالهم وواجباتهم وحقوقهم الوظيفية في كل مواقعهم الإنتاجية..
ضمن هذا السياق، نقدم فيما يأتي بعض العناصر أو المقترحات التي نعتقد أنها ضرورية لتطوير الجهاز الرقابي وجعله أكثر فاعلية ودينامكية، وهي قابلة للنقاش والحوار والإضافة والتعديل:
- نقل تبعية هيئة الرقابة من السلطة التنفيذية إلى السلطة التشريعية، أو جعْلها تابعة مباشرة لرئاسة الجمهورية الأمر الذي سيوفر لها كل الدعم والغطاء المعنوي الذي تحتاجه لتفعيل دورها وعملها، والخروج من نفق الرتابة والظن والتخمين ومزاجية بعض المفتشين.
- العمل على وضع مناخ وبيئة قانونية مناسبة عادلة يمكنها المساهمة في زيادة زخم عمل الرقابة والمراقبين، بحيث تنطلق أساساً من فكرة بسيطة وهي أن الرقابة ليست هدفاً، وإنما هي وسيلة فاعلة يمكنها أن تساهم في تحقيق أهداف الدولة في زيادة الإنتاج والبناء، وبالتالي الوصول إلى حالة متقدمة من الرقي الحضاري. أي أن العمل الرقابي ليس هو الغاية النهائية للعمل، ولكنه وسيلة أو أداة من الوسائل والأدوات التي تعتمدها أية دولة أو مؤسسة لتطوير عملها وإنجاح خططها وبرامجها التنموية.
- إعطاء وتحديد سقف زمني لإنهاء الملفات التي تعمل عليها عناصر ومفتشي الرقابة الداخلية قبل تحويلها إلى القضاء المختص.
- توفير الكوادر والعناصر البشرية الكفية والمؤهلة والمدربة والمستقلة والحيادية. وضمان تحقق الحيادية هنا هو:
-أولاً: وجود أخلاق عالية وضمير وطني حي ومسؤول لدى تلك الكوادر المولجة تنفيذ بنود قانون الصالح العام.. ويمكن لهذا المطلب أن يتجسد ليس فقط عبر حالة الإلزام القانوني، وإنما أيضاً من خلال إشاعة المدركات الأخلاقية والدينية والثقافية والحضارية.
-وثانياً: تأمين حالة معاشية مقبولة وجيدة لأعضاء الرقابة.. أي تحقيق الاستقلالية المادية والدعم القانوني والمعنوي لهم منعاً للحاجة ومد اليد إلى هذا أو ذاك بما يؤثر سلباً على وظيفة الرقابة الأساسية، ويمنع تحقيق أهدافها.
- تفعيل عمل الهيئة، ودعمها الهيئة مادياً ولوجستياً من حيث ضرورة توفير بنية تحتية مناسبة تساهم في رفع مستوى عمل الهيئة وتحقيق مقوماتها الحقيقية المتمثلة في (البيئة الرقابية-الإجراءات الرقابية-تقييم المخاطر-نظام المعلومات والتوصيل-الإشراف والتوجيه)..
والتفعيل هنا يقتضي أن يتناول أربع قضايا أساسية هي:
أ. هيكلية مختلف الإدارات الرقابية، وتحديد مهامها وصلاحياتها بحيث يُعاد تكوينها على أسس علمية ومسلمات إدارية معروفة، لعل من أبرزها ضرورة خلو هذه التنظيمات والهيكليات من الازدواجيات وتنازع الصلاحيات إيجاباً كان أم سلباً، وبالتالي ضياع المسؤولية، وهدر النفقات، وسوء تحديد المهام، وتقادم شروط التعيين.
ب. توفير العنصر البشري النوعي الماهر في هذه الإدارات، بحيث يقع الاختيار دائماً على صاحب الجدارة والمهارة على قاعدة تكافؤ الفرص، والمؤهلات والتنافس في العمل تحقيقاً لمصلحة العمل والصالح العام.
ج. أساليب العمل، وهنا ينبغي أن يعاد النظر في آليات وأساليب العمل القائمة لجهة تبسيطها، وخلوها من التعقيدات الإدارية والعملية، وجعلها أكثر مرونة وشفافيةً، مع تحديد أصول إنجاز الملفات، لتصبح أكثر فاعلية وجدوائية.
د. توفير وسائل العمل من أدوات وتجهيزات وآلات ومعدات تعتبر من لزوميات أساليب العمل الرقابي مثل: (مباني حديثة-رواتب جيدة-سيارات-حوافز ومكافآت عن إنجاز كل مهمة وإنهاء كل ملف رقابي)..
- إلزام كل عضو في الهيئة بالتصريح الخطي عن أمواله المنقولة وغير المنقولة، وماهية مصدرها، والزيادة عليها.. والطلب إليه تحديد نوعية الأعمال التي يمارسها خارج أوقات دوامه الرسمي إذا كان يمتهن أو يمارس عملاً تجارياً أو غير ذلك، حيث أنه يوجد عدد كبير من موظفينا –في الرقابة وفي غير غيرها- يزاولون أعمالاً أخرى ليتمكنوا من زيادة دخولهم المعاشية، لكي يتمكنوا من مواجهة صعوبات الحياة، بما يساعدهم على تلبية متطلبات أسرهم وتأمين احتياجاتهم المادية والمعيشية.
- العمل على توحيد أجهزة وهيئات الرقابة الإدارية، وتحديد أهدافها ومبادئ وأسس عملها في إطار تدعيم تحمل المسؤولية، وتنشيط حرية الإبداع والابتكار.
العمل بمبدأ الشفافية والوضوح الكامل في جميع الملفات المطروحة، مع تحديد كامل لمجمل الإجراءات التنفيذية بطريقة تضمن انسياب العمل.
م. نبيل علي صالح
إضافة تعليق جديد