مشروع أبو خليل القباني عُطّل مراراً ثم مُنحت فرصةإنتاجه للقطاع الخاص
تحولت حياة الرائد المسرحي السوري أبو خليل القباني (1833- 1903)، إلى مادة للتجاذبات الدرامية، بعد أن أعلن المخرج هيثم حقي أنه بصدد إخراج مسلسل عن حياة هذه الشخصية الدمشقية التنويرية الهامة، كتبه الروائي السوري المعروف خيري الذهبي، وتنتجه شبكة قنوات أوربت التي يعمل حقي منتجاً منفذاً لها.
الإعلان عن هذا المشروع، أثار المخرج مأمون البني، الذي كشف لـ 'القدس العربي' أنه تبنى نصاً عن أبي خليل القباني حين كان رئيس دائرة المخرجين في التلفزيون السوري قبل أكثر من عشرة أعوام... وأن العمل ملك للتلفزيون السوري، وهو مشروع شخصي له، عمل عليه لسنوات طويلة.. وكان مطروحاً للإنتاج المشترك بين مصر وسورية مؤخراً.. قبل أن يفاجأ بأن التلفزيون السوري تخلى عن المشروع لصالح القطاع الخاص، وتنازل عن دوره في إنتاج عمل يعكس جزءاً هاماً وأصيلاً من ذاكرة الثقافة الوطنية في سورية!
ريادة فنية ودراما حياتية!
ويعتبر أبو خليل القباني المؤسس الحقيقي للمسرح في سورية، ناهيك عن أنه كان رائداً حقيقياً لظاهرة المسرح الغنائي في الوطن العربي، إذ أن تجربته التي تعود إلى ستينيات القرن التاسع عشر، لم تكن مسبوقة في هذا المجال.. وخصوصاً أن أبا خليل كان شاعراً وكاتباً مسرحياً وموسيقياً فذاً وعاشقاً لفن الموشحات نظماً وتلحيناً... فضلا عن أنه كان مؤسساً لفرقة مسرحية قدمت أولى عروضها المسرحية في دمشق عام 1867 من خلال مسرحية (ناكر الجميل) المقتبسة عن ألف ليلة وليلة، التي قدمها في دار جده الدمشقية الواسعة... قبل أن ينتقل لاحقاً ليؤسس مسرحه الخاص في (جنينة الأفندي) بدمشق، بدعم مادي ومعنوي من والي دمشق العثماني المتنور مدحت باشا.. وقد استمر أبو الخليل القباني في نشاطه المسرحي بدمشق أكثر من خمسة عشر عاماً، وكان من بين الأعمال الهامة التي قدمها (أوبرا عايدة) التي كان قد ترجمها اللبناني مارون النقاش... ناهيك عن النصوص المسرحية الكثيرة التي كتبها بنفسه... إلا أن نشاطه المسرحي الحافل أثار عليه بعض رجال الدين المتزمتين الذين أوصلوا شكواهم إلى السلطان العثماني عبد الحميد، وأوغروا صدر الباب العالي عليه، فأصدر أمراً بإيقاف هذه (البدعة الفاجرة) ثم ألفوا الأهازيج الهجائية التي كانوا يلاحقونه بها في الحارات والأزقة، والتي اشتهر منها:
أبو خليل مين قلك
على الكوميدا مين دلك
إرجع لكارك أحسن لك
إرجع لكارك قباني
كما أحرق مسرحه في دمشق على يد بعض الرعاع... الأمر الذي دفعه إلى الهجرة إلى مصر... فقصد الإسكندرية مع فرقته المسرحية عام 1884، ومنها إلى القاهرة ليبدأ هناك مرحلة حافلة من نشاطه الإبداعي .
مثل القباني في الإسكندرية خمسا وثلاثين مسرحية غنائية، قبل أن ينتقل إلى القاهرة مع فرقته السورية ليصل مجموع ما قدمه من مسرحيات أكثر من سبعين مسرحية غنائية، وقد بلغ إعجاب الخديوي توفيق به، أن أمر بأن تقدم له دار الأوبرا لأكثر من أسبوعين يعرض فيها مسرحياته بلا مقابل. وقد أنشأ القباني مسرحه الخاص بالعتبة الخضراء في القاهرة، واستمر لسبعة عشر عاما، يكتب ويمثل ويلحن ويغني، فانضم إليه سلامة حجازي الذي أخذ ريادة المسرح المصري الغنائي عنه، وكامل الخلعي الذي كتب عن أبي خليل في كتابه الموسيقي الشرقي:
(شهد له فطاحل الملحنين بما له من بديع التلاحين الدقيقة، وأناشيد الطرب الرقيقة (...) ما التمثيل فحدث عنه كما تشاء، فقد بلغ فيه أستاذنا من الإجادة ما فوق الإرادة، يجسم الوهم ويقربه للفهم، ُيلبس المجاز بالحقيقة، وما تكلف بل أملته عليه السليقة). وانضم إلى مسرح القباني أيضا عبده الحامولي الذي كان يقدم فواصله الغنائية بين المشاهد أو بعد انتهاء الرواية في صيغة جديدة أدخلها أبو خليل على المسرح.
الخوف من المرحلة العثمانية!
وبالعودة إلى بدايات الاهتمام بمشروع المسلسل التلفزيوني عن أبي خليل القباني، يذكر المخرج مأمون البني، أن هناك نصاً تلفزيونيا كتب مادته القصصية المؤرخ الموسيقي محمود عجان بالاشتراك مع سلمان حرفوش... وقام بإعداد السيناريو والحوار له: حسن عويتي وعلي الشريف... وقد قام التلفزيون بشراء النص منذ عام 1998.. وبعد أن تم الانتهاء من قراءة وتدقيق النص ووضع الملاحظات عليه مراراً، بدأنا بالتحضير له وكان مأمولا إنتاجه عام 2000.
وبعد مضي عشرة أعوام يوضح المخرج مأمون البني الأسباب التي حالت دون إنتاجه، والتي كان أبرزها صدور توجيه في عهد وزير الإعلام الأسبق عدنان عمران، بعدم التطرق للمرحلة العثمانية بشكل سلبي في المسلسلات السورية، لئلا يسيء ذلك لعلاقاتنا مع تركيا... وقد ظل هذا التوجيه معمولا به بشكل أو بآخر، وحول هذه النقطة يرى المخرج مأمون البني:
(توقف العمل بالمشروع سابقاً لأنهم اعتبروا أنه يتكلم عن مرحلة الاحتلال العثماني.. وقد حاولنا جاهدين أن نوضح أن هذه المرحلة التي امتدت قرابة الأربعمئة سنة تحت الحكم العثماني، لم يكن ينظر الناس لها كاحتلال، بل كانت أدبيات المرحلة تتعامل معها كامتداد لدولة الخلافة الدينية.. وبالتالي فأي صراع أو حراك يمكن أن ينشأ في ظل هذه المرحلة، هو صراع مع سلطة قائمة، وليس مقاومة لاحتلال.. ناهيك عن أن الإمبراطورية التي نتحدث عنها (الإمبراطورية العثمانية) لم تعد موجودة... فتركيا أتاتورك... وتركيا الجمهورية العلمانية ليست هي الدولة العثمانية نفسها... وأساساً لا يمكن للدراما أن تستغني عن التاريخ، بل إن جزءا من مهامها هي تقديم هذا التاريخ للأجيال القادمة... وإذا كان علينا ألا نتطرق للمرحلة العثمانية التي دامت أربعة قرون كي لا نسيء لعلاقتنا مع الأتراك... وألا نتطرق لمرحلة الانتداب الفرنسي التي دامت ربع قرن كي لا نسيء لعلاقاتنا مع الفرنسيين، ثم نتجنب جزءا من تاريخ سورية المعاصر بسبب بعض الحساسيات التي تثيرها العهود السابقة فعن أي شيء نتحدث.. وماذا سنقول لأولادنا عن تاريخ بلادهم الذي يسألون عنه، والذي يمكن أن تقدمه الدراما لهم بطريقة فنية تضيء علاماته وتحولاته في الوجدان؟!)
ذرائع التكلفة الإنتاجية!
وبعيدا عن هذه الحساسيات الرقابية.. جرت محاولات أخرى لإحياء مشروع هذا المسلسل في التلفزيون السوري.. لكن الحجة الجديدة التي برزت هي أن هذا العمل (مكلف إنتاجياً) وعن هذه النقطة يقول المخرج مأمون البني:
(قالوا لي في مرحلة سابقة إن العمل يحتاج ميزانية ضخمة وأنا لا أنفي ذلك.. فالعمل فيه (70) موشحاً، وثقها المؤرخ الموسيقي محمود عجان بالكلمة والنوطة ويجب أن تسجل في الأستوديو وتعزف بعازفين محترفين وتغنى.. وبالتالي فهو يكاد يكون مسلسلين لا مسلسلا واحدا.. لكن عندما يكون في تاريخنا شخصية عبقرية فذة مثل شخصية أبي خليل القباني، فيجب أن تصرف الميزانيات الكبرى، ويجب أن ندفع جميعاً باتجاه إنتاج هذا العمل عن هذا الرائد... والتلفزيون السوري ليس عاجزاً لو توفرت الإرادة الصادقة)
وقد لاح في الأفق مؤخراً أن هذه الإرادة الصادقة قد توفرت فعلاً... ففي مهرجان القاهرة الأخير للإعلام، قرر المخرج مأمون البني أن يستغل الفرصة لإعادة طرح إنتاج مسلسل (أبو خليل القباني) بصيغة الإنتاج المشترك بين مصر وسورية، يقول:
(وجدت أن مصر معنية بتراث أبي خليل القباني أيضاً... فقد ذهب إلى مصر وهو في الثامنة والأربعين من عمره تقريباً، ولاقى حفاوة كبيرة فنياً ورسميا واجتماعياً لأنه أحدث ثورة في شكل الغناء والمسرح هناك... وقد عرضت الفكرة على الأستاذ سيد حلمي مدير عام مدينة الإنتاج الإعلامي فوافق على الفور في المشاركة بإنتاج العمل مع التلفزيون السوري... وانتظر إرسال النص للإطلاع عليه، ثم بدء الخطوات الإجرائية لمتابعة الإنتاج... وقد نقلت الفكرة إلى مديرية الإنتاج في التلفزيون السوري التي أبدت ترحيبها بل وحماسها لإنتاج المسلسل بشكل منفرد إذا تلكأ المصريون في المشاركة.. ثم مضت الأيام، دون أن يحرك التلفزيون السوري ساكناً، وعلى العكس... فوجئت بأن هناك مشروعاً مماثلا سيتم إنتاجه لصالح القطاع الخاص!)
تجميد أم تمرير؟!
ويطرح المخرج مأمون البني سؤالا على هامش ما حدث:
(ماذا سيكون مصير نص المسلسل الذي اشتراه التلفزيون السوري بعد أن يظهر مسلسلا مماثلا من إنتاج القطاع الخاص؟! وأنا أستغرب بالأساس عندما يكون لدى التلفزيون نصاً بهذه الأهمية عن شخصية وطنية سورية كبيرة.. كيف يطوى هذا المشروع ويُعطل، من أجل تمرير فرصة إنتاج مشروع مماثل في القطاع الخاص... لطالما قال المسؤولون في التلفزيون إنهم يبحثون عن المشاريع الدرامية الهامة من أجل النهوض بالإنتاج الدرامي في التلفزيون السوري.. فمن المسؤول عندما يُخرج هذا المشروع عنوة من بين أيدي التلفزيون من أجل أن يظهر بتوقيع القطاع الخاص؟!).
محمد منصور
المصدر: القدس العربي
إضافة تعليق جديد