أدونيس: بلد واحد «أنظمة» كثيرة
-1- يتحدث المفكّرون في العالم الغربيّ عن «النهايات»: نهاية الإنسان، نهاية التاريخ، نهاية العقل، نهاية الأخلاق، نهاية الدّين، نهاية الحبّ... الخ. هذا دليل أزمة، لا شك. غير ان الخبرة التاريخية توضح لنا ان هذه الأزمة كمثل سابقاتها. أزمة حيوية، لا ركود. أزمة تنفس، لا اختناق.
عندنا نحن العرب، لا نتحدّث إلا عن «البدايات»: الشعر ابتدأ عندنا، وهذا الشاعر أو ذاك هو «البادئ» الأول. الدّين ابتدأ عندنا، وهذا الدّين أو ذلك، هو «الأول». الفكر ابتدأ عندنا، وهذا المفكّر، لا غيره، هو السّبّاق. الحضارة ابتدأت عندنا، وهي «امٌّ» لجميع الحضارات... إلخ.
هناك في الغرب تاريخٌ يُدرس، ويُمحّص، ويُعاد النظر فيه باستمرار. تغيّراتٌ تحدث، أو يُعملُ على حدوثها. هناك نهاياتٌ لبدايات، واستئنافات في أفقٍ آخر، تُفيد، غالباً، من البدايات. هناك زمنٌ يتحرّك هبوطاً أو صعوداً. هناك ولادة وفتوّة ونضج، شيخوخة وموت.
هنا، عندنا، فتوّة دائمة. لا تغيّر، لا شيخوخة. إذاً، لا زمن، بل أبديّة. ودائماً نبدأ. كلما «جاءت أمّةٌ لعنتْ أمّةً – أختها». بحجّة أنها انحرفت عن البداية الأولى. أو لم «تبدأ»، كما كان ينبغي. ينشأ حزبٌ، يموت. ينشأ مكانه حزبٌ آخر يماثله. الفرق في أسماء «القادة»، لا غير. القوميّة «قوميّات». الناصريّة «ناصريات». الشيوعية «شيوعيات». أما الأشكالُ فأشخاصٌ يتابعون أشخاصاً. هكذا الى ما «لا نهاية».
لا نعترف بأية نهاية للعقل أو للتاريخ أو للإنسان، بالمعنى الفلسفيّ في الغرب. على العكس، لا نعترف إلا بما بدأه أسلافُنا. لا مكان عندنا للنهاية. النهاية، عندنا، رمزٌ للعدم والعبثية. وليس عندنا إلا الوجود الكامل، والحقائق الأخيرة.
من أين لنا، إذاً، ان نشعر بأية أزمة؟ علماً أنه ليس لدينا شيء غير مأزوم. لا في عوالمنا الداخلية وحدها، وإنما كذلك في عوالمنا الخارجية.
حتى تلك «الأزمات» التي نلهو بها، على المستوى السياسي المباشر، لا يراها معظمنا نتيجةً لأوضاعنا الداخلية. يرون، على العكس، أن أسبابها آتية من خارج، من الاستعمار وأهله. وفي أساس نشوئها ابتعاد القادة السياسيين عن اقتفاء خطوات أسلافهم وبداياتهم.
كل شيء، عندنا، يبدو سهلاً. الى درجة أنّ معظمنا يقول: عندما يزول الاستعمار، ويزول أنصاره والمتواطئون معه، تولد الحلول كلها، لمشكلاتنا كلها. ونعود هكذا الى «عصرنا الذهبي». علاجٌ ترياقيّ يبشّر به معظمنا، منذ حوالى عشرة قرون. لكن، دون شفاءٍ من الداء. على العكس، يزداد الداء تعقيداً.
نكرّر بداياتنا، فنتكرَّر نحن. ندورُ على أنفسنا. وإذا شبّ صراعٌ مع أنفسنا، فليس ذلك من أجل ان نتغيّر أو نتحرّك، بل، على العكس، من أجل ان يقول كلٌّ منا للآخر: درْ مثلي. ولا تكون المسألة مسألةَ تضادّ فكري أو طبقيّ أو حياتيّ، بل مسأة «أخوّة». إذاً، دُرْ مثلي، وإلا أخطأتَ، أيها «الأخ» وشططت. وقد لا يعصمك الشّطَطُ من ان «أقتلك» أيّها «الأخ»، ولو كنت «أخاً في الدين».
-2-
قلت التّضادّ. فهذا عند غيرنا في الغرب (الذي نحبّه بقدر ما نكرهه، أو نكرهه بقدر ما نحبّه) كان محرّك الثقافة، ومدارَ الحضارة. ليو شتراوس، المفكر الألمانيّ – الأميركي، يجسّد هذا التضادّ في التّجاذب بين قطبين، - مكانين: أثينا والقدس. أي بين قطبين – زمانين: الأبديّة والتّاريخ. الوحي والعَقل. الأزليّة الإلهيّة، والزمنيّة الطبيعيّة. (أقول هذا للتمثيل والتوضيح، لا لمناقشته، خصوصاً أنني لا أرى هذا الرأي، وان مناقشته تخرجنا الى سياق آخر).
لا تضادّ عندنا في ايّة حال. لا نعترف بأطرافٍ بيننا، كلٌّ منها يمتلك شيئاً من الحقيقة. نحن أوحديون، أحاديون. وإذا كان لدينا اتصالٌ فهو «انفصاليّ»، أو انفصال فهو «اتصاليّ». «البدايةُ» هي وحدها القاعدة والمعيار. وكلٌّ منا يدّعي انه «البداية» الأصليّة، حتى ولو كان «الخاتمة». نهبط في أفكارنا وأعمالنا هبوط الوحي على الأرض وفي المكان، على الطبيعة وأشيائها. لا خبرة يأخذها اللاّحق من السابق. لا تاريخ يتراكم، ويُفكَّك، ويعاد النظر فيه. لم يمت عبدالناصر. وصدام حسين لا يزال القائدّ الملهم. وقاتل الحسين لا يزال يعيش بيننا. وكلّ منا يجلس على كرسيّ الحقّ. كمثل دجاجةٍ تجلس على عرش بيضها. البيض الذي يصفه كلّ منا بأنّه لا بَيْضَ غيره، طبعاً. ولا نقبل، إذا قبلنا، إلا بالآخرين الذين يوافقوننا. ونحن، جميعاً، أخوةٌ، طبعاً. ونحن جميعاً دينٌ واحد، وإلهنا واحد، طبعاً. ونحن جميعاً ننحدر من أب واحدٍ، طبعاً. وأبوناً جميعاً هو ابراهيم، طبعاً.
-3-
«... وأنتم أيها الشعراء والكتّاب والمفكّرون، لماذا لا تتحدثون إلاّ عن الأزمة»؟ يسأل هؤلاء «الأخوة». ثم يتابعون قائلين: «إن كانت هناك أزمة فهي أنتم. إنها فيكم. في ابتعادكم، خصوصاً، عن أسلافكم وبداياتهم».
«... اقرأوا معلمكم أفلاطون. سوف ترون ان الكهف الذي تحدّث عنه، ليس شيئاً آخر غيركم. أنتم الظلاّم. والنّور الذي يحرّركم ويضيئكم، إنما هو في البدايات. أخرجوا من أنفسكم وتعالوا الى مَهْد البدايات، حيث تتوحّد السّماء والأرض. أو بالأصحّ، تتوحّد الأرض بقيادة السّماء. كلاّ، ليست هناك أزمة، إلاّ بكم وفيكم».
-4-
من لبنان، يُتاح لهؤلاء «المتّهمين» أن يدافعوا عن أنفسهم، ناقلين الكرة الى الميدان الأساس الذي تتأسّس فيه وعليه تلك البدايات. يقول بعضهم، بصوتٍ منخفضٍ، تواضعاً:
«حسناً، نسلّم جدلاً أنّ الأزمة غير موجودة، وأنّ علاجها بسيطٌ وسهلٌ كما تقولون. أنّ الوحيَ الذي تصدرون عنه، وتبنون عليه، هو فوق العقل الذي نصدر عنه، ونبني عليه. أوضحوا لنا، إذاً، هنا في لبنان، كيف تحلّون التضادَّ أنتم، في ما بينكم، باسم الوحي نفسه؟ وهو تضادٌّ لا يقتصر على عالم الوحي، وإنما يتجلّى كذلك في الحياة العمليّة في بلدكم، لبنان، الذي تصفونه دائماً بأنه «واحد»، «موحّد»؟ تضادٌّ في أعمق ما يرتبط بحقوق الإنسان وحرّياته. في الشّرع نفسه الذي يُمليه الوحي نفسه، أو تستمدّونه منه. كيف تحلّونه؟ فالوحي نفسه الذي تقولون إنّه يوحّدكم، نظرياً أو مبدئياً، يفرّقكم عمليّاً في الشّرع الذي يُمليه. لا يفرّقكم وحدكم، أفراداً أو طوائف، وإنّما يشقّ الوحيَ نفسه. وتبعاً لذلك، ينشقّ المكانُ، البلدُ الواحد الذي «يوحّدكم» هو ايضاً، كما تقولون. تصبح عقولكم وقلوبكم في مكان، وخطواتكم وأعمالكم في مكان. يتجزّأ كلٌّ منكم داخلَ نفسه. تُعلنون، نظريّاً، أنكم «وحدةٌ» في بلدٍ «واحد»، لكنكم تبرهنون، عمليّاً، أنكم تنتمون الى «أنظمة» متعددة في هذا البلد المُفرَد. وفي هذا تبطلون قيامَ الدولة الواحدة في هذا البلد الواحد. ولعلّكم تعرفون ان مهمّة الدولة، جوهرياً، هي السهرُ على الحرية وعلى أن يكون مواطنوها أحراراً. لكنكم تُبطلون هذه المهمة بفعل الشرع الذي تؤمنون به، وتقيمون، باسْم الوحي، «انظمتكم» الخاصّة، شرْعاً وسياسةً يقتضيها هذا الشّرع. وبدلاً من أن ينصرفَ كلٌّ منكم الى التأمّل والتعمّق في وحيه الخاص، من اجل إغنائه فكريّاً وإنسانياً، ينصرف، على العكس، الى السّهر على تطبيق شرعه، وبناء السياسة على هذا الشّرع. تتحولون، عملياً، الى رجال سياسة في ثياب لاهوتية، أو إلى لاهوتيين، في ثياب سياسيين. وتخلقون حرباً لا مخرجَ منها، حرباً من نوع خاصّ، تتصارعُ فيها «الثياب» فيما تتعانق «الأرواح». تمارسون «تبويس اللحى»، (وما أعمق هذه العبارة في الدلالة والإشارة، العبارة التي ابتكرها الشعب، تعبيراً عن عدم رضاه عنكم)، فيما يهدم كلٌّ منكم الجسور الحياتية الحقيقية التي تصل الإنسان بالآخر. هكذا تبطلون أو تعطّلون سلطة الدولة الواحدة، وشرعتَها المدنيّة الواحدة، دون تفريق أو تمييز بين مواطن وآخر. اللاهوت السياسيّ، وهذا ما تعرفونه، أيضاً، كمثل السياسة اللاّهوتية جدارٌ عازل: لا يكتفي بأن يفصل الإنسان عن مدينته، عن بلده، وإنما يفصله كذلك عن نفسه. خصوصاً انه يقوم، جوهرياً، على التقليد والمحافظة، بينما لا يجد الإنسان معنىً لحياته وفكره، إلاّ في التغيّر والتجدّد. ولا يعود له تاريخ. ينقلب الى مجرّد اسْم، مجرد رقم. يتحول الى شيء يتراكم بين الأشياء. والمشكل الأكثر تعقيداً هو انه ليس عندنا في لبنان، هذا البلد «الواحد»، لاهوتٌ سياسي واحد، وإنما عندنا أكثر من لاهوت. وبما ان اللاهوت السياسي يستند الى سلطة الوحي، فإن لدينا سلطات دينية متعددة في هذا البلد «الواحد». وهكذا ندخل في صراع بين وحي ووحي، وبين سلطة دينية، وسلطةٍ دينية غيرها. يصبح عندنا سماوات واسعة كثيرة تجثم على صدر أرضٍ صغيرةٍ واحدة. وفي هذا ما يتناقض جذرياً مع السّلطة السياسيّة المدنيّة الواحدة للبلد الواحد. السّلطة التي تقوم على الحرّية والمعرفة. على التجربة، خصوصاً، أي على العقل، وعلى الصواب والخطأ. فهو متحوّل ونسبي. وذلك بعيدٌ البعد كله عن مطلقاتكم ويقينيّاتكم. هكذا تعملون بلاهوتكم السياسي على جعل هذا البلد، وهو هنا لبنان، يعيش في صورة لا معنى لها، أو معنىً لا صورة له. بل تعملون كذلك على جعل لبنان يبدو كأنه يعيش خارج لبنان».
(...)
- هذا اللاّهوت هو، إذاً، ما يجب تغييره؟
- لا أقول بتغيير اللاهوت في ذاته. هذا غير ممكن. فلا يمكن تغيير الماضي. يمكن تمثّلهُ، والانعطافُ عنه في اتجاه آخر. دون ذلك، سيظلّ بتداخله وتشابكه مع السياسي والفكري والاجتماعي آلةً من نوعٍ آخر تبتلعُ الإنسانَ بوصفه ذاتاً. لا يعود للإنسان وجودٌ حرٌّ، ومستقلّ. لا يعود موجوداً في ذاته: «كلّ موجود في ذاته فذاته لَهُ، وكلّ موجودٍ في آلةٍ فذاتُه لغيره»، يقول الفارابي.
أليـــس في هذا ما يشكّل، موضوعيّاً، أوّليةَ الآليّ، وثانويّة الإنســـانيّ؟ أليس فيه ما يتيح لنا ان نتحدّث نحن العرب، ايضاً، عن نهاية الإنسان؟
أدونيس
المصدر: الحياة
إضافة تعليق جديد